الأموال
الإثنين، 6 مايو 2024 08:20 مـ
  • hdb
27 شوال 1445
6 مايو 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : عودة سوريا للجامعة العربية.. تصحيح لخطأ استراتيجي

د.محمد فراج ابو النور
د.محمد فراج ابو النور

إعادة الإعمار وإنهاض الاقتصاد ضمانة لنجاح التسوية

مطلوب "مشروع مارشال" عربى لإنهاء معاناة السوريين

عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية قرار طالَ انتظاره، وتصحيح لخطأ استراتيجى فادح وقع فى فترة ضبابية شديدة الارتباك فى التاريخ العربي الحديث (نوفمبر ٢٠١١)، حينما قررت الجامعة تعليق عضوية سوريا فيها، وعَمَدَ عدد من الدول العربية إلى مقاطعة دمشق وقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها، الأمر الذى أحدث ثغرة كبيرة فى منظومة الأمن القومى العربى، الذى تمثل سوريا واحدة من لبناته الأساسية، بحكم كونها البوابة الشمالية للمشرق العربى، وعام ٢٠١١ هو نفسه العام الذى شهد إطلاق الجامعة العربية يد الأمم المتحدة والدول الغربية الكبرى فى ليبيا.. وهو ما فتح الباب لعدوان «الناتو» عليها، والإطاحة بنظام الحكم فيها، وقتل رئيسها، وتمزيقها بصورة لاتزال مستمرة حتى الآن، الأمر الذى يُمثل حرجًا عربيًا داميًا، يتعين العمل بكل السبل على علاجه، وإعادة بناء الدولة الليبية الموحدة، وهو ما يمكن أن يستغرق أعوامًا غالية من عمر الشعب الليبى الشقيق.

قرار عودة سوريا الذى اتخذه اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى وزارة الخارجية بالقاهرة ( ٧ مايو الجارى) وهو ما فتح الباب لحضور سوريا القمة العربية القادمة في الرياض (١٩ مايو).. وتم بالفعل توجيه الدعوة للرئيس بشار الأسد لحضور القمة، تمهيدًا لاستئناف دمشق لدورها الهام فى منظومة العمل العربي المشترك.

وقد جاء القرار فى إطار توجه عربى عام لاتخاذ موقف مستقل من الاستقطابات الحادة التي تشهدها العلاقات الدولية فى مرحلة بلغ فيها الصراع بين القوي العظمى درجة عالية من الاحتدام والمواجهات من أجل إعادة رسم خرائط القوة والنفوذ، فيما يُعرف بمرحلة الانتقال من الهيمنة الأمريكية والغربية إل ىمرحلة التعددية القطبية، وهو وضع يسمح للدول الصغيرة والمتوسطة بتنويع خياراتها الاستراتيجية، والانفلات من قبضة القوى المُهيمنة، واتخاذ المواقف التي تحقق المصالح الوطنية، والتركيز على مواجهة تحديات التنمية والبقاء وما يتطلبه ذلك من استقرار و«تصغير» للمشاكل والصراعات.. أى تصفية ما يمكن تصفيته منها، والاتجاه بها نحو «نقطة الصفر».

وفى هذا الإطار جاء «اتفاق بكين» بين السعودية وإيران برعاية الصين (١٠ مارس الماضى) والذى يقضى باستئناف العلاقات الدبلوماسية والتعاون الأمنى والاقتصادى بين الرياض وطهران، ويفتح الباب لإزالة أجواء المواجهة بين الدول الخليجية (والعربية عمومًا) من جهة وإيران من جهة أخرى.. وهو الإجراء الذي سبقته تصفية الخلافات الخليجية - الخليجية من ناحية، والاتجاه نحو تصفية الخلافات الخليجية والعربية مع تركيا، وتحقيق درجة واضحة من التقارب مع أنقرة.

وفي هذا السياق فإن من باب أولى السعى إلى تصفية الخلافات بين عدد من الدول العربية من ناحية وسوريا من ناحية أخرى، واستئناف العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين تلك الدول الشقيقة، وعودة دمشق إلى مكانها الطبيعى فى الجامعة العربية، وخلق أجواء مناسبة للتسوية السياسية فى سوريا، وإعادة بناء اقتصادها الذى دمرته الحرب الإرهابية الكونية ضدها على مدى نحو اثنى عشر عامًا، وفاقم من التدمير ذلك الحصار الأمريكى والغربى الشامل والقاسى لسوريا، وخاصة «قانون قيصر» الأمريكى، ثم جاء الزلزال المدمر فى فبراير الماضى ليزيد من معاناة الشعب السورى الشقيق إلى أقصى حد.

‫< ‫<<

الخطوة مقابل الخطوة

وهكذا شهدت الشهور القليلة والأسابيع الماضية تحركات ومفاوضات عربية مكثفة من أجل عودة سوريا إلى الجامعة العربية، أفضت أخيرًا إلى اجتماع عمان الخماسى بين كل من مصر والسعودية والعراق والأردن وسوريا، والذى صدر عنه «بيان عمان» فى الأول من مايو الجارى.. ويتضمن بنودًا تفصيلية كثيرة حول التزامات كل من الحكومة السورية والمعارضة لتحقيق التسوية.

ومعها التزامات الدول العربية الراعية للتسوية تجاه استقلال سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها، وإنهاء وجود الميليشيات الأجنبية والإرهابية فيها، وانسحاب القوات الأجنبية غير المدعوة من جانب الحكومة السورية.. علي أن تقوم الدول العربية بدور قيادى فى هذه التسوية، وبتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية الضرورية لتخفيف معاناة الشعب السوري، وتسهيل عودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى ديارهم، وبذل الجهود العربية لإنهاء الحصار الاقتصادى لسوريا.

ونص قرار عودة سوريا إلى الجامعة (٧ مايو) على أن يتم تنفيذ هذه الالتزامات وفق مبدأ «الخطوة مقابل الخطوة» من جانب الحكومة السورية والمعارضة وكل الأطراف المتصلة بالتسوية، وفى مقدمتها بالطبع الأطراف العربية الراعية للتسوية السياسية في سوريا.

مطلوب «مشروع مارشال» عربى لسوريا

ويتضمن «بيان عمان» عشرات الالتزامات والشروط التفصيلية، وكلها وافقت عليها الحكومة السورية، لكن الحقيقة أن مواجهة الوضع الاقتصادى الكارثى الذى تعانى منه البلاد يفرض نفسه كأولوية لابد من مواجهتها لتنفيذ عدد من أهم الالتزامات الأساسية الواردة فى «بيان عمان».

وعلى سبيل المثال فإن عودة اللاجئين (٦ ملايين) والنازحين (٦ ملايين) آخرين، إلى ديارهم تطرح على الفور مسألة إعادة الإعمار.. لأن هؤلاء الملايين من اللاجئين والنازحين يحتاجون إلى بيوت ليسكنوا فيها، وإلى أعمال ليكسبوا منها أرزاقهم، وإلى مدارس لتعليم أطفالهم، وإلى مستشفيات للعلاج وطرق للانتقال عبرها، ووسائل مواصلات عامة للانتقال، ومحروقات لتشغيل هذه الوسائل ولتوليد الكهرباء الضرورية للحياة.. إلخ إلخ.

وكل هذا لا يوجد منه إلاّ أقل القليل، لأن الحرب الإرهابية ألحقت بسوريا دمارًا هائلًا يحتاج إصلاحه إلى (٤٥٠ مليار دولار) حسب أرقام الأمم المتحدة.. علاوة على (٥٠ مليار دولار) لإصلاح الدمار الذى تسبَبَ فيه زلزال فبراير الماضى، أى أنه مطلوب (خمسمائة مليار دولار) لإعادة الإعمار، وهو شرط ضرورى لعودة اللاجئين والنازحين، وبديهى أنه لا يمكن حتى في الأحلام الوردية توفير مثل هذه المبالغ الهائلة، حتى على المدى المتوسطى وبدون إنهاض الاقتصاد السوري نفسه.

لكن تحقيق خطوات جدية على طريق إعادة اللاجئين والنازحين وإنجاز الحد الأدنى من النهوض الاقتصادى يحتاج إلى عشرات مليارات الدولارات من الاستثمارات والمساعدات بصورة عاجلة «سنتين أو ثلاثة مثلاً» لكي تتحقق هذه الخطوات الجدية.

ويجب هنا مراعاة أن الناتج المحلى الإجمالى لسوريا قد تراجع من ٥٧ مليار دولار عام ٢٠١٠ السابق مباشرة على الحبر، إلى ١٥ مليار دولار فقط العام الماضى، وأن خسائر سوريا بسبب الحرب الإرهابية الدولية عليها قد بلغت حوالى خمسمائة مليار دولار، حسب تقارير البنك الدولي (٢٠٢٠ - و٢٠٢٢) والأمم المتحدة (٢٠٢٠) (راجع بالتفصيل - «الأموال» - ١٢ فبراير و١٩ فبراير و١٩ مارس ٢٠٢٣)، وتشير هذه التقارير الدولية الموثقة إلى أن نسبة الفقر فى سوريا تبلغ أكثر من (تسعين بالمائة)!!

وهذه كلها حقائق لابد من مواجهتها إذا أردنا الحديث بجدية عن عودة اللاجئين والنازحين، ولهذا نقول إنه مع كامل الاحترام لأي بيانات أو التزامات سياسية، فإن أكثر ما تحتاجه سوريا هو «مشروع مارشال» عربى لإعادة الإعمار وإنهاض الاقتصاد، كذلك الذى نفذته الولايات المتحدة في أوروبا لإصلاح الدمار الذى تسببت فيه الحرب العالمية الثانية.

ولاشك أن المساعدات الإنسانية بكل أنواعها مطلوبة بشدة، ولابد من مراعاة العدالة الصارمة فى توزيعها على كل مناطق البلاد، بغض النظر عن الولاءات السياسية للسكان، لكن مثل هذه المساعدات تظل بطبيعتها محدودة الأثر إذا ما قورنت بالأرقام الهائلة السابق ذكرها.

ولهذا فإنه لا يمكن التركيز على الخطوات السياسية والعسكرية وحدها (على اعتبار أنها قليلة التكلفة)! وإهمال الأوضاع الاقتصادية، لأنها تمثل أساسًا للاستقرار السياسى والاجتماعى الضروري للتسوية أو تمثل شرطًا حاسمًا لتحقيق أهداف سياسية كبرى مثل عودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم.

وبديهى كذلك أنه لابد من بذل جهود عربية جماعية عاجلة لتطوير التعاون الاقتصادى والتجارى مع سوريا، وكذلك على المستوى الدولي لإنهاء الحصار الأمريكى والغربى الخانق على سوريا.

تزامن يشمل الجميع

كما أن الخطوات السياسية والعسكرية- وخاصة الأخيرة- لابد أن ترتبط بتزامن شامل، فلا يمكن مثلا المطالبة بخروج الميليشيات الموالية لإيران وترك عشرات الآلاف من مقاتلى «جبهة النصرة» المسيطرة على إدلب، والمصنفة من جانب الأمم المتحدة كمنظمة إرهابية، ومعها آلاف آخرين من الإرهابيين الشيشان والتركستانيين وغيرهم والذين يمثلون خطرا فادحا على الأمن القومى السوري، ويتمتعون برعاية تركية وإمدادات بالسلاح والعتاد من جانب أنقرة، ولا التسامح مع المنظمات الإرهابية الموجودة شمالي حلب، أو شرقى الفرات، كما أن قوات الاحتلال التركية مطلوب انسحابها، هى والقوات الأمريكية الموجودة شرقى الفرات، والتى تسيطر على الجزء الأكبر من ثروات سوريا البترولية وتسرقه علنا، وتتاجر به، كما تسيطر هى وحلفاؤها فى «قسد» على الجزء الأكبر من الأراضى الزراعية السورية، تاركة أصحابها الشرعيين يواجهون أوضاعا أشبه بالمجاعة، وبديهى أن هذه الأوضاع كلها تمثل انتهاكا للسيادة السورية، وترفضها دمشق قطعيا.

تحديات كبيرة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وبديهى أنها كلها مشمولة بمبدأ «الخطوة مقابل الخطوة» الذي تحدث عنه قرار الجامعة العربية فى (٧ مايو) لكن مواجهتها ليست مستحيلة إذا تكاتفت الجهود العربية وخلصت النوايا والهدف يستحق.. هدف استعادة الدور السورى الفاعل في إعادة بناء منظومة الأمن القومى العربى في لحظة يشهد فيها العالم إعادة رسم خرائط النفوذ، ويحتاج العرب إلى وحدتهم لكى يستطيعوا انتزاع مكان محترم لهم على هذه الخرائط.

ومرحبًا بسوريا في مكانها الشرعى الذي غابت عنه طويلاً.. فى بيت العرب.

مصر للطيران
سوريا. الجامعة العربية.خطأ استراتيجي
بنك الاسكان
NBE