الأموال
الأربعاء، 24 أبريل 2024 06:39 مـ
  • hdb
15 شوال 1445
24 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : عبور الفجوة الغذائية.. ضرورة قصوى للأمن القومى

الأموال


عالم ما بعد كورونا: صراعات تجارية وأزمات غذائية يجب الاستعداد لها
الأمن الغذائى ضرورة لاستقلال الإرادة الوطنية.. ولا حرية لمن لا يملك خبز يومه
الاقتصاد الإنتاجى والاكتفاء الذاتى.. حبل النجاة وسط أعاصير العلاقات الدولية


العالم مُقبل على أزمة كبيرة فى إمدادات الحاصلات الزراعية والسلع الغذائية بسبب وباء كورونا.. فالدمار الذي أصاب الاقتصاد العالمى بسبب تفشى الوباء، كان من الطبيعى أن تمتد آثاره إلى الإنتاج الزراعى، (والإنتاج الحيوانى جزء أساسى منه).. وإلى قطاع النقل البحرى، بسبب حظر السفر بين أغلب بلدان العالم، أو فرض قيود شديدة عليه، مما تسبب في إرباك شديد لإمدادات السلع الزراعية والغذائية، فاقم منها حظر عدد كبير من البلدان لتصدير الحبوب والمنتجات الزراعية والحيوانية لفترات مختلفة، لتضمن توفير احتياجات شعوبها ووجود احتياطيات كافية لمواجهة ظروف تفشى الوباء.
وأدت هذه التطورات إلى انتشار مخاوف واسعة من حدوث اختلالات كبيرة في إمدادات السلع الغذائية ـ والتي بدأت بوادرها بالفعل ـ وإلى تحذيرات متكررة من جانب الخبراء بهذا الشأن.. وإلى بروز توجهات لدى أغلب الدول نحو ضرورة تحقيق أكبر قدر ممكن من (الاكتفاء الذاتى) فى مجال الإنتاج الزراعى (والحيوانى) لتجنب شعوبها مخاطر مواجهة أوضاع تقف بها على حافة المجاعة، خاصة أن كارثة كورونا يمكن أن تمتد لشهور طويلة، أو حتى لسنوات، حسب تقديرات الخبراء.. وبديهى أن تداعياتها سوف تمتد لفترات أطول.
الفجوة الغذائية فى مصر
ومعروف أن مصر من الدول التي تعانى من وجود فجوة كبيرة بين إنتاجها واستهلاكها في عدد من المحاصيل الزراعية والسلع الغذائية بالغة الأهمية (كالقمح والذرة والفول والعدس واللحوم الحمراء وزيوت الطعام.. وغيرها) بينما نجحت في تحقيق الاكتفاء الذاتى وفائض للتصدير فى إنتاج الخضروات والفواكه والموالح، والاكتفاء الذاتى في إنتاج الألبان والبيض، بينما تقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتى فى إنتاج الأرز والأسماك والدواجن.. حسب أرقام تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء (جريدة الفجر ـ ٢٧ أبريل ٢٠٢٠ ـ ومواقع وصحف أخرى).
لذلك كان صحيحًا تمامًا قرار رئيس الوزراء بحظر تصدير البقوليات والحبوب لمدة ثلاثة أشهر، من المرجح أن يتم مدها، لتوفير احتياجات البلاد من هذه السلع في ظل ارتباكات الأسواق العالمية الناتجة عن تفشي كورونا.. وبشكل عام يجب القول إن المستهلكين المصريين لم يشعروا بنقص في احتياجاتهم من السلع الأساسية، بغض النظر عن استغلال كثير من التجار لظروف الوباء ونقص الرقابة ليرفعوا أسعار بعض السلع الغذائية بالذات دون مبرر.
ويشير تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء المذكور آنفًا إلى أن مصر تغطى احتياجاتها من الأرز - من الإنتاج المحلى - بنسبة ٩٠٫٧٪ ومن الدواجن بنسبة ٩٤٫٣٪ ومن الأسماك الطازجة بنسبة ٤٩٫٥٪ ومن البيض والألبان بالكامل ١٠٠٫٢٪ مع ضرورة ملاحظة أن استهلاك المصريين للدواجن والأسماك والألبان والبيض أقل بكثير من المعدلات العالمية، وكذلك من اللحوم الحمراء، التى سنتوقف أمامها مطولاً، لأن استهلاك المصريين منها قليل بصورة تؤثر سلبًا بشدة على جودة غذائهم.
أما بالنسبة لعدد من أهم المحاصيل الزراعية فيشير تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن نسبة الاكتفاء الذاتى من إنتاج القمح تبلغ ٣٤٫٧٪ فقط، أى أكثر بقليل من الثلث، بينما يغطى إنتاج الذرة الصفراء (علف للدواجن أساسًا) والبيضاء معًا حوالى ٥٠٪ من حاجة السوق.. ويذكر عزت عزيز عضو شعبة الحاصلات الزراعية والبقوليات بغرفة تجارة القاهرة أن احتياجات البلاد من الذرة الصفراء تبلغ ٨ ملايين طن سنويًا (المنتج منها ٢ مليون طن فقط)، ونستورد الباقى (أى ٦ ملايين طن) بنسبة ٧٥٪ من احتياجاتنا من الذرة الصفراء!! (جريدة البورصة ـ ٢٨ أكتوبر ٢٠١٩).
أما فول التدميس (وجبة الإفطار الرئيسية بالنسبة لأغلب المصريين والطبق الرئيسى هو ومشتقاته في أغلب الوجبات بالنسبة للفقراء المدقعين) فإن إنتاج البلاد منه لا يغطى سوى ١٢٫٥٪ تقريبًا من حاجة الأسواق. بينما يغطى إنتاج العدس ١٪ فقط من الاستهلاك!! وتستورد مصر ٩٩٪ من احتياجاتها من العدس من بلاد مثل تركيا وكندا، بتكلفة تبلغ نحو ٢١٠ ملايين دولار، إذ نستهلك ٣٠٠ ألف طن من العدس سنويا.. ويبلغ سعره في السوق العالمية نحو ٧٠٠ دولار للطن!!
ولولا أن الأرقام المذكورة واردة في تقرير لجهاز رسمى رفيع في الدولة المصرية، لكانت عصيَّة علي التصديق، وخاصة فيما يتصل بحجم تغطية إنتاجنا الضئيل من الفول «والمنعدم تقريبًا من العدس» لاحتياجات السوق.
استراتيجية للمواجهة
فى هذا السياق تبرز أهمية الاجتماع الذى عقده الرئيس السيسي مع كبار المسئولين عن قطاعات الزراعة والإنتاج الحيوانى والرى يوم الثلاثاء ١٢ مايو الجارى (صحف ١٣ مايو) والذى نوقشت فيه قضايا توسيع الرقعة الزراعية وضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الزراعية، ودعم مشروعات الإنتاج الحيوانى والسمكى والداجنى، وأشارت التقارير عن الاجتماع إلى تشديد الرئيس على أهمية السعى نحو تحقيق الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الزراعية وليس الحبوب فقط «باعتباره هدفا استراتيجيًا للدولة».
والحق أنه لابد أن يكون كذلك، فلا يمكن للدولة ـ أى دولة ـ أن تتحدث عن استقلال حقيقى إذا كانت عاجزة عن إطعام شعبها، وإذا لم تكن متحررة تمامًا من أى ضغوط خارجية فى هذا المجال بالغ الحساسية. وقد رأينا كيف أدت السياسة الزراعية في عهد مبارك (ووزير زراعته يوسف والى) إلى تغليب زراعة محاصيل التصدير من زهور وفاكهة وغيرها على حساب المحاصيل الرئيسية المعروفة تاريخيًا في مصر، والمتصلة بطعام (وكساء) الشعب من قمح وأذرة وقطن وفول وعدس.. إلخ، كيف أدت هذه السياسة الفاشلة إلى تدمير الدرجة المعقولة التى كانت متحققة من الاكتفاء الذاتى فى المجال الغذائى.. ونقول «الدرجة المعقولة» وليس الكاملة بالطبع، خاصة أن القمح كان نقطة ضعف جوهرية على مدى عقود، خاصة مع التزايد المستمر في استهلاكه بحكم ارتفاع مستوى المعيشة بفضل برامج التصنيع وقوانين الإصلاح الزراعى بعد ثورة ١٩٥٢.
مواجهة "مجاعة اللحوم"
كما نوقشت في الاجتماع الرئاسى المشار إليه القضايا المتصلة بزيادة إنتاج اللحوم والدواجن والأسماك، ودعم منظومة تجميع وتصنيع الألبان علي مستوى الدولة، ورفع مستوى كفاءة الاستفادة منها لزيادة الإنتاجية والجودة.
وأبدى الرئيس اهتماما خاصًا بدعم المشروع القومى للبتلو وضرورة «مضاعفة حجمه وإنتاجيته، والتوسع في إشراك الجمعيات الأهلية في هذا الإطار، لما لها من شبكة تواصل فعالة مع صغار المربين على مستوى الجمهورية، وتقديم مشروع نموذجى لهم».
ويتسم «مشروع البتلو» بالذات بأهمية خاصة، نظراً لما هو معروف من وجود نقص حاد فى إنتاج واستهلاك اللحوم عمومًا، واللحوم الحمراء خصوصا في مصر، مقارنة بالأرقام العالمية وبالرغم من الاستيراد الواسع.
ومعروف أن المشروع كان قائمًا تحت إشراف وزارة الزراعة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، وكان له دور كبير في زيادة الإنتاج المحلي من اللحوم الحمراء والحد من استيرادها والسيطرة على أسعارها، وكان يُقدم للمستهلك نوعية جيدة من اللحوم البلدية الطازجة بسعر مناسب تمامًا، كما كان يتيح فرص العمل لعدد كبير من متوسطى وصغار الفلاحين والمربين.
لكن مافيا استيراد وتجارة اللحوم شنت حربًا ضارية على المشروع بدعوى أنه «لا يصح أن يكون للدولة علاقة بتربية العجول»!! مع أن دور الدولة كان يتحدد بإمداد المربين بالقروض اللازمة، والأعلاف وتقديم الرعاية البيطرية ورعاية أبحاث تحسين السلالات المنتجة للحم، وكلها أمور تدخل في صميم اختصاصات الدولة، ووزارة الزراعة ومراكز الأبحاث التابعة لها، وبنك التسليف الزراعى «وقتها».
وأخيرا نجحت «المافيا» في تصفية «مشروع البتلو» لتنفرد بسوق اللحوم في البلاد، مما أدى إلى انخفاض إنتاج اللحوم المحلية، وانخفاض نصيب الفرد منها، وإلي رفع أسعارها بصورة منفلتة، ثم نجحت «المافيا» فى فتح باب الاستيراد على مصراعيه، مع تقليص إجراءات الرعاية الصحية والبيطرية بشدة، لينتهى الأمر إلى ادخال لحوم مصابة بالأمراض، ومنتهية الصلاحية، أو فاسدة تمامًا، مع استمرار ارتفاع الأسعار بصورة غير معقولة، وبالتالي تقلص قدرة المواطنين على استهلاك اللحوم الجيدة «بل وحتى الرديئة»!
ويكفي أن نشير إلى أن استهلاك الفرد في مصر من اللحوم الحمراء المحلية والمستوردة ظل يهبط تدريجيًا منذ عام ١٩٩٦ ليصل إلى «١٠ كيلوجرامات.. نكرَّر.. عشرة كجم» سنويًا حسب الأرقام المقدرة لعام ٢٠٢٠!! حيث إن الأرقام المتوقعة لاستهلاك اللحوم الحمراء في مصر هذا العام (٢٠٢٠) تبلغ ١٫١ مليون طن ما بين محلي ومستورد (والأرقام مأخوذة عن دراسات أعدها باحثو جامعة أوكسفورد العريقة، على أساس بيانات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «الفاو».. وهى المصدر العمدة عالميًا فى هذا الصدد// انظر: موقع BBC باللغة العربية فى ٧ فبراير٢٠١٩// وجريدة «الشرق الأوسط» ٢٣ مارس ٢٠١٩).
ويبدو هزال استهلاك الفرد من اللحوم الحمراء (عشرة كيلوجرامات سنويا) إذا ما قورن بمتوسط الاستهلاك العالمى للفرد (٣٤٫٧كجم) سنويًا، أو بمتوسط الاستهلاك حتى فى العالم العربى (٢٥كجم) سنويًا.. أى أن الفرد المصرى يستهلك أقل من نصف استهلاك نظيره العربى، وأقل من ثلث الاستهلاك الوسطى للفرد في العالم!! (نفس المصدر السابق).
>> ويبدو هزال استهلاك المواطن المصرى أكثر إذا ما قُورن باستهلاك الفرد في بلاد مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا، والأرجنتين (أكثر من ١٠٠ ـ مائة كجم) سنويا.. أو فى أوروبا الغربية (حوالى ٩٠ كجم) سنويا، أو حتى في الصين (٦٠ كجم) من اللحوم الحمراء سنويا.
علمًا بأن مواطنى البلدان المذكورة لا يقتصرون طبعًا على استهلاك اللحوم الحمراء.. فهم يستهلكون إلى جانبها الدواجن والأسماك، بالإضافة طبعًا إلى الألبان والزبد والقشدة..إلخ، وبأكثر مما نستهلك نحن بكثير.
فهل نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إننا نعانى في مصر من «مجاعة لحوم حمراء» مقارنة بمعدلات الاستهلاك العالمية؟؟ علمًا بأنه معروف أن اللحوم الحمراء هى أكثر أنواع البروتينات شيوعًا وشعبية في العالم، فضلا عن ارتفاع قيمتها الغذائية، ولذلك فإن استهلاكها هو أحد المؤشرات الهامة لجودة الطعام ومستوى المعيشة.
ويجب القول إن تدخل الدولة (وجهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة) كان له دور هام في تخفيف حدة أزمة نقص اللحوم وارتفاع أسعارها، إلاّ أن الأزمة تظل أوسع نطاقًا مع تقديرنا للجهد المبذول، وتحتاج السوق إلى زيادة كبيرة جدًا فى الإنتاج (وخفض في الأسعار)، وبتعبير آخر فإنها تحتاج إلى طفرة حقيقية ـ وليس فى إنتاج اللحوم الحمراء وحدها ـ طفرة تنهى الفارق بين إنتاجنا واستهلاكنا (الإنتاج يغطى أقل من ٦٥٪ من الاستهلاك).. وتُغنينا عن الاستيراد الواسع ـ الذى تدخل فيه قمامة كبيرة من مختلف أسواق العالم ـ وتوفر لنا موارد العملة الصعبة، التى بلغت نحو ٤ مليارات دولار لاستيراد مختلف أنواع اللحوم الحمراء والبيضاء عام ٢٠١٩.
أهمية مشروع البتلو
من هنا كان إحياء «مشروع البتلو» العام الماضى باستثمارات قدرها ٣ مليارات جنيه خطوة مهمة فى الاتجاه الصحيح، ثم يجىء حديث رئيس الجمهورية عن مضاعفة حجم وإنتاجية المشروع، ليفتح الباب للأمل فى مضاعفة الاستثمارات على الأقل (لتصبح ٦ مليارات جنيه.. وربما أكثر) خصوصا مع تزايد إدراك الدولة لأهمية تغطية فجوة الأمن الغذائى، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتى، كخطوة مهمة لتحقيق الأمن القومى للبلاد.
كما أن الاتجاه للتوسع فى إشراك الجمعيات الأهلية وشبكة صغار المربين هو اتجاه جيد بالتأكيد، لأنه يتيح فرصة أكبر لتوسيع المشروع، وخلق فرص عمل أكثر لصغار الفلاحين ـ المربين.
< < <
وتتسم مثل هذه الخطوات نحو تحقيق الاكتفاء الذاتى وتضييق الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك فى المجال الزراعى (والإنتاج الحيوانى) بأهمية كبيرة جدًا بصورة خاصة فى ظل الارتباك الكبير الذى يسببه «كورونا» في الأسواق الدولية، وهو الارتباك الذى يمكن أن يتصاعد في ظل التوترات السياسية والتجارية المتوقعة في عالم ما بعد كورونا.. كما أن نجاح خطوات مثل هذه يمكن أن يمثل أساسًا أكثر متانة ورسوخًا لاقتصادنا على قاعدة إنتاجية أقوى، وهو ما يصدق بالقطع على كل خطوة نحو تطوير الإنتاج الصناعى في البلاد، فتطوير وتحديث الإنتاج الصناعى والزراعى هو الأساس الحقيقى لبناء اقتصاد قوى، ولنهضة مصر التي نرجوها.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE