د. محمد فراج يكتب : العدوان الصهيونى الأمريكى على إيران.. قراءة أولية فى النتائج (2)

أشرنا فى مقالنا السابق “الأموال – 29 يونيو” إلى الجدال الذى لايزال مشتعلًا حتى الآن، والأرجح أن يستمر طويلًا حول تصريحات الرئيس الأمريكى ترامب حول تدمير البرنامج النووى الإيرانى، وهى التصريحات التى تتناقض مع تقارير منشورة لبعض أجهزة المخابرات الأمريكية والتى شن ترامب حملة ضارية عليها وعلى أجهزة الإعلام الكبرى التى نشرتها مثل “سى. إن إن” وجريدة نيويورك تايمز ولوحظ فى هذا الصدد أن وزير الدفاع الأمريكى ورئيس هيئة الأركان المشتركة قد عقدا مؤتمرا صحفيا تحدثا فيه بطريقة مشابهة لتلك التى تحدث بها ترامب، بخلاف طريقة هويتهما عن نفس الموضوع فى وقت سابق، وخلاف التقارير المخابراتية واستخدم وزير الدفاع بالذات أسلوبا غير مألوف فى الولايات المتحدة حرص فيه على تفخيم الرئيس ترامب والحديث عن قراراته وتوجيهاته، إلخ، مؤكدًا أن تقارير المخابرات تتكامل وتتطور بقدر وصول مزيد من المعلومات، إلخ، مع أن المفروض أن تقديرات الرئيس تستند أصلًا إلى هذه التقارير، وبالتالى فإنه ليس من حقه إصدار تصريحات جزافية تتناقض مع تقارير المخابرات.
والحقيقة أن هذا الجدال حول حدود تدمير البرنامج النووى الإيرانى والهزيمة الساحقة الذى يدعى ترامب ونتنياهو أنه تم إلحاقها بإيران ليس جدالا فلسفيا يمكن أن يقوم على وجهات نظر ذاتية، لأن المفاوضات حول البرنامج النووى الإيرانى ومستقبل العلاقات الأمريكية – الإيرانية هى أمور لابد أن تستند إلى وقائع صلبة وليست إلى تصريحات إعلامية جزافية تهدف إلى تمجيد ذات الرئيس وتفخيم صورته بغض النظر عن الحقائق.
وفيما يتصل مباشرة بحرب الاثنى عشر يوما فإن الوقائع تقول:
1 – إن حدود الدمار الذى لحق بالبرنامج النووى الإيرانى هى محل جدل شديد بين الرئيس الأمريكى وأجهزة مخابرات بلاده.
2 – إنه بغض النظر عن الضربات المؤلمة التى ألحقها العدوان الصهيونى – الأمريكى بإيران فإن طهران لم تنكسر لديها إرادة القتال، وأنها ظلت تطلق الصواريخ على الدولة الصهيونية حتى الدقائق الأخيرة السابقة على موعد وقف إطلاق النار، وهنا لابد أن نُشير إلى أن ترامب نفسه هو الذى اقترح وقف إطلاق النار، وسرعان ما وافقت عليه اسرائيل، وبديهى أنها لم تكن لتفعل ذلك إلا لأن استمرار الحرب يلحق بها أضرارا كبيرة، حيث صرح ترامب نفسه بأن الصواريخ الايرانية “ألحقت بإسرائيل ضربات مؤلمة جدًا”.
3 – بالرغم من التكتم الإعلامى الشديد ومن الرقابة العسكرية الصارمة على الأخبار فمن الواضح أن الضربات الصاروخية الإيرانية ألحقت بالعدو الصهيونى أضرارًا فادحة، وأصابت أهدافًا استراتيجية ومثلت قوة ردع مكافئة للتفوق الجوى الإسرائيلى المدعوم بشدة أمريكيا، وهو ما عبَّر عنه ترامب بحديثه عن “الضربات المؤلمة جدًا” التى لحقت بالدولة الصهيونية وما دفعه إلى اقتراح وقف إطلاق النار ودفع نتنياهو إلى المسارعة بالموافقة عليه.
4 – كما أثبتت حرب الاثنى عشر يوما أن القبة الحديدية الإسرائيلية وصواريخ “ثاد” الأمريكي غير كافية لحماية الدولة الصهيونية والأهداف الاستراتيجية فيها من الصواريخ والمسيرات الإيرانية.
