الأموال
الجمعة، 26 أبريل 2024 07:30 صـ
  • hdb
17 شوال 1445
26 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : تجريف الأراضى الزراعية.. جريمة فى حق الوطن

الأموال

مواقف وتصرفات بعض المسئولين وجهات الإدارة فى بلادنا تستعصى على الفهم أحيانا.. وإلاّ فكيف يمكن مثلا تفسير احتشاد الدولة على أعلى مستوياتها لاستصلاح الأراضى الصحراوية وإنفاق عشرات المليارات على مشروعات مثل المليون ونصف المليون فدان وغيرها، ثم قيام بعض المحافظين أو وزارة الإسكان بتبوير مئات الأفدنة من الأراضى الزراعية الأكثر خصوبة في العالم؟! وكيف يستقيم أن تكون سياسة الدولة المعلنة هى منع البناء على الأراضى الزراعية وفرض العقوبات الصارمة على المخالفات، وصولا إلى هدم المبانى المخالفة ومحاكمة المخالفين لأنهم بنوا مساكن لأسرهم على قيراط أو قيراطين من الأرض ثم تجىء بعض المحافظات أو وزارة الإسكان لتنتهك هذه السياسة الرسمية المعلنة وتحوّل مئات الأفدنة من أكثر الأراضى خصوبة إلى استثمار عقارى؟؟!!

>> للأسف الشديد تم خلال الأسابيع الأخيرة اتخاذ قرارات بتبوير أراض تبلغ مساحتها أكثر من ٤٨٠ فدانا من أجود الأراضى الزراعية تحت دعوى تخصيصها لإقامة مناطق للإسكان الاجتماعى!! وتتوزع هذه الأراضى على الوجه التالى:

١ - محطة بهتيم للبحوث الزراعية بالقرب من شبرا الخيمة «محافظة القليوبية» ومساحتها ٣٨٠ فدانا.

٢ - محطة كفر حمام للبحوث الزراعية بمحافظة الشرقية ومساحتها ٣٦ فدانا

٣ - محطة بحوث الدواجن بالإسكندرية ومساحتها ١٢ فدانا.

٤ - وأخيرا مزرعة كلية الزراعة بجامعة المنوفية ومساحتها ٥٥ فدانا وتقع بقرية الراهب، على مساحة حوالى ٥ كيلو مترات من مدينة شبين الكوم عاصمة المحافظة.. ومعروف أن هذه المنطقة فى الدلتا من أجود الأراضى وأكثرها خصوبة فى مصر، وتضم المزرعة أيضا عنبرا بحثيا لتربية الماشية ومحلباً نموذجيا وقاعات دراسية ومنشآت أخرى.

ولتنفيذ القرار المذكور اتخذت محافظة المنوفية قرارا بتعويض كلية الزراعة بمساحة تخصص لإقامة مزرعة بديلة فى منطقة بمدينة السادات الواقعة على طريق مصر - إسكندرية الصحراوى، ومعروف أن أرضها شبه الصحراوية لا يمكن مقارنتها بأرض الدلتا الخصبة.

>> وليس مفهومًا لماذا لم تتجه المحافظة لإقامة مشروعها هناك بدلا من تدمير المزرعة؟؟!! ومن ناحية أخرى فإن هناك أراضي أقل جودة بكثير ـ وغير بعيدة عن عاصمة المحافظة ــ بالقرب من مدينة قويسنا ومنطقة قويسنا الصناعية (قرية عرب الرمل واسمها نفسه يدل على مستوى جودة الأرض فيها).

ومن ناحية أخرى فإن قرار المحافظة معناه تدمير البنية التحتية الزراعية والبحثية فى المزرعة الحالية، والتى تطورت على مدى عشرات السنين، وبديهى أنه سيكون مطلوبا إنفاق موارد طائلة لإقامة بنية تحتية جديدة في المزرعة البديلة.. بالإضافة إلى مشكلة طبيعة الأرض الجديدة ومدى صلاحيتها للزراعة والعمل البحثى.. وهما أمران لا تقوم بدونهما قائمة لأى كلية زراعة.. تماما كما لا يمكننا تخيل وجود للطب بدون مستشفى أو كلية للعلوم أو الصيدلة بدون معامل!!

>> لهذا كان طبيعيًا أن يثير القرار المشار إليه احتجاج مجلس كلية الزراعة بجامعة المنوفية، وأن يتوجه المجلس للمحافظة مطالبًا بإلغاء القرار المذكور والبحث عن مكان آخر لإقامة مشروع الإسكان الاجتماعى بالمحافظة. غير أن محافظة المنوفية تجاهلت احتجاج الأساتذة الأجلاء.

إعلام فى غيبوبة

والمؤسف أن الاهتمام الإعلامى ضئيل للغاية بهذه الكارثة، التى لا تُطال مزرعة كلية الزراعة بجامعة المنوفية وحدها، وإنما تمتد إلى محطة بهتيم للبحوث الزراعية (٣٨٠ فدانا) ومحطة كفر حمام (٣٦ فدانا) ومركز بحوث الدواجن بالاسكندرية (١٢ فدانا) كما أشرنا في بداية مقالنا، وكان الإعلامى محمد علي خير قد أثار القضية فى برنامجه «المصرى أفندى» على قناة «القاهرة والناس»، ٢٧ فبراير.. كما كانت «بوابة الوفد الإخبارية» قد أشارت منذ نحو عام إلى قضية متشابهة تخص محطة البحوث الزراعية بمدينة الخارجة (محافظة الوادى الجديد).. وتبلغ مساحتها ٩٠ فدانا.. غير أننا لا نجد متابعة لهذه القضية بالغة الأهمية فى الإعلام.. وبالتالى فإننا لا نستطيع أن نحدّد هل تم تدمير المساحات المذكورة بالفعل، أم أنها لاتزال في مرحلة يمكن فيها إنقاذها؟

>> ووسط هذا الصمت الإعلامى الغريب على كارثة تحل بالزراعة وقطاع البحوث الزراعية فإننى أجد من الضرورى توجيه التحية إلى الزميلة والكاتبة الصحفية الكبيرة هالة العيسوى على مقالها بجريدة «الأخبار» ـ الأربعاء ١٧ من مارس ــ الذى تناولت فيه القضية وأشارت بصورة موسعة إلى مقال كنت قد كتبته عن الموضوع على صفحتى على «الفيس بوك» ولا شك أن تناول الموضوع على صفحات صحيفة قومية كبرى جدير بلفت نظر الرأى العام والمسئولية إلى هذه القضية الوطنية الخطيرة.. لذا وجب الشكر والتحية للزميلة المحترمة ولكل من يهتم بالموضوع.

البحث العلمى وتطوير الزراعة

ما يلفت للنظر بصورة مضاعفة فى هذه الجريمة فى حق الزراعة المصرية، هو أن حالات تدمير الأرض الزراعية تستهدف «مزارع بحثية».. فى حين يعرف القاصى والدانى أن البحث العلمى هو شرط حاسم لتطوير الزراعة والإنتاج الحيوانى «شأن كل قطاعات الاقتصاد وكل أوجه نشاط أى مجتمع».. وأن بلادنا تواجه فجوة غذائية كبيرة، والتوسع الأفقى باستصلاح الأراضى الصحراوية مكلفة للغاية.. فضلا عن مشكلة المياه المتفاقمة.. وبالتالى فإن التوسع الرأسى بتحسين السلالات النباتية والحيوانية وتطوير أساليب الإنتاج والرى والتسميد ومكافحة الآفات.. إلخ.. بما يؤدى إلى تطوير «الإنتاجية» وتحسين نوعيتها وفى هذا كله يستحيل تحقيق التقدم.. أو حتى الحفاظ على مستوى الإنتاجية الحالى.. بدون البحث العلمى وبالتالى فإن تدمير «مزرعة بحثية» هو جريمة مضاعفة.. بمعنى تبوير مساحتها، ثم الإضرار بعملية البحث العلمى فى المجال الزراعى على المستوى القومى كله.. وبديهى أن إنشاء «مزرعة بحثية» جديدة بما تحتاجه من بنية تحتية علمية وبحثية، مسألة لا تتم بين عشية وضحاها، خاصة أن ميزانيات مراكز البحوث الزراعية «التابعة لوزارة الزراعة» وكليات الزراعة فى الجامعات «وزارة التعليم العالى عموما» هي من التواضع بحيث يصعب عليها تدبير أمورها، فما بالك بإقامة مزارع بحثية جديدة!!

التجارة فى الخسارة!!

وبهذا المنطق العجيب والمتناقض فإننا بدلا من الحفاظ على الأراضى الزراعية الخصبة، نحوّلها إلى جدران أسمنتية.. ثم ننفق موارد طائلة على استصلاح الأراضى الصحراوية!! والأسوأ من ذلك أننا نحرم قطاع البحث العلمى فى المجال الزراعى من قاعدته ومجال عمله لفترات تطول أو تقصر، ريثما يتم إقامة مزارع جديدة أو لا يتم، بما لذلك من تأثير سلبى فادح على الإنتاج الزراعى، ومن ثم مضاعفة الفجوة الغذائية، وزيادة الحاجة إلى الاستيراد وبما يعنيه ذلك من مفاقمة الاعتماد على الخارج، واحتياج لمزيد من العملة الصعبة.. فضلا عن أن قطاع الصادرات الزراعية الذى شهد تطورا كبيرا فى الفترة الماضية «نتيجة لجهود البحث العلمى بزيادة الإنتاجية» سيتأثر مستواه سلبا نتيجة لهذا الاستثمار غير المفهوم بقطاع البحث العلمى فى الزراعة.

والكارثة أن كل هذا يحدث من أجل مشروعات سكنية، يمكن ـ وينبغى ــ الاجتهاد لإيجاد حلول أخرى لها، لا تضر بالاقتصاد القومى لكن المسئولين المحليين لا يبذلون جهدا للتوصل إلى هذه الحلول.. ويستسهلون اللجوء إلى تبوير الأراضى وتدمير المزارع البحثية وربما يكون مبررهم أن هذه الأراضى والمزارع مملوكة للدولة.. ولن يقتضى الأمر اللجوء إلى إجراءات لنزع الملكية بما تمثله من تكلفة ولكن الحقيقة أن هذه التكلفة سينفقها ملاك أو مستأجرو الشقق، في نهاية الأمر لأن الدولة لن تقدم الأراضى مجانا فى جميع الأحوال.. والنتيجة كلها «تجارة فى الخسارة» نتيجة تفكير عقيم لا علاقة له بعلم الاقتصاد.

العداء للون الأخضر

وإذا كان الأمر كذلك فيما يتصل بأراض منتجة ومنشآت البحث العلمى فإننا نستطيع أن نقيم «دون أن نقرَّ على الإطلاق» ذلك الاستخفاف المذهل وعديم الصلة بالحضارة والتحضر الذى تتعامل به سلطات الإدارة المحلية فى عديد من المحافظات مع الحدائق والمساحات الخضراء.. فهي تدمرها بلا تردد من أجل بناء الجدران الأسمنتية، وسواء كانت ذات أهمية حيوية أم لا.. وهو الأمر الذى يحرم مدننا من «الرئات» الضرورية للتنفس والهواء النظيف.. علمًا بأن كل شجرة يقطعونها تنتج الأُكسجين وتمتص ثانى أُكسيد الكربون، وتقلل بدرجة أو بأخرى من التلوث الناتج عن عوادم السيارات والأنشطة الصناعية.. كما يجد الناس في هذه الحدائق والمساحات الخضراء متنفسًا للنزهة أو الترويح عن أنفسهم، لكن الإدارات المحلية لا تبالى بهذا كله.. ولا تتردد فى تدمير الحدائق والمساحات الخضراء لتقيم مكانها جدرانًا أسمنتية قبيحة.. علمًا بأن المساحات الخضراء فى مدننا هى أقل بكثير من المعدلات العالمية.. بل ويصل الأمر إلى القضاء على حدائق ذات طابع أثرى وأشجار معمرة رائعة، كما يحدث فى المنصورة مثلا هذه الأيام «حديقة شجرة الدر» وغيرها.. أما شواطئ النيل والبحار فحدث عنها ولا حرج.

وقد يبدو هذا الموضوع بعيدا عن موضوع الأراضى الزراعية والمزارع البحثية.. ولكن هذا يبدو فقط للنظرة السطحية.. لأن التقدم الإنتاجى والعلمى لا ينفصل عن التحضر والإحساس بالجمال والانسجام المعمارى، ورفض التدمير المجانى غير الرشيد.. وجودة الحياة للإنسان المصرى، فاللون الأخضر هو لون الحياة يا سادة.. سواء كان فى حقل أو حديقة.

من فضلكم أيها الإعلاميون.. والنواب.. وقادة الرأى والفكر.. والمسئولون.. أوقفوا هذه الجرائم..

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE