الأموال
السبت، 20 أبريل 2024 05:56 مـ
  • hdb
11 شوال 1445
20 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج أبوالنور يكتب : ثغرات كبيرة فى جدار العقوبات الغربية ضد روسيا (١)

د. محمد فراج أبوالنور
د. محمد فراج أبوالنور


مع بدء احتدام الأزمة الأوكرانية كان موقف الولايات المتحدة وحلفائها فى «الناتو» واضحًا بأنه فى حالة قيام روسيا باجتياح الحدود الأوكرانية بأنه يدخل الحلف الأطلسى في مواجهة عسكرية مع موسكو، وإنما سيفرض عليها عقوبات اقتصادية شديدة الصرامة من شأنها «خنق» الاقتصاد الروسى بهدف إجبار الكرملين على سحب قواته من أوكرانيا، تحت وطأة التأثير المدمر لتلك العقوبات، وهو ما عبَّر عنه الرئيس الأمريكى بايدن بقوله إن العقوبات الاقتصادية هى البديل لمواجهة عسكرية مع روسيا، يمكن أن تؤدى لاشتعال حرب عالمية ثالثة.. وهو يقصد بالطبع حرب نووية يمكن أن تؤدى إلى تدمير العالم بأسره ــ بحكم أنها ستكون مواجهة بين القوى النووية الكبرى فى العالم.
كما أعلن بايدن وغيره من الزعماء الغربيين أن فرض العقوبات الاقتصادية، لا ينفى احتفاظهم بخيار إمداد الجيش الأوكرانى بمختلف أنواع الأسلحة المتقدمة، دون تورط مباشر فى الاشتباكات العسكرية.
وهذا هو ما حدث بالفعل.. فما إن اعترفت موسكو باستقلال جمهوريتى «دونيتسك» و«لوجانسك» ثم عبرت القوات الروسية حدود أوكرانيا، حتى اتخذت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، ومعها اليابان واستراليا سلسلة من القرارات بفرض عقوبات اقتصادية صارمة وواسعة النطاق ضد روسيا، ينعكس تأثيرها على مجمل العلاقات الاقتصادية الدولية، بحكم ما للاقتصاد الروسى من تشابك واسع بالاقتصاد العالمى ظل «الاعتماد المتبادل» الذى أصبح سمة أساسية لهذا الاقتصاد فى عصر العولمة، وبصفة خاصة لما يتمتع به إنتاج روسيا من البترول والغاز الطبيعى من أهمية كبرى فى منظومة الطاقة العالمية، وبصورة أخص بالنسبة لاستهلاك الدول الأوروبية الصناعية الكبرى من الطاقة، وفي مقدمتها ألمانيا، وكذلك لما تتسم به صادرات روسيا من القمح من أهمية باعتبار روسيا أكبر مصدِّر للقمح فى العالم.


عقوبات بالغة القسوة


وتشمل العقوبات الاقتصادية ضد روسيا مجموعة واسعة للغاية من الإجراءات، فى مقدمتها حرمان أكبر البنوك والشركات الروسية من استخدام منظومة «سويفت» العالمية للمدفوعات والتسويات، التى تهيمن عليها الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى، والتى تشترك فيها عشرات الآلاف من البنوك المركزية والتجارية والمؤسسات المالية فى مختلف أنحاء العالم ومن بينها أيضًا تجميد أصول عدد من البنوك الروسية الكبرى فى الولايات المتحدة، وتجميد إمكانية استخدام البنك المركزى الروسى لحوالى نصف الاحتياطيات الدولية الروسية الموجودة في الخارج، بما فى ذلك سندات الخزانة الأمريكية، وكذلك منع تصدير عدد من منتجات الصناعات التكنولوجية المتقدمة، وقطع الغيار بما يؤثر على عديد من الصناعات المدنية والعسكرية وأسطول الطيران المدني، وتجميد أموال ومصادرة ممتلكات عدد كبير من كبار رجال الأعمال والمسئولين الروس بمن فيهم بوتين ووزير خارجيته لافروف «الفئة الأخيرة اتضح أنه ليس لدى أفرادها أرصدة أو ممتلكات فى الدول الغربية» ومنعهم من دخول أراضى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، وعلاوة على ذلك كله تم إغلاق المجال الجوى لأمريكا ودول الاتحاد الأوروبى أمام الطيران المدنى الروسى، وأعلنت أمريكا وحلفاؤها أن هذه العقوبات ليست كل ما فى جعبتها، وأنها يمكن أن تتصاعد «حسب سلوك روسيا».
< < <
والواقع أن هذه الحزمة الضخمة من العقوبات تجىء بمثابة «إعلان حرب اقتصادية شاملة» ضد روسيا يتوقع الخبراء الغربيون أن تؤدى إلى أضرار اقتصادية كبرى تصل إلى حد تقلص الناتج المحلى الروسى بنسبة ٦٪ «ستة فى المائة سنويا» وإصابة الاقتصاد الروسى بركود عميق إن لم يكن تدميره، بحسب تقرير لمركز «أكسفورد إيكونوميكس» نقلته شبكة «سى إن إن» الأمريكية «الأهرام - ٣ مارس ٢٠٢٢» وأشار التقرير إلى أن الخسائر الكبرى التى ستلحق بالنظام المصرفى الروسى والتى يمكن أن تصل إلى إلحاق الدمار بأهم مؤسساته، والانهيار التام لسعر صرف الروبل، وانسحاب الاستثمارات الأجنبية من السوق الروسية.. هى عوامل سيكون لها الدور الأبرز فى دخول الاقتصاد الروسى فى حالة ركود عميق يصل إلى حد «الشلل» ومن شأنها إعادة روسيا إلى وضع أشبه بوضع الدول النامية.


الغاز.. أكبر ثغرة فى جدار العقوبات


إلا أن كل هذه التقديرات والتي يتبناها أيضا زعماء الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى ومسئولوها السياسيون والاقتصاديون هى تقديرات قابلة للنقاش ومثيرة للجدل، وتنطوى على قدر لا يُستهان به من التوقعات المتناقصة مع حقائق الواقع، كما يشير خبراء اقتصاديون آخرون.. بل إنها يمكن أن تكون سلاحا ذا حدين فى بعض الحالات كما سوف نوضح لاحقا.
وعلى سبيل المثال فإن طرد روسيا من منظومة «سويفت» وهو الإجراء الأكثر خطورة فى سلسلة العقوبات، كان محل جدل واسع في صنوف التحالف الغربى وخاصة من جانب ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى التى تعتمد بدرجة كبيرة على واردات الغاز الطبيعى الروسى، حيث تعتمد ألمانيا بنسبة ٥٠٪ عليه، حسب تقرير «لبريتين بتروليوم BP، ومنظمة أوابك، ووحدة أبحاث الطاقة العالمية بواشنطن، جوجل» وذلك عام ٢٠٢١، بينما يرفع تقرير الـ«بى بى سى» هذه النسبة إلى ٥٥٪، ويبلغ اعتماد أوروبا إجمالا على الغاز الروسى ما يتراوح بين «٣٥ - ٤٠٪ ـ خمسة وثلاثين إلى أربعين بالمائة» وكلها أرقام شائعة ومتداولة على نطاق واسع في وسائل الإعلام العالمية والمحلية هذه الأيام، وقد أدت زيادة الطلب على الغاز الطبيعى خلال الشهور الأخيرة إلى أزمة حقيقية وارتفاع جنونى فى أسعار الغاز وصل إلى أرقام قياسية «حوالى ألف دولار للألف م٣ مكعب من الغاز» ولم تكد الأسعار تهدأ قليلا حتى عادت لتتجاوز الألفى دولار للألف متر المكعب، مع اشتعال الحرب. وفى ظل هذه الأزمة الطاحنة كانت خطوط أنابيب الغاز الروسى هى المصدر الرئيسى لتلبية الزيادة على الطلب وهى:
١ - خط نورد ستريم ١ «السيل الشمالى١» من روسيا إلى ألمانيا ومنها إلى دول أوروبية أخرى بطاقة ٥٥ مليار م٣ سنويا، تحت مياه بحر البلطيق.
٢ - الخطوط العابرة لأوكرانيا، وهى مستمرة فى العمل بغض النظر عن الحرب المشتعلة، ومنها إلى عدة دول فى شرق ووسط أوروبا وصولا إلى ألمانيا ودول غرب أوروبا، ولا تقل طاقة هذه الخطوط عن ٥٥ مليار م٣، وتصل بعض التقديرات إلى أكثر من مائة مليار م٣، ولم يتسن لنا التوصل إلى أرقام دقيقة موثوقة.
٣ - خط يامال: من روسيا إلى ألمانيا عبر بيلاروسيا وبولندا بطاقة تبلغ ٣١ مليار م٣ سنويا.
٤ - خط السيل الجنوبى عبر تركيا إلى اليونان ودول البلقان وجنوب أوروبا بطاقة تبلغ ٣١ مليار م٣ سنويا، مناصفة بين تركيا والدول الأخرى.
٥ - ويضاف إلى ذلك خط «السيل الشمالى -٢» الذى حاربته أمريكا طويلاً، ورفضت ألمانيا وقفه، حتى اكتمل فعلا، لكن الأحداث الأخيرة أدت إلى اتخاذ برلين قراراً بوقف الترخيص ببدء ضخ الغاز عبره، وتبلغ طاقته ٥٥ مليار م٣ ويسير تحت مياه بحر البلطيق بموازاة خط «السيل الشمالى -١».
< < <
المشكلة الكبرى التى واجهت التحالف الغربى يما يخص إخراج روسيا بالكامل من نظام «سويفت» هى أن إمدادات الغاز الروسية لابد من دفع ثمنها، وإلاّ أوقفت روسيا ضخ الغاز، مما يهدد بكارثة كبرى للصناعة الألمانية خصوصا والأوروبية عموما.. وهو أمر لا يمكن أن تقبل به ألمانيا ولا فرنسا ولا إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية التى تعتمد على الغاز الروسى.
ومن ناحية أخرى فإن تعويض الإمدادات الروسية أمر صعب ومكلف ويحتاج إلى وقت طويل يمتد إلى سنوات على الأرجح بسبب التناقص الشديد والمشكلات الفنية التى تواجه إنتاج الغاز الأوروبى «بريطانيا والنرويج» والدول الغربية من أوروبا المرتبطة بها بخطوط أنابيب «الجزائر وليبيا» فضلا عن الطاقة الإنتاجية المتواضعة لتلك الدول، التى لا يمكن مقارنتها بالإنتاج الروسى الضخم (٦٣٨ مليار م٣ من إجمالى الإنتاج السنوى العالمى عام ٢٠٢٠ والبالغ ٣.٨ تريليون م٣).. «التقرير الاقتصادى العربى الموحد، جداول، جوجل».
أما السبيل الآخر لتعويض الإمدادات الروسية فهو «الغاز المسال» وهو يدخل فعلا فى الاستهلاك الأوروبى، ولكن بنسبة أقل بما لا يقاس من الغاز فى حالته الطبيعية عبر الأنابيب، لأنه يحتاج إلى معالجة لتحويله إلى حالة السيولة، ثم إلى ناقلات لحمله إلى أسواق الاستهلاك، ومن ثم إلى منشآت لتحويله إلى الحالة الغازية من جديد.. وكل هذا يحتاج إلى تكاليف إضافية للتسييل ثم للتحويل إلى الحالة الغازية.. كما يحتاج إلى استثمارات كبيرة لإقامة المنشآت المذكورة وبناء الناقلات إلخ.
ويترتب على ذلك كله أن تكلفة «الغاز المسال» تبلغ أكثر من «مائة وخمسين بالمائة» من تكلفة الغاز الطبيعى المنقول عبر الأنابيب، مما يرفع تكلفة إنتاج الكهرباء، والمنتجات الصناعية التى تعتمد عليه، وبالتالى يضعف من القدرة التنافسية للسلع، وكان هذا أهم أسباب رفض ألمانيا ومقاومتها للضغوط الأمريكية من أجل الاستعاضة بالغاز المسال الأمريكى عن الغاز الطبيعى الروسى، وهو موقف ساندت الدول الأوروبية الأخرى ألمانيا فيه، لما يمثله الغاز المسال من زيادة فى تكلفة مدخلات الإنتاج.
وهناك بالطبع إمكانية لاستيراد الغاز المسال من مصر أو قطر أو استراليا، أو غيرها من الدول غير المتصلة جغرافيا بأوروبا مثلما هى الحال مع روسيا، لكن مشكلة التكلفة العالية تظل قائمة فى جميع الأحوال بالمقارنة بالغاز الروسى.
< < <
ولن نتحدث هنا عن ٢.٣ مليون برميل من البترول الروسى يتم ضخها يوميا إلى الأسواق الأوروبية عبر خطوط الأنابيب بتكلفة وأسعار أقل من البترول الوارد من أسواق الخليج وافريقيا «لييا والجزائر ونيجيريا» وغيرها، فضلا عن الارتباطات التعاقدية الحكومية أو عبر الشركات، وكل هذه أمور تحتاج إلى حسابات دقيقة ومتأنية لانعكاسها المباشر على تكلفة الإنتاج، ومن ثم على القدرة التنافسية للمنتجات، فى ظل منافسة عالمية ضارية، وبالطبع فى ظل أزمة الطاقة المحتدمة المرتبطة بالخروج من حالة الإغلاق «بعد كورونا» وبالشتاء الذى لم ينته بعد.
<<<
لكل هذه الأسباب لم يكن يمكن أن توافق الدول الأوروبية الصناعية الكبرى علي طرد روسيا بصورة كاملة من منظومة «سويفت» وبالتالى على وقف صادرات الغاز والبترول إليها فى غياب إمكانية تعويضها سريعا «فضلا عن ارتفاع التكلفة» وهكذا اضطرت أمريكا مراعاة لحلفائها الأوروبيين، وحفاظا على وحدة معسكرها، إلى الاكتفاء بطرد البنك المركزى الروسى وأكبر أربعة بنوك أخرى من نظام «سويفت» لكنها تركت بنوكا أخرى، ومجالا لتسوية المدفوعات الخاصة بسداد ثمن صادرات الغاز «والبترول» الروسيين إلى أوروبا، وهو الأمر الذى يعنى وجود ثغرة كبيرة فى العقوبات الخاصة بـ«سويفت» علمًا بأن هذه الثغرة تنقذ أهم مورد للاقتصاد الروسي من العملات الصعبة أى عائدات البترول والغاز لمدة قد تطول حتى تستطيع أوروبا العثور على موارد بديلة، وبأقل خسارة ممكنة من حيث تكلفة الاستيراد، ومرة أخرى نقول إن هذا يمثل ثغرة كبيرة فى العقوبات الخاصة بـ«سويفت» إلى جانب ثغرات أخرى سنتناولها فى مقال لاحق..


وللحديث بقية..

مصر للطيران
د. محمد فراج أبوالنور ثغرات كبيرة جدار العقوبات الغربية روسيا

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE