الأموال
الأحد، 28 أبريل 2024 05:57 صـ
  • hdb
19 شوال 1445
28 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : الصهيونية.. بين الخرافات وحقائق التاريخ (٤)

د.محمد فراج ابو النور
د.محمد فراج ابو النور


ذكرنا فى مقالنا السابق (الأموال ــ ١٠ مارس) أنه حينما تم تدمير مملكة الخزر فى القرن العاشر الميلادى فإن سكانها تشتتوا فى البلدان المجاورة وبديهى أنهم لم يكونوا استثناء من المناخ العام المتسم بالتعصب الشديد والعدوانية تجاه «الآخرين» من «الغرباء» وأبناء الأقليات الدينية والعرقية، بل وأتباع المذاهب المختلفة من معتنقى نفس الديانات في مجتمعات القرون القديمة والوسطى.
وأشرنا إلى اعتبارين إضافيين مهمين فيما يتعلق باليهود فى أوروبا سواء فى غرب القارة، حيث كان يسود المذهب الكاثوليكى أو فى شرقها، حيث كان يسود المذهب الأرثوذكسى في تلك القرون الوسطى.
أولهما أن الكنائس المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية علي السواء كانت تتهم اليهود بالمسئولية عن دم المسيح عليه السلام، أو «صلبه» وهو ما تعترف به الأدبيات الدينية اليهودية نفسها، وبالتالى فقد كان العداء لليهود «المعاصرين وقتها» أمرًا شائعًا.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن القرآن الكريم لا يعترف بصلب المسيح أساسًا: «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم» (النساء: آية ١٥٧).
الاعتبار الثانى: أن يهود «الخزر» الذين فقدوا بلادهم وتشتتوا في البلاد الأخرى لم يكن مسموحا لهم بتملك الأراضى الزراعية في البلدان التى انتقلوا إليها، وهى بلدان زراعية أساسا حسب مستوى التطور الاقتصادى في تلك الفترة التاريخية وأغلبها يسود فيها نمط الإنتاج الإقطاعى من الطراز الأوروبى، حيث لا يسمح «للغرباء» بتملك الأراضى الزراعية.
وبناءً على ذلك فقد كان الأمر الطبيعى هو أن يتجه الوافدون «الخزر» للاشتغال بالتجارة والحِرف اليدوية المختلفة والصيرفة أو الإقراض بالربا الذى لا تحرمه الديانة اليهودية، بينما تحرمه المسيحية السائدة في تلك المجتمعات. كما كان من المنطقى أن تتركز إقامتهم في المدن والموانئ، فى تجمعات منغلقة.
وكان هذا سببًا إضافيًا- علاوة على الأسباب الدينية- لأن تنظر إليهم المجتمعات التى يعيشون فيها نظرة عدائية باعتبارهم غرباء عابرون يحققون ثروات كبيرة من مصادر مكروهة، وفي الوقت نفسه فإن المجتمع يحتاج إليهم، وخاصة الملوك والأمراء الإقطاعيون الذين يحتاجون للمال لتجهيز الجيوش والحملات العسكرية، كما كان المجتمع يحتاج إلى دورهم التجارى والحِرفى.
علاقات معقدة
وهكذا نشأت علاقات معقدة بين الحاجة إلى الدور الاقتصادى الاجتماعى للجماعات اليهودية «الإقراض الربوى والتجارة والحِرف» من ناحية والعداء المقترن بالشروط المجمعة للإقراض الربوى وبتحقيق اليهود لثروات كبيرة من هذا الإقراض الربوى ومن التجارة بصورة أساسية
وتعبِّر مسرحية «تاجر البندقية» لكاتب الانجليز الأشهر وليم شكسبير (كتبها عام ١٥٩٨) بصورة نموذجية عن هذه العلاقة المعقدة بين اليهود والمجتمعات الأوروبية، مما أكسبها شهرة واسعة لاتزال مستمرة حتى الآن كإحدى أهم مسرحيات شكسبير، ويُكن النقاد اليهود عداء كبيرا لها ولكاتبها.
وتدور أحداث مسرحية «تاجر البندقية» حول إقراض التاجر اليهودى «شايلوك» مبلغا من المال بشرط غريب وغير إنسانى هو أنه إذا عجز المدين عن سداد دينه فى وقت محدد فإن من حق «شايلوك» أن يقطع رطلا من لحمه!! فلما عجز المدين عن السداد فى الموعد ذهب «شايلوك» إلى القاضى مطالبا برد الدين وفوقه «رطل اللحم» المتفق عليه من جسد المدين!! وبعيدا عن التفاصيل والحوار المسرحى فإن القاضى ـ بعد تفكير طويل ـ أقر بحق «شايلوك» فى تنفيذ الاتفاق، ولكن بشرط تعجيزى هو: ألا يسيل نقطة واحدة من دم المدين، وإلا تم إعدام المرابى لأن الاتفاق لا يشمل إسالة الدماء!! ولما كان من المستحيل قطع اللحم بدون إسالة الدماء، فإن «شايلوك» اضطر للتنازل عن مطلبه الشاذ وغير الإنسانى.
ومنذ كتب شكسبير مسرحيته الشهيرة في نهاية القرن السادس عشر حتى الآن لايزال اسم «شايلوك» عنوانا على الشروط الربوية القاسية إلى درجة الشذوذ، والجشع غير المحدود المقترن بالرغبة في إيذاء المدين وإذلاله.
اليهودى الكاره لذاته!
الفيلسوف الألمانى الكبير كارل ماركس ـ المولود لعائلة يهودية ـ كتب بالتفصيل عن علاقة التجمعات اليهودية بالمال والتجارة «وبالمال بالذات» وجذور هذه العلاقة في الثقافة اليهودية، وانعكاسات الدور الربوى لليهود فى المجتمعات الأوروبية على العلاقات المتبادلة بينهم وبين مجتمعاتهم، وذلك في كتاب صغير الحجم لكنه كبير الأهمية حمل عنوان «فى المسألة اليهودية» ووجه ماركس في كتابه هذا نقدا شديد الحِدة لليهود والوضع الذى يحتله المال فى ثقافتهم تاريخيا، واصفا إياهم بأنهم «يعبدون المال» ومستنتجا أن «المال هو الإله الحقيقى لليهود»، لينتهى إلى أن كل هذه الأوضاع السابق الإشارة إليها تؤدى إلى موقف سلبى من جانب المجتمعات الأوروبية تجاه اليهود وأن هذا هو السبب الأصلى لظهور ما يُسمى «بالمسألة اليهودية» وأن الحل الناصع لهذه المشكلة «الحل الثوري/ أو الديمقراطى» يكمن فى الاندماج اليهودى فى المجتمعات التي يعيشون فيها وتخليهم عن نزعاتهم الانعزالية والأنانية وقبول المجتمعات لهم كمواطنين ينخرطون فى العمل المشترك من أجل تقدم مجتمعاتهم، وعموما فإن هذا الكتاب يستحق أن يُقرأ.
ولو أن مفكرا آخر ليس من أصل يهودى كماركس طرح مثل هذه الأفكار لكانت تهمة «العداء للسامية» قد لاحقته إلى أبد الآبدين!!
لكن زعماء اليهود التقليديين وزعماء الحرك الصهيونية بعد ظهورها لا يستطيعون وصف المفكرين من أصل يهودى بأنهم «معادون للسامية» لذلك اخترعوا لهم وصفا خاصا هو «اليهودى الكاره لذاته» أو لقومه»!! وهو الوصف الذى يطلقونه على أى شخص ذى أصل يهودى يعبِّر عن مثل هذه المواقف أو يعارض الحركة الصهيونية - بعد ظهورها - أو السياسة الإجرامية للكيان الصهيونى بعد تأسيسه.
وبالمناسبة فإن هؤلاء غير قليلين ومن أشهرهم في زماننا المفكر اليهودى الأميركى التقدمى «ناعوم تشومسكى» وغيره كثيرون وكل هؤلاء تصفهم الحركة الصهيونية بأنهم «يهود كارهون لأنفسهم»!!
اليهود بين شرق أوروبا وغربها
حينما انهارت دولة الخزر اليهودية وتشتت سكانها فقد ذهبت جماعات منهم إلى بلدان غرب أوروبا والشرق الأوسط، كما أسلفنا القول لكن الأعداد الأكبر منهم اتجهت إلى بلدان شرق أوروبا الحالية «روسيا، أوكرانيا، وبيلاروسيا وبولندا وبلغاريا ورومانيا وغيرها» باعتبارها الأقرب إلى موطنهم الأصلى، وكانت روسيا فى ذلك الوقت دولة متوسطة الحجم تضم الأجزاء الشمالية والشرقية من أوكرانيا الحالية والأجزاء الغربية من روسيا الحالية بشكل أساسى، ولا يتسع المقام هنا للحديث عن توسع الدولة الروسية ومراحله المختلفة حتى تأسيس «روسيا القيصرية» أو «الإمبراطورية الروسية» فى عهد بطرس الأكبر فى (١٦٧٢ - ١٧٢٥) الذى خاض حروبًا طويلة مع العثمانيين في الجنوب، باتجاه شمالى البحر الأسود وشبه جزيرة القرم ومع السويديين فى الشمال حيث انتزع لروسيا موطئ قدم على بحر البلطيق واستولى على بولندا ودون الدخول فى التفاصيل يمكن القول إن يهود الخزر وجدوا أنفسهم تدريجيًا «أو فلنقل الجزء الأكبر منهم» رعايا للإمبراطورية القيصرية الروسية، منذ بداية القرن الثامن عشر فصاعدا، وهذا هو ما جعل روسيا القيصرية وبلدان أوروبا الشرقية المجاورة لها أكبر تجمع لليهود منذ ذلك الوقت، وهذا هو ما جعل من تلك المنطقة «خزانا للهجرة اليهودية» إلى فلسطين، حينما تمكنت العصابات الصهيونية من الاستيلاء عليها، ثم جاءت من هذه المنطقة موجة الهجرة الكبيرة فى السبعينيات والثمانينيات تحت ضغوط أمريكية وغربية كبيرة «أكثر من مليون مهاجر بينهم غير يهود أتوا بصحبة زوجاتهم أو أزواجهن».
واشتغل عدد لا بأس به من اليهود والخزر بالأنشطة السابق الإشارة إليها من صيرفة وإقراض ربوى وتجارة.. إلخ، لكن ضخامة العدد لم تسمح للأغلبية طبعا بممارسة هذه المهن، فاشتغلت أعداد كبيرة منهم بحرف متواضعة «إسكافى، خياط، حداد..إلخ» ومع ظهور الصناعة التحقت أعداد منهم بالعمل فى المصانع، وهذه معلومة هامة حيث سيكون لها أثرها فيما بعد فى مستقبل الكيان الصهيونى، كما التحقت أعداد منهم بالمدارس والجامعات في القرن التاسع عشر.
وبشكل عام فقد كانت هذه الأوضاع معقولة إذا ما قورنت بأوضاع الأغلبية العظمى من الروس الفلاحين الفقراء أو الأقنان «أشباه العبيد» لكنها كانت أسوأ بصورة ملحوظة من أوضاع اليهود فى غرب أوروبا، التى أصبحت أكثر ثراءً بكثير مع الكشوف الجغرافية وغزو الأمريكتين، ثم مع حلول الثورة الصناعية.
وشهدت روسيا القيصرية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر بدء انتشار الحركة الديمقراطية الثورية والاشتراكية المعادية للقيصرية بتأثير من التطورات فى أوروبا، وانخرطت أعداد من هؤلاء العمال والحرفيين الصغار اليهود فى هذه الحركات، وهو ما أوغر صدر الأمن القيصرى ضد هؤلاء بالطبع ضمن حملات القمع الموجهة ضد المعارضة الروسية والثورية عموما.
ومن ناحية أخرى فقد لجأ البوليس السياسى القيصرى إلي تحريض الغوغاء المأجورين ضد التجمعات اليهودية مستغلا اعتبارات ثراء المرابين والتجار من بينهم لتأجيج المشاعر الدينية ضدهم ليحقق من وراء ذلك هدفا إضافيا مهما هو شق صفوف الحركة العمالية والمعارضة على أساس دينى.
واستفادت الحركة الصهونية- الوليدة وقتها- من هذه السياسة الأمنية القيصرية في تحقيق شعبية بين اليهود الروس وبينهم فقراء كثيرون فنظمت أعدادًا منهم ودفعتهم للهجرة إلى فلسطين، حيث مثلوا أولى موجات الهجرة اليهودية إليها فى باديات القرن العشرين.
الوعد الإلهى.. أم وعد بلفور؟!
كما أن أبرز الزعماء المؤسسين للكيان الصهيونى قد جاءوا من أراضي روسيا القيصرية السابقة «وهى أوسع من حدود الاتحاد السوفيتى» بن جوريون جاء من بولندا ومناحم بيجن جاء من روسيا البيضاء، وشيمون بيريز من بولندا، وجولدا مائير من أوكرانيا.
وكل هؤلاء من الخزر الذين لا تربطهم أى رابطة باليهود القدماء «بني إسرائيل» ولا بالسامية من قريب أو بعيد، بل إن «بن جوريون» وبيريز وجولدا مائير ملحدون، وكذلك تيودور هيرتزل مؤسس المؤتمر اليهودى العالمى (١٨٩٧)! وبغض النظر عن إيمان هؤلاء أم إلحادهم فإن ما جاء بهم إلى فلسطين ليس «الوعد الإلهى» المزعوم بل وعد بلفور وزير الخارجية البريطانى للزعيم الصهيونى حاييم وايزمان والملياردير روتشيلد.
أما بخصوص ما تردده الحركة الصهيونية عن الاضطهاد التاريخى لليهود ومعاداة السامية فلابد أن يكون واضحا أننا كمثقفين وإعلاميين عرب نرفض أى ظلم أو اضطهاد يلحق بفرد أو بمجموعة من الناس سواء كان ذلك على أساس دينى أو عرقى أو قومى، لكننا وبنفس الحزم نرفض التركيز على معاناة أى مجموعة أو أقلية، مع تجاهل معاناة المجموعات أو الأقليات الأخرى، لأن هذا تمييز أنانى ذميم، والأصل أن الناس جميعا متساوون في إنسانيتهم وحرمة أرواحهم ودمائهم، ومعروف أن التاريخ الأوروبى شهد تلالا من الجماجم وأنهارًا من دماء كل شعوب القارة بلا استثناء بل والشعوب المجاورة من عرب وأفارقة.
والأمر الأهم من كل شىء هو أنه بفرض صحة كل الروايات الصهيونية - جدلا - فليس من حقها أن تتخذ من معاناة اليهود سببا لاغتصاب أرض فلسطين وقتل أهلها وشن حرب إبادة ضد شعبها.
وللحديث بقية..

مصر للطيران
الصهيونية. الخرافات .حقائق التاريخ (٤)
بنك الاسكان
NBE