الأموال
الخميس، 25 أبريل 2024 01:31 مـ
  • hdb
16 شوال 1445
25 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : رسمياً.. بدء مرحلة ما بعد (البريكسيت)

الأموال

حتى لحظة كتابة هذه السطور (بعد عصر الخميس 24 ديسمبر 2020) لا يزال المراقبون يحبسون أنفاسهم فى انتظار نتائج المفاوضات الشرسة التى تجرى خلف الأبواب المغلقة بين ممثلى الاتحاد الأوروبى وبريطانيا حول شروط خروج هذه الأخيرة من الاتحاد العتيد.. وإذا كان واضحاً أن أيا من الطرفين لا يريد (خروجاً خشناً) لبريطانيا من الاتحاد الأوروبى.. وأنه قد تم تجاوز هذه النقطة بالفعل بسبب ما كان يمكن أن يترتب عليها من خسائر كبيرة للطرفين فى حالة خروج بريطانيا دون اتفاق.. إلا أنه أصبح واضحاً أيضاً - وحسب تصريحات مسئولين ومراقبين وثيقى الصلة بالمفاوضات- أنه لا يمكن التوصل إلى اتفاقات تفصيلية حول كل النقاط المطروحة للتفاوض قبل الموعد النهائى لانقضاء المرحلة الانتقالية (31 ديسمبر 2020) وأن ما سيتم إعلانه وإحالته إلى البرلمان الأوروبى والبريطانى للتصويت عليه هى الخطوط العريضة للاتفاق.. على أن يتم التفاوض حول تفاصيل كثيرة فى المرحلة القادمة.. تقول المصادر وثيقة الصلة بالمفاوضات ذلك، بالرغم من أن وثائق الاتفاق تبلغ نحو (450 صفحة)!!.
ومعروف أن بريطانيا قد خرجت رسمياً من الاتحاد الأوروبى فى 31 يناير من العام الجارى، وأنها ستخرج من السوق الأوروبية الموحدة، ومن الاتحاد الجمركى بين بلدان الاتحاد الأوروبى، فى 31 ديسمبر الجارى.. وإذا لم يمكن الاتفاق حول قواعد التبادل التجارى بين الطرفين، فإنه سيتم تطبيق قواعد منظمة التجارة العالمية، على العلاقات التجارية بين الطرفين، أى فرض رسوم جمركية على تجارة كل طرف لدى الآخر، والحرمان من ميزات عديدة ضريبية وتفعيل تأشيرات الدخول والإقامة وعمل المواطنين.. إلخ.. إلا أن آثارها بالنسبة لبريطانيا يمكن أن تكون كارثية.
لذلك يمكن القول إن الطرفين مهتمان أشد الاهتمام بالاتفاق على الخطوط العريضة والتفاصيل أيضاً.. علماً بأن بريطانيا قد اضطرت إلى تقديم تنازلات كبيرة خلال الفترة الماضية بحكم علاقات القوى شديدة التفاوت بين الطرفين، واحتياجها الأكبر للسوق الأوروبية.. وعلى سبيل المثال فإن بريطانيا ترسل إلى أسواق الاتحاد الأوروبى (43٪) من صادراتها.. بينما ترسل أكبر ثلاث دول أوروبية (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) إلى بريطانيا (6٪) فقط من صادراتها.. وهذه الدول بالذات تلعب الدور الأكبر فى صناعة القرار الأوروبى (فاينانشيال تايمز نقلاً عن المصرى اليوم 61/12).
وبينما يبلغ عدد سكان بريطانيا (67 مليون نسمة) فإن عدد سكان الاتحاد الأوروبى (450 مليون نسمة).. يمثلون سوقاً هائلة بالنسبة لأى مصدر.. وهى سوق يمكن مقارنتها بالسوق الأمريكية أو الصينية.
موضوعات الخلاف
وأهم موضوعات الخلاف، التى تدور حولها المفاوضات حول تنظيم العلاقات التجارية بين الطرفين فى فترة ما بعد (البريكسيت) هى:
1 ـ مسألة مصايد الأسماك، وحق الأطراف الأوروبية فى الوصول للمصايد الغنية فى المياه الاقتصادية البريطانية، حيث تريد الأطراف الأوروبية الوصول إلى بعد (12كم) فتطرق السواحل البريطانية، وأن تصل حصتها من الصيد إلى (45٪) من كمية الصيد.. وإلا وضعت قيوداً على تجارة الأسماك البريطانية فى الأسواق الأوروبية (BBC 24/12/2020.. برنامج عالم الظهيرة).. بينما لا تريد بريطانيا اقتراب سفن الصيد الأوروبية لأقل من (60كم) من سواحلها.. ومعروف أن السفن الحربية البريطانية قد خرجت الأسبوع الماضى لمنع السفن الأوروبية للصيد من الاقتراب من سواحلها.
غير أن هذا يظل الموضوع الأقل أهمية من الناحية الاقتصادية، بالرغم من الضجة التى ثارت حوله، لأن بريطانيا طرحت كموضوع يتصل بالسيادة، حركت سفنها الحربية لفرض وجهة نظرها.
أما القضيتان الأكثر أهمية وتأثيراً من الناحية الاقتصادية.. وتهتم بهما ألمانيا بالذات أكثر من غيرها فهما:
2 ـ الحوكمة وسبل فض النزاعات التجارية.
3 ـ شروط المنافسة العادلة، وضمان شروط متكافئة (من المعروف أن بريطانيا تقدم دعماً لكثير من شركاتها مما يعطيها ميزة تنافسية). ومراعات المعايير البيئية والاجتماعية والمالية للإنتاج الأوروبى، لحماية أسواقهم من الاقتصاد البريطاني، الأقل نزوعاً لاحترام هذه المعايير، والذى يستطيع- بالتالى- تقديم سلع بجودة وأسعار أقل، مما يعطيه ميزات تنافسية غير عادلة. (وهنا تدخل أيضاً أجور مثل أجور العمال وضماناتهم، مما لها من أثر على تكلفة الإنتاج.. وكذلك شروط السلامة البيئية.. والنظام الضريبى.. إلخ).
وتحاول بريطانيا - ربط هذه القضايا بالسيادة - وهو ما ترفضه أوروبا عموماً ودولها الأكثر تقدماً بشكل خاص.
*
وتقترح بريطانيا إمكانية معالجة هذه القضايا من خلال عقد اتفاقيات ثنائية مع دول الاتحاد فى المستقبل.. لكن الدول الأوروبية الكبرى تتمسك بوضع معايير عامة للاتفاق.. ومفهوم أن الدول الأقل تقدماً من أعضاء الاتحاد، مثل دول أوروبا الشرقية يمكن أن تكون أقل اهتماماً بالنقطة الأخيرة بالذات، نظراً لمستوى تطورها واحترامها الأقل.
للمعايير الأوروبية فى الإنتاج وحماية المستهلك، واعتبارات البيئة والصحة العامة.. إلخ.. ولكن عن تركها وشأنها مع بريطانيا، يمكن أن يجعل الدول الأوروبية الكبرى تخسر مواقع بالغة الأهمية فى أسواقها لصالح بريطانيا.. وهو ما لا تريد دول كألمانيا وفرنسا وإيطاليا بالطبع.
ولذلك فإننا نتوقع أنه حتى النقاط التى سيتم تأجيل حسمها، ستعد الدول الأوروبية الكبرى على أن يكون الاتفاق حولها جماعياً.
اقتصاد وسياسة واستراتيجية..
ولابد من القول إنه على الرغم من الأهمية القصوى لكل الجوانب الاقتصادية للبريكسيت.. فإنها لا تستغرق كل جوانب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، فللقضية جوانبها السياسية والاستراتيجية بالغة الأهمية أيضاً.. وهذا ما يفسر التشدد الأوروبى فى المفاوضات مع بريطانيا، منذ اللحظة الأولى، وهو تشدد يبدو أحياناً أن السياسيين البريطانيين لم يقيموا له الاعتبار الكافى.. أو أنهم راهنوا على حدوث انقسامات فى الصف الأوروبى، يمكن أن تتيح لهم الخروج من التزاماتهم تجاه أوروبا، مع الحفاظ على مزايا السوق الموحد.. وهو ما لم تكن الدول الأوروبية الكبرى لتسمح به إطلاقاً.
وبداية فإن بريطانيا هى قوة اقتصادية كبرى يبلغ ناتجها المحلى الإجمالى (2.9 تريليون دولار).. بما يعادل حوالى سدس الناتج المحلى للاتحاد الأوروبى. وهى ثانية القوى الاقتصادية فى الاتحاد بعد ألمانيا، وخامس قوة اقتصادية فى العالم.. كما أن عاصمتها لندن واحدة من أكبر مراكز المال والأعمال فى العالم.. ولديها منظومة مصرفية عريقة وشديدة التطور.
وقد تأخرت بريطانيا طويلاً فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى (أواخر عام 1972).. وبدأت عضويتها الرسمية فيه منذ أول يناير 1973.. ولم تنضم إلى مجموعة اليورو، بل حافظت على عملتها الرسمية القوية (الجنيه الاسترلينى).. وبالرغم من أن المشاركة فى ميزانية الاتحاد الأوروبى تتحدد على أسس دقيقة، انطلاقