الأموال
الجمعة، 26 أبريل 2024 03:49 صـ
  • hdb
17 شوال 1445
26 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

 د. محمد فراج يكتب :  أبعاد اقتصادية هامة.. للأزمة النووية الكورية

الأموال

مرة أخرى تتلبد أجواء العلاقات الدولية بسحب داكنة. وتقرع الولايات المتحدة طبول الحرب ضد كوريا الشمالية.. وهى حرب ــ إذا قدِّر لها أن تنشب ـ يمكن أن تكون حربًا نووية.. بل يمكن أن تتحول إلي حرب عالمية تحرق الكوكب كله..

دونالد ترامب، الباحث بصورة محمومة عن حرب يستعيد بها هيبة أمريكا وهيمنتها على العالم، يهدد كوريا الشمالية «النووية» بتطبيق «السيناريو الليبى» عليها.. ويهدد زعيمها كيم كونج أون بمصير القذافى إذا رفضت تسليم أسلحتها النووية والصاروخية والكيماوية والبيولوجية، وما لديها من مواد انشطارية إلى أمريكا بالذات!! كما يطلب منها تسليم كل ما لديها من وثائق تتعلق ببرنامجها النووى.. ومغادرة عشرة آلاف عالم وخبير نووى كورى شمالى للبلاد! والخضوع لتفتيش أمريكى (أو دولي بإشراف أمريكى) يستبيح كل شبر فيها على غرار ما حدث فى العراق في عهد صدام حسين.. وهو التفتيش الذى أسفر عن عدم وجود أى أسلحة للدمار الشامل ومع ذلك لم ينقذ العراق من الغزو والتدمير.

والغريب أن هذه التصريحات المتكررة علي لسان ترامب، ونائبه مايك بنس، ومستشاره للأمن القومى جون بولتون تجىء بعد أحداث بالغة الأهمية أشاعت أجواء من التفاؤل لدى المراقبين، فقد انعقدت فى 27 أبريل الماضى قمة ناجحة بين زعيمى الكوريتين (الشمالية والجنوبية) في قرية «بانمونجوم» على الحدود بين البلدين اتفقا فيها علي إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وعقد معاهدة سلام وعدم اعتداء بين البلدين، لتحل محل اتفاقية الهدنة الموجودة منذ انتهاء الحرب الكورية (1950 ــ 1953) وإقامة علاقات طبيعية وتعاون اقتصادى وثقافي ورياضى بينهما، وتكامل بين الخطوط الحديدية والطرق البرية في البلدين، وجمع شمل الأسر المتفرقة منذ تقسيم شبه الجزيرة، وغير ذلك من الخطوات التى ساعد على بناء سلام وطيد، يمكن أن يفتح الطريق لتحقيق الوحدة بينهما، أو بالأصح استعادتها. فقد كانت شبه الجزيرة دولة واحدة حتى الحرب العالمية الثانية (راجع نص «إعلان بان مون جوم» على المواقع الإلكترونية ونشرات وكالات الأنباء فى 27/ 4/ 2018)، كما أعلنت كوريا الشمالية عن وقف تجاربها النووية والصاروخية، وتدمير الموقع الأساسى للتجارب النووية لديها.

ومن ناحية أخرى فإن الاتصالات السرية التي أجراها وزير الخارجية الأمريكى «بومبيو» حينما كان لايزال رئيسا للمخابرات CIA مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، ونتائج قمة زعيمى الكوريتين قد أدت للاتفاق على عقد قمة بين ترامب وكيم في سنغافورة فى 12 يونيو القادم.

وإذًا فإن أصحاب الشأن ـ أى الكوريين الشماليين والجنوبيين ـ قد اتفقوا علي «إخلاء شبه الجزيرة من السلاح النووى».. أى تخلى كوريا الشمالية عن أسلحتها النووية، وإخلاء كوريا الجنوبية من الأسلحة النووية الأمريكية الموجودة فيها ــ والموجهة نحو الصين وروسيا ــ بدعوى حماية كوريا الجنوبية.

< < <

لكن السياسيين الأمريكيين، وعلي رأسهم ترامب، يواصلون الحديث عن تخلي كوريا الشمالية عن سلاحها النووى، دون أى إشارة لاتفاق الكوريتين علي إخلاء السلاح النووى الأمريكى أيضا من كوريا الجنوبية!! مع أن هذا «الإخلاء المتبادل» هو جوهر المشكلة.. وهو ما اتفق عليه الطرفان المعنيان وتوافق عليه روسيا والصين.

وهكذا أصبح واضحًا أن كوريا الشمالية وأمريكا تتحدثان بلغتين مختلفتين.. ولم تكتف واشنطن بهذا بل أخذت في تصعيد مطالبها وإضافة شروط جديدة كل يوم ـ على نحو ما ذكرنا في بداية مقالنا ـ الأمر الذى دفع بيونج يانج إلي إعلان أنه إذا استمرت أمريكا في اشتراط التنازلات من جانب واحد فإن «كيم» لن يحضر القمة مع ترامب.

< < <

ولسنا بحاجة إلى القول بأن الشروط الأمريكية تعنى بالنسبة لكوريا الشمالية «الاستسلام بدون قيد أو شرط».. كما لو أن هذا البلد قد تعرَّض لهزيمة ساحقة في الحرب!! وهو ما لم يحدث مع كوريا الشمالية طبعا.

> > ومفهوم أن كل مفاوضات يسبقها رفع لسقف المطالب من جانب مختلف الأطراف، أملا في الحصول علي أفضل نتيجة.. لكن ما تطلبه أمريكا من كوريا الشمالية هو نوع من «الانتحار المجانى» مقابل مجرد وعود أمريكية يسميها ترامب «ضمانات» من قبيل القول بأن «البلد سيكون غنيا جدًا».. و«سنشجع القطاع الخاص الأمريكى على الاستثمار في بلادكم»، بينما يعلم العالم كله مدى ضعف المصداقية التى تحملها ضمانات ووعود ترامب أو حتى انعدامها. فهو الذى انسحب بمجرد توليه السلطة من اتفاقية المناخ التى استغرق التوصل إليها سنوات طويلة من المفاوضات الشاقة، وأخيرا انسحب من الاتفاق النووى مع إيران ودول الـ(5 ـ 1).. الذى استغرق التوصل إليه هو الآخر سنوات طويلة من التفاوض الشاق في عهد الرئيس الأمريكى السابق أوباما.

فما الذى يحمل كوريا الشمالية على هذا الاستسلام دون قيد أو شرط لطرف لا يحترم التزاماته التعاقدية، بينما هى دولة لديها ترسانة نووية وصاروخية قادرة علي تدمير اليابان وكوريا الجنوبية بما فيهما من قواعد نووية وغير نووية أمريكية ولندع جانبًا مسألة امتلاكها لعدة صواريخ قادرة علي الوصول للأراضى الأمريكية.. فهذا ليس مضمونا في الحقيقة، والمبالغة في شأنه مقصودة من الجانبين لأغراض دعائية».. أى أن بلدين من أهم حلفاء أمريكا سيتعرضان لدمار كبير، بما فيهما من قواعد أمريكية «نووية» في حالة نشوب الحرب..

>> وبفرض أن الولايات المتحدة نجحت في توجيه ضربة شاملة خاطفة إلي الرءوس النووية الكورية الشمالية وصواريخها الاستراتيجية، فإن البلد مدجج بالسلاح التقليدى والكيماوى والبيولوجى، بما يتيح توجيه ضربات مدمرة إلى كل من كوريا الجنوبية واليابان، فما الذى يمنعها من ذلك في حالة توجيه ضربة أمريكية شاملة إليها.. وما الذى يتبقى لديها لتحرص عليه؟

علمًا بأن العاصمة الكورية الجنوبية «سيول» تقع على بُعد خمسين كيلو مترا من الحدود الكورية الشمالية، ويسكنها عشرة ملايين نسمة.. ويمكن أن تطالبها المدفعية بعيدة المدى والأسلحة التقليدية البسيطة، فضلا عن الصواريخ قصيرة المدى.

>> وإذا تم ضرب الرءوس النووية الكورية الشمالية فإن التلوث الإشعاعى الكبير الناشىء عن ذلك سيطال كوريا الجنوبية واليابان، ومعهما المنطقة المجاورة لكوريا الشمالية من الأراضى الصينية المزدحمة بالسكان.. فهل ستسمح الصين لأمريكا بممارسة هذه «العربدة النووية» علي حدودها ، ومما يطال مواطنيها بالضرر الفادح؟

>> الواقع أن إدراك هذه المخاطر الفادحة بالذات هو ــ فى اعتقادنا ــ ما دفع «سيول» للترحيب بمبدأ «إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووى».. أى أنه مادامت كوريا الشمالية مستعدة للتخلى عن «النووى» فلا معنى لوجوده في الجنوب.. لأن ذلك يحقق مصلحة أمريكية صرفة في مواجهة الصين وروسيا، ولا يهم «سيول» في شيء، بل إنه يجعل منها هدفا للضربات النووية الصينية والروسية في حالة نشوب الحرب.

ولاشك أن مع نقل مركز الثقل فى اهتمامات أمريكا الاستراتيجية إلى شرق آسيا ومواجهة الصين «باعتبار أن المنطقة أصبحت قاطرة النمو الاقتصادى العالمى» يزيد من مخاطر هذه المواجهة.. كما أن قيام أمريكا بنشر عناصر الدرع الصاروخية في كوريا الجنوبية واليابان، واستفحال التوجه الأمريكى لابتزاز الحلفاء في ظل حكم ترامب بدعوى أن عليهم أن (يدفعوا ثمن دفاعنا عنهم».. أصبح يمثل ضغطا على «سيول» لضرورة رفع موازنتها الدفاعية، وهو ما لا تريده بالتأكيد أى دولة راغبة فى تحقيق الرخاء لشعبها.

والواقع أن التحليل الموضوعى المتزن «وليس الأيديولوجى» يشير إلى أن حرص كوريا الشمالية على صنع السلاح النووى (ردا على نشر أمريكا «للنووى» في الجنوب) واستماتتها فى التمسك به، ثم تصعيدها فى مواجهة تهديدات ترامب.. كلها أمور تشير إلى الشعور بالضعف والرغبة فى امتلاك أداة للردع وركيزة تفاوضية لخوض المفاوضات علي أساس متكافئ مع الشقيقة الجنوبية الأقوى والأكثر تقدما، وليس إلى الرغبة في خوض الحروب.. ولننظر مثلا إلى مبادرتها الدبلوماسية الرياضية تجاه «سيول» أثناء الأوليمبياد الأخير، بينما كانت تتحدث مع واشنطن عن «الزر النووى»!!

>> وسواء كان الحديث يدور عن السلام تمهيدا لإعادة توحيد شبه الجزيرة أو عن سلام راسخ مستقر، فقد كان وضع كوريا الشمالية ضعيفا بدون امتلاكها لسلاح رادع، خصوصا في ظل تحالف الجنوب (القوى أصلا) مع أمريكا.. فسكان كوريا الشمالية (25 مليونا) أقل من نصف سكان شقيقتها الجنوبية (51 مليونا).. وناتجها المحلى الإجمالى (40 مليار دولار) مقابل (تريليون و411 مليار ــ 1411 مليارا للجنوب) أى أن الجنوب أكبر بـ37مرة) من حيث الناتج المحلى الإجمالى السنوى «إحصاء البنك الدولى لعام 2016» ونصيب الفرد فى الشمال من الناتج المحلى (1800 دولار) مقابل حوالى 30 ألف دولار سنويا للفرد في الجنوب.. وصحيح أن لدى «بيونج يانج» جيشًا قويًا، لكنه يكلفها 7.5 مليار دولار، أى قرابة 20٪ من الناتج المحلى.. بينما الجيش لدى «سيول» أقوى، ويكلفها 46 مليار دولار إلا أن هذه الموازنة العسكرية لا تزيد إلا قليلا على 3٪ من الناتج المحلى الإجمالى.. وبالتالى فإن أى حديث عن الوحدة (الحلم العزيز على قلب الشعبين) سيكون معناه المباشر هو (ابتلاع الجنوب للشمال) ولنخبته الحاكمة واقتصاده، فى ظل علاقات القوى الحالية.. اللهم إلا في ظل امتلاك رادع عسكرى قوى يسمح بحدوث نوع من الاندماج طويل المدى.. بشروط لائقة وغير مذلة.. وليس مجرد نوع من الإلحاق والإدماج العاصف.. ويضمن عقد معاهدة سلام دائم متكافئة وكريمة للطرف الشمالى فى حالة مجرد (تحقيق السلام) وحتى تتوافر شروط (الوحدة/ أو الاندماج) علي مدى أطول.

أما بالنسبة لكوريا الجنوبية فإن نموها الاقتصادى الهائل، مع تقدمها العلمى والتكنولوجى وقوتها العسكرية كلها أمور تجعلها أكثر ثقة بنفسها، وبقدرتها على النهوض بأعباء تحقيق الحلم التاريخى فى توحيد الأمة الكورية من جديد، نعنى تكاليف اندماج الشمال أو إدماجه فيها عبر مرحلة انتقالية من التعاون الاقتصادى المكثف (عبر نوع من «السيناريو الألمانى» مع الفوارق، وعبر زمن أطول» فبالرغم من التكلفة الباهظة لهذا السيناريو) إلا أن كوريا تكسب 25 مليونا من السكان ذوى تعليم لا بأس به.. و120 ألف كم2 من الأراضى (مساحتها الحالية 100 ألف كم2).. ومجالا خصبا لتصدير الاستثمارات الوفيرة لديها، والسلع بالطبع.. ولتصبح شبه الجزيرة الكورية دولة موحدة مساحتها 220 ألف كم2 وتعداد سكانها حوالى 80 مليون نسمة، وتعزز مكانتها أكثر كثالث قوة اقتصادية في شرق آسيا بعد الصين واليابان.

وبديهى أن «سيول» تعتبر نفسها أحق بأى فرص اقتصادية يمكن أن تتوافر فى شمال «الوطن» من رءوس الأموال الأمريكية.. كما أن أى أموال تنفقها لمساعدة كوريا الشمالية اقتصاديا، وتقريبها إلى «الشقيق الجنوبي الغنى» هو استثمار أفضل لها ألف مرة من الخضوع للابتزاز الأمريكى الفج الذى يمارسه ترامب مع حلفائه «ليدفعوا» مقابل ما يعتبره حماية أمريكية لهم من أخطار حقيقية أو وهمية.. وهى كلها أموال تنتهى إلى خزائن شركات السلاح الأمريكية.

لهذا كله رأينا كوريا الجنوبية تتفق مع كوريا الشمالية على «إعلان بان مونجوم» الذى لا ترضى عنه أمريكا، لأنه ينص بوضوح علي إخلاء قواعدها النووية من الجنوب الكورى.. كما رأينا «سيول» تتصرف بطريقة أكثر حكمة ولباقة واتزانا مع «بيونج يانج».. وهو ما كان دافعًا لكثير من المراقبين للثناء على الرئيس الجنوبى «مون جى إن» ووصفه بالحكمة والاتزان وإعلاء الروح الوطنية.

وعلي سبيل المثال فقد رأينا أنه فى ذروة هجوم ترامب ومساعديه علي كوريا الشمالية وتهديدهم لها فإن «سيول» قد استجابت لطلب بيونج يانج بمنع اشتراك قاذفات «بى ـ 52» الأمريكية الثقيلة في مناورات أمريكية ـ كوريا جنوبية مشتركة، باعتبار أن هذه القاذفات الاستراتيجية هى جزء من الغطاء النووى الأمريكى لكوريا الجنوبية، بعد أن كانت بيونج يانج قد ألغت اجتماعًا وزاريًا هامًا بين الطرفين «لإعلان بانمونجوم».. وعقد وزير الدفاع الكورى الجنوبي اجتماعًا عاجلا مع قائد القوات الأمريكية.. وفعلا لم تدخل «بى 52» المجال الجوى الكورى.

كما لاحظنا أن ترامب بعد اجتماعه بالرئيس الكورى الجنوبى (الثلاثاء 25 مايو) لم يقدم علي ترديد تهديداته العسكرية لكوريا الشمالية، وتحدث فقط عن احتمال تأجيل ـ وليس إلغاء ـ القمة المقررة مع الزعيم كيم جونج أون.. وكان واضحًا إدراكه لأن كوريا الجنوبية لا ترحب بطريقته المألوفة في إطلاق التهديدات، وأنه أخذ ذلك بعين الاعتبار، والواقع أن قدرة كوريا الجنوبية على الدفاع عن وجهة نظرها في تقديم مخرج لائق ومشرف لكوريا الشمالية لعقد تسوية يمكن أن تهدئ ـ بدرجة أو بأخرى ـ من الاندفاع الأمريكى المنفلت في قرع طبول الحرب.. ويكسب السلام في شرق آسيا والسلام العالمي عمومًا الكثير من تهدئة الاندفاع الأمريكى الهائج.. ويكفى أن نقول إن روسيا والصين موقفهما واضح من القضية. وهما قوتان نوويتان عظميان.. وهما تمتنعان عن المشاركة في المهاترات الأمريكية وتلتزمان الهدوء.. لكن من المؤكد أن موقفهما سيتغير إذا أقدمت أمريكا علي ممارسة «العربدة النووية» علي حدودهما.. لكن هذه قضية تحتاج إلى معالجة مشتعلة، قد تتاح لنا الفرصة للتطرق إليها لاحقا..

مصر للطيران
العلاقات الدولية الولايات المتحدة الحرب كوريا الشمالية
بنك الاسكان
NBE