الأموال
الجمعة، 3 مايو 2024 10:22 صـ
  • hdb
24 شوال 1445
3 مايو 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : الصهيونية.. بين الخرافات وحقائق التاريخ (٧ – ٨)

د. محمد فراج
د. محمد فراج

إذا كان الفلسطينيون رفضوا بيع أراضيهم للمنظمات الصهيونية، وعلى رأسها الوكالة اليهودية كما أوضحنا فى مقالنا السابق (الأموال - ٧ أبريل) فإن سلطات الانتداب البريطانية قد بذلت كل ما بوسعها من جهد لتمكين تلك المنظمات من الاستيلاء على أراضى الدولة والأراضى غير المستغلة وأراضى الملاك غير الفلسطينيين من رعايا الدولة العثمانية السابقين (أتراك - لبنانيين - عراقيين - مصريين.. إلخ) من ناحية ولجعل الوكالة اليهودية شريكًا فعليًّا لسلطات الانتداب فى إدارة فلسطين من ناحية أخرى.
وبدأ العمل المشترك بين الجانبين فى تنشيط الهجرة اليهودية من ناحية وتأسيس «أنوية» للدولة اليهودية المنشودة من ناحية أخرى، مثل «روابط المستعمرات» والقوات شبه النظامية للدفاع عن هذه المستعمرات والمزارع الحمائية والمؤسسات الصناعية والتجارية والمدارس والمستشفيات..إلخ.
وتم افتتاح الجامعة العبرية فى القدس عام ١٩٢٥ وعدد من المعاهد العلمية بعدها، ولاشك أن تأسيس جامعة بعد خمس سنوات فقط من الانتداب يشير إلى وجود خطة شاملة ومتكاملة لوضع أسس الدولة الصهيونية منذ اللحظة الأولى، واللافت للنظر أن السياسيين والمثقفين العرب لم يستشعروا الخطر الكبير فى مثل هذه الأنشطة حتى أن أحمد لطفى السيد «باشا» رئيس جامعة القاهرة والسياسى المصرى البارز كان من بين الحاضرين فى الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية!
والحقيقة أن الدول العربية المحيطة بفلسطين لم تدرك إلا متأخرا فداحة الخطر الذى تمثله الحركة الصهيونية، وكانت الحركات الوطنية فى تلك الدول مشغولة بمعاركها ضد الدول الاستعمارية التى تحتلها «مصر والعراق وسوريا ولبنان..وغيرها» وبمعارك النضال من أجل الاستقلال الوطنى لديها وكان الوعى القومى العربى لايزال جنينيًا ــ أو حتى منعدما ــ حتى أن سعد زغلول زعيم ثورة ١٩١٩ فى مصر كان يعتبر أن الدول العربية بمجموعة أصغاره!! وظل الوضع هكذا طوال العشرينيات وظل الشعب الفلسطينى وحيدا فى مواجهة أعدائه الأقوياء المنظمين جيدا والمسلحين بخطة استراتيجية طويلة المدى.. نعنى الاحتلال البريطانى والحركة الصهيونية العالمية.
انفجار الغضب
غير أن الغضب المتراكم لدى الفلسطينيين تفجر للمرة الأولى على نطاق واسع فيما عُرف بـ«هبة البراق» عام ١٩٢٩ نسبة إلى «حائط البراق» الجدار الغربى للمسجد الأقصى الذى يسميه اليهود «حائط المبكى». فحين شعر المستوطنون الصهاينة أنهم أصبحوا أقوياء بدرجة كافية حاولوا الاستيلاء على الحائط المقدس لدى المسلمين وتخصيصه للشعائر اليهودية!!
فتصدى لهم الفلسطينيون وجرت اشتباكات واسعة أسفرت عن استشهاد أكثر من (٢٠٠/ مائتى فلسطينى) وجرح أضعافهم وخسائر أكبر لدى الطرف الصهيونى.
وأصبحت «هبة البراق» - ١٩٢٩- بداية لنهوض جماهيرى فلسطينى واسع النطاق، كما لفت أنظار الفلسطينيين بقوة إلى أهمية الكفاح المسلح فى مواجهة الاستيطان، ولفتت أنظار الدول العربية المجاورة إلى خطورة الوضع فى فلسطين.
ثورة ١٩٣٦ حريق الغضب الفلسطينى
مع صعود الفاشية فى أوروبا «ألمانيا وإيطاليا» نشطت الحركة الصهيونية بصورة أكبر فى تهجير اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، وأدى هذا إلى تصاعد غضب الشعب الفلسطينى ومقاومته وصولًا إلى اندلاع «الثورة العربية الكبرى ١٩٣٦ - ١٩٣٩» التى كانت بمثابة انفجار شعبى شامل فى الأرض المقدسة، ترافقت معه عمليات كفاح مسلح واسعة ضد المستوطنات والمصالح الصهيونية. وهى الثورة التى واجهتها سلطات الانتداب البريطانية بعملية قمع واسعة النطاق وشديدة القسوة.
وبلغ اتساع نطاق الثورة وضراوتها أنه سقط خلال أعوامها الثلاثة (سبعة آلاف شهيد) من سكان البلاد البالغ عددهم (مليون نسمة تقريباً) وبمقياس التناسب فإن هذا العدد يعادل (سبعين ألفاً) من شعب تعداده مائة مليون نسمة!! وهى أرقام مفزعة بالتأكيد، تذكرنا بحرب الإبادة الجارية فى غزة هذه الأيام.
كما بلغ عدد المعتقلين من بين أبناء الشعب الفلسطينى أثناء الثورة أكثر من (خمسين ألفا) وهو ما يعادل اعتقال (خمسمائة ألف) من بين شعب تعداده عشرة ملايين و«خمسة ملايين» من شعب تعداده «مائة مليون»!!
وتم تدمير أكثر من ألفى منزل من بيوت الفدائيين الفلسطينيين وأسرهم وهو التقليد الهمجى الذى تحافظ عليه السلطات الصهيونية حتى الآن، كما تم نفى آلاف المناضلين الفلسطينيين خارج البلاد أثناء «ثورة ١٩٣٦ - ١٩٣٩» وكان ضبط قطعة سلاح لدى أى فلسطينى سببًا كافيًا لاعتقاله لمدة طويلة، أو نفيه خارج البلاد.
وهذه الأرقام المفزعة موجودة فى تقارير دولية وبريطانية عن فلسطين فى تلك الفترة، وهى تقدم ردا أكثر من كاف على الخرافات التى تروّج لها الحركة الصهيونية حول تخلى الفلسطنيين عن أرضهم ووطنهم.
طوفان الهجرة
مثلت الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ - ١٩٤٥) انعطافة أخرى كبيرة فى تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتوسيع النشاط الاستيطانى الصهيونى بصورة مطردة، حتى بلغ عدد المهاجرين الصهاينة فى فلسطين حوالى (ستمائة وخمسين ألفا) عشية نكبة ١٩٤٨ لديهم اقتصاد متطوِّر كثيرا عن ذلك الذى كان يملكه الفلسطينيون، ولديهم فى المستوطنات صناعة تستطيع إنتاج المسدسات والبنادق والرشاشات وذخائرها، فضلا عما كان يتدفق عليهم من الخارج، ولديهم أيضا عشرات الآلاف من المقاتلين المنظمين بعد فى ميليشيات وقوات شبه نظامية، انضم إليهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية نحو (عشرين ألفا) من المقاتلين فى صفوف ما كان يعرف بـ«الفيلق اليهودى» الذين خاضوا الحرب ضد القوات البريطانية، كما أصبح فى حوزة العصابات الصهيونية أعداد كبيرة من الرشاشات الثقيلة والمدفعية والسيارات وآليات النقل العادية والمدرعة.. إلخ، وهو ما كان الفدائيون الفلسطينيون يفتقدونه تمامًا، حيث لم تكن لديهم إلا أسلحة خفيفة قليلة العدد وكميات قليلة من الذخيرة، فضلًا عن قلة عددهم وسوء تنظيمهم بسبب المطاردة العنيفة المنظمة من جانب سلطات الانتداب «البريطانية» علمًا بأن المنظمات الصهيونية كانت تحصل على دعم مالى سخى من أموال التبرعات اليهودية فى الغرب وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت قد خرجت من الحرب العالمية الثانية وهى تتزعم المعسكر الاستعمارى الغربى بعد أن أزاحت بريطانيا عن صدارته، والتى كان قد تجمع فيها أكبر عدد من يهود العالم نتيجة لحركة الهجرة إليها وأصبح بها «لوبى يهودى» شديد القوة، يقدم الدعم السياسى والإعلامى والمالى للحركة الاستيطانية الصهيونية فى فلسطين.
قرار التقسيم
وسط هذه الظروف التعليمية والدولية القاسية المحيطة بالشعب الفلسطينى، كانت قد نضجت الشروط الملائمة لإقامة الدولة الصهيونية وصدر قرار التقسيم عن الأمم المتحدة فى ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧ (القرار رقم ١٨١ لعام ١٩٤٧) الذى يقضى بإنهاء الانتداب البريطانى على فلسطين وتقسيم البلاد بين المنظمات الصهيونية (بنسبة ٥٥٪) والشعب الفلسطينى بنسبة ٤٤٪ على أن تبقى نسبة ١٪ منطقة دولية تضم القدس وبيت لحم وضواحيهما، وذلك علما بأن المنظمات الصهيونية لم تكن تسيطر فى ذلك الوقت على أكثر من ٦٪ من مساحة البلاد!! وصاحبت قرار التقسيم خريطة توضح مناطق سيطرة الطرفين «المفترضة» تمنح بمقتضاها للحركة الصهيونية الأراضى الخصبة وفيرة المياه وأهم المناطق الساحلية والموانئ، بينما يحصل الفلسطينيون على المناطق الأقل خصوبة وحظًا من المياه وأغلب المساحة المقررة لهم تقع فى صحراء النقب «الخريطة موجودة على جوجل برفقة القرار ١٨١ - ومصحوبة بوصف تفصيلى للمناطق المخصصة لكل طرف ويمكن الرجوع إليها بسهولة».
وكان طبيعيا أن توافق الحركة الصهيونية فورا على هذا القرار وأن تبدأ فى الاستعداد لإعلان قيام دولتها! كما كان طبيعيا أيضا أن يعلن الفلسطينيون «والدول العربية» رفضهم لهذا القرار الظالم، الذى ينتزع الجزء الأكبر والأهم من وطن الشعب الفلسطينى دون أى سند من القانون أو الشرعية، ويمنحه لمغتصبين غرباء ويقضى على كيان سياسى قائم «دولة فلسطين» وهو أمر يخرج تماما عن صلاحية الأمم المتحدة أو أى منظمة دولية.
وهنا يجب أن نتوقف مليا أمام قرار التقسيم، الذى لاتزال جهات استعمارية وصهيونية ـ ومؤخرا جهات عربية! - تثير ضجة حول رفض الفلسطينيين والعرب له، باعتباره «إهدارًا للفرصة التاريخية»!! زاعمة بأن الفلسطينيين لو كانوا قد وافقوا عليه لكانت قد أصبحت لديهم دولتهم!! وكأن الشعوب يتعين عليها أن توافق على التفريط فى أوطانها بهذه البساطة بناء على قرارات تصدرها هذه المنظمة الدولية أو تلك! وكأن الدول العربية كانت عليها الموافقة على انتزاع جزء من الجسد العربى هكذا بكل سهولة، ودون حتى القيام بمحاولة لحماية هذا الجزء.
هنا تبرز نقطتان بالغتا الأهمية:
الأولى: أن الفارق شاسع بين التفريط فى الحقوق التاريخية الشرعية لأى شعب «دون حتى خوض معركة» من أجل الدفاع عن هذه الحقوق، وبين خوض هذه المعركة حتى لو انتهت بالهزيمة.
الثانية: وهى أنه حتى لو كان الفلسطينيون ـ فرضا - قد وافقوا على قرار التقسيم فإن هذا لم يكن ليحافظ على حقوقهم بدون قوة عربية جدية «تقاتل» من أجل حماية هذه الحقوق، وما حدث فعليا هو أن العصابات الصهيونية المدعومة من جانب بريطانيا وأمريكا لم تحترم قرار التقسيم الذى أعلنت موافقتها عليه، بل شنت الهجمات فى كل اتجاه للاستيلاء على مناطق خارج حدود قرار التقسيم سواء فى الجليل أو فى المنطقة الساحلية «الاستيلاء على يافا والمناطق المحيطة بها» أو فى النقب وصولا للاستيلاء على قرية «أم الرشراش» العربية والمناطق المحيطة بها لإقامة ميناء إيلات الذى أصبح منفذا بحريا للدولة الصهيونية على البحر الأحمر، وارتكبت القوات الصهيونية قبل إعلان الدولة وبعده مذابح ضد السكان الفلسطينيين لطردهم من المناطق التى رأت مصلحة لها فى الاستيلاء عليها، بغض النظر عن قرار التقسيم، أى أن المسألة تكمن فى القوة المسلحة المنظمة القادرة على حماية الأرض، وليست فى الاعتراف بقرار التقسيم والتفريط فى شرعية الحقوق الوطنية بدعوى «عدم التفريط فى الفرصة التاريخية».
والحقيقة أن لوم الفلسطينيين والعرب بأثر رجعى على «إهدار الفرصة التاريخية» هو دفاع بأثر رجعى عن العجز والتفريط والخيانة، وبتعبير أكثر اختصارا فإن الخطأ لم يكن فى رفض قرار التقسيم، وإنما فى عدم الاستعداد العربى بجدية للحرب التى كانت نذرها تقرع الأبواب.
وللحديث بقية..
الأسبوع القادم: المقال الأخير: النكبة وخرافة «هزيمة سبعة جيوش عربية»

مصر للطيران
د. محمد فراج الصهيونية.. بين الخرافات حقائق التاريخ
بنك الاسكان
NBE