5 – وإذا كان الأمر كذلك من الناحية العسكرية فإن الجوانب المعنوية والاجتماعية والاقتصادية بدورها تتسم بأهمية بالغة، فقد عاش الملايين من سكان الدولة الصهيونية اثنى عشر يوما فى الملاجئ أغلب ساعات اليوم، وتدفق الآلاف منهم إلى منافذ الخروج إلى قبرص ومصر هربًا من القصف، فضلًا عن أوائل الذين غادروا إلى أوروبا، ونعتقد أن الآثار الحقيقية لهذا الهروب الجماعى سوف تتكشف خلال الأسابيع والشهور والسنوات المقبلة ومن ناحية أخرى فإن الاقتصاد الإسرائيلى تعرض للشلل شبه الكامل طوال أيام الحرب.
6 – وإذا كان القصف الإيرانى لقاعدة العيديد الأمريكية فى قطر ردًا على قصف مفاعلات نوردو وتاطانز وأصفهان يتسم بطابع رمزى إلا أن الحديث عنه باعتباره مسرحية يتسم بقدر كبير من التبسيط المخل وخاصة بعد إنذار ترامب لإيران بأن أى محاولة من جانبها للرد على القصف الأمريكى ستقابل برد فعل حاسم، إلخ، لأن سكوت ترامب على قصف “العيديد” يُشير إلى حسبانه الحساب لعواقب التمادى فى التصعيد، وهذا أمر يحسب لصالح ايران بكل وضوح.
بيع الأوهام
وبناء على ذلك كله يتضح أن مطالبة ترامب لإيران بالاستسلام بدون قيد أو شروط كانت مجرد تهويش فارغ، كما أن الحديث عن إمكانية إسقاط النظام الإيرانى باعتبارها خيارًا متاحًا لأمريكا “فضلا عن إسرائيل!!” هو مجرد لغو، لأن الشعب الإيرانى أظهر التفافا قويا حول قيادته فى مواجهة العدوان، وهو ما كان يجب توقعه وفق أى حسابات سياسية متزنة، تضع فى اعتبارها العمق الحضارى الكبير لهذا الشعب.
والأكثر من ذلك أن الصمود الايرانى فى مواجهة العدوان الصهيونى – الأمريكى وإلحاق الضربات المؤلمة لإسرائيل قد أكسب إيران احتراما وتعاطفا واسعين فى مختلف أرجاء العالمين العربى والإسلامى، وهو ما كشف عن عمق العداء الشعبى العربى والإسلامى للدولة الصهيونية، والرفض الشعبى الواسع للدعاوى الطائفية المتخلفة ضد إيران باعتبارها “دولة شيعية” وهو أمر لابد من وضعه محل اعتبار كبير من جانب كثير من السياسيين فى المنطقة علما بأن دعاوى التحالف السنى ضد ايران الشيعية هى دعاوى من اختراع أجهزة المخابرات الأمريكية والصهيونية أساسا، والتى يروج لها بعض المتخلفين الظلاميين.
ومن أحاديث اللغو وبيع الأوهام أيضًا لا يفوتنا أن نشير إلى ما تحدث عنه ترامب من أنه “سيسمح لإيران” ببيع البترول والغاز إلى الصين! وكأن هذه مسألة يملك أن يقررها الرئيس الأمريكى الذى يعرف بالتأكيد أن الصين تشترى حوالى نصف الإنتاج الايرانى من البترول، بغض النظر عن العقوبات والإنذارات الأمريكية، ثم يحاول انتهاز الفرصة ليوصى الصين بأن تشترى البترول أو الغازا لأمريكى أيضا! والحقيقة أن هذه المحاولة الساذجة “لبيع ما تم بيعه فعلا” لا تتسم بالجدية ولا تليق برئيس دول عظمي.
صراع استراتيجى مفتوح
الأهم من كل ذلك أن الصراع بين ايران من جهة والولايات المتحدة والكيان الصهيونى من جهة أخرى هو صراع استراتيجى ممتد وأن حرب الاثنى عشر يوما هى حلقة واحدة من حلقات هذا الصراع المفتوح الأوسع كثيرا من قضية البرنامج النووى الإيرانى التى يطرحها ترامب ونتنياهو كعنوان الصراع، إنه صراع يتعلق برسم خرائط النفوذ فى الشرق الأوسط بما له من أهمية استراتيجية كبرى فى العلاقات الدولية، وبما يملكه من ثروات بترولية وطبيعية وما يمر به من طرق للتجارة الدولية ونقل البترول والغاز، وبالتالى فإنه يتعلق بالمنافسة والتحالفات بين دولة كبرى وبعضها البعض من ناحية، وبينها وبين الدول والتحالفات الكبرى فى العالم من ناحية أخرى، وهو صراع مرشح للاستمرار طويلا.
وللحديث بقية...