أسامة أيوب يكتب: صيف بؤونة وأبيب ومسرى فى الموروث الثقافى المصرى ولماذا تزايد إحساس المصريين بالحر الشديد هذا الصيف؟

الجو نار وخانق.. هذه هى العبارة المتكررة التى لا تخلو أحاديث المصريين منها هذه الأيام، ورغم أن هذا الوقت من السنة يتسم عادة بارتفاع درجات الحرارة وطوال أشهر فصل الصيف اعتبارا من شهر يونيو وحتى آخر شهر سبتمبر، غير أن تغيرا كبيرا وملحوظا طرأ على الطقس فى مصر بدأ منذ السنوات الأخيرة ويتزايد سنة بعد أخرى، حيث زاد الإحساس بالحر الشديد وعلى نحو غير مسبوق حتى صار صيف مصر لا يُطاق.
خبراء الأرصاد الجوية والفلك يرجعون السبب فى ارتفاع حرارة الجو على ذلك النحو إلى التغيُّر المناخى الحاد الذي طرأ على كوكب الأرض فى السنوات الأخيرة والذى تسبب فى اختناق الغلاف الجوى ومن ثَم إبطاء حركة الرياح التى تقوم بتلطيف حرارة الجو، ولأن استمرار هذا التغير المناخى الناتج عن تزايد كبير فى الأنشطة الصناعية الكبرى وانبعاثات الكربون يُنذر بكارثة تُهدد الحياة الطبيعية للبشر وللكائنات الأخرى خاصة فى الدول غير الصناعية التى تتضرر من تداعيات تلك الأنشطة، فإنه بات ضروريا التوصل إلى حلول عاجلة لإيقاف كارثة التغيُّر المناخى والذى تتحمل مسئوليته الأولى الدول الكبرى والتى لاتزال تتباطأ فى استخدام طاقة نظيفة وفقا لاتفاقية المناخ مع ملاحظة أن الولايات المتحدة انسحبت منها فى ولاية ترامب الأولى!
...
الارتفاع الكبير فى درجات الحرارة ليس السبب الوحيد فى إحساس المصريين بأن الصيف صار أشد سخونة وأكبر اختناقًا عما قبل، لكنها أيضا الرطوبة التى ارتفعت معدلاتها ارتفاعا كبيرا وهى السبب الآخر فى زيادة الإحساس بالحر الشديد وبما يزيد على درجات الحرارة المعلنة، ومن ثَّم فلو كانت درجات الحرارة محتملة نسبيا، فإن الرطوبة العالية تزيد الإحساس بشدة الحر ليلا ونهارا وفى الليل أكثر، ولذا فإن هذه الرطوبة المرتفعة تمثل تغيرا آخر طرأ على الطقس فى مصر.
...
فى السنوات السابقة وحتى أواخر القرن الماضى كانت أيام الصيف خالية من الرطوبة وحيث الجو "جاف معتدل صيفا" حسبما كان جو مصر يوصف ويدرس فى المناهج الدراسية، وذلك باستثناء النصف الثانى من شهر أغسطس بالتزامن مع ما كان يُعرف بـ"وفاء النيل" فى وقت الفيضان قبل اكتمال بناء السد العالى وهو الوقت الذى كان الأطفال يصابون فيه ببعض الالتهابات الجلدية على شكل حبوب وكانت تُسمى "حمو النيل".
فى تلك السنوات وفى ذلك الزمن غير البعيد كان صيف مصر خاليا من الرطوبة وحيث كانت الحرارة في النهار محتملة، بينما يقل الإحساس بالحر فى الظل، وكانت لياليه تتسم بنسمات عليلة، وحيث كان المصريون يصفون الجو فى الليل بـ"نسمة صيف"، ومع تغيُّر المناخ تغيَّر الحال حيث صار النهار شديد الحرارة وصار الليل خانقا بفعل ارتفاع الرطوبة ليلا، ولم يعد صيف مصر كما كان محتملا نهارا.. لطيفا ليلا.
...
وإذا كنا نحدد فصل الصيف وفقا للتقسيم الجغرافى بأشهر يوليه وأغسطس وسبتمبر مع الأسبوع الأخير من شهر يونيه، مع ملاحظة أن ارتفاع درجات الحرارة يبدأ قبل حلول فصل الصيف جغرافيا، إذ إن بعض أسابيع فصل الربيع تشهد ارتفاعا فى درجات الحرارة بداية من شهر مايو، وحيث تواتر أن الربيع فى مصر والذى عادة ما يشهد عواصف ورياح ترابية "الخماسين" ليس مثل الربيع فى أنحاء العالم، بل إن الخريف هو ربيع مصر الحقيقى.
لكن المصريين القدماء كانوا يُحددون فصل الصيف بأشهر بؤونة وأبيب ومسرى ويُضاف إليها شهر بشنس وهو الشهر الأخير فى فصل الربيع وذلك ما صار عليه التقويم القبطى، وهى الأشهر المرتبطة أيضا بمواسم زراعة المحاصيل وحصادها وحيث صارت ولاتزال من موروثات التراث المصرى القديم والثقافة الشعبية والريفية.
...
فى تلك الثقافة الموروثة ارتبط شهر بؤونة بشدة الحر، حيث تصل درجات الحرارة إلى ذروتها، ولايزال المصريون حتى الآن سواء فى الريف أو الحضر عندما يصفون يومًا شديد الحرارة يقولون كأنه فى بؤونة، ثم يأتى بعده شهر أبيب الذى انقضى ثلثاه حتى الآن والذى يتسم أيضا بشدة الحر حسبما نشهد هذه الأيام والذى يستمر حتى نهاية الشهر بحسب توقعات هيئة الأرصاد الجوية، وفى تراث الثقافة المصرية فإن شهر أبيب هو الشهر الذى يكتمل فيه نضج محصول العنب ويتحول إلى زبيب، ولذا يقول المصريون "أبيب يخلى العنب زبيب".
...
أما شهر مسرى فى التقويم القبطى والذى يتواكب أغلب أيامه مع شهر سبتمبر، فإنه وبحسب الموروث الثقافى المصرى القديم هو الشهر الذى يكتمل فيه نضج البلح ويتلون باللونين الأحمر والأصفر، ومسرى هو آخر شهور السنة القبطية التى تكتمل بحسب ذلك التوقيت بما يُعرف بأيام النسىء، وهى خمسة أيام لمدة ثلاث سنوات وتزاداد إلى ستة أيام كل أربع سنوات لتوافق عدد أيام السنة بحسب التقويم الشمسى الميلادى.
...
تقسيم شهور السنة وفقا لذلك التقويم القبطى الذى بدأ منذ 1741 سنة هو نفس التقسيم المصرى القديم وإن لم يُعرف أسماء الشهور فى التقسيم القديم إنما يعكس عبقرية فلكية وجغرافية فى تحديد فصول السنة الأربعة وأيضا فى تحديد مواسم الزراعة والحصاد بدقة كبيرة.
ومع أن توقيت مواسم زراعة المحاصيل وحصادها لايزال وفقا للشهور القبطية والمصرية القديمة وحتى الآن دون أى تغيير، فإن حالة الطقس ودرجات الحرارة والرطوبة لم تعد متوافقة على نحو دقيق مع تلك الشهور فى الصيف أو فى الشتاء بل فى كل فصول السنة الأربعة.
...
إن التغير المناخى الحاد والكارثي الذى يشهده كوكب الأرض منذ سنوات والذي تتزايد تداعياته سنة بعد أخرى. قلب الموازين الدقيقة للطقس فى العالم حسبما تشهد بذلك السيول الكاسحة والفيضانات المدمرة وحرائق الغابات الكبيرة والأمطار التى تهطل فى غير مواعيدها، وحيث كان لمصر نصيب من ذلك التغير المناخى متمثلا فى شدة حرارة الجو فى نهار الصيف وارتفاع معدلات الرطوبة ليلا وعلى ذلك النحو غير المسبوق الذى يشكو منه المصريون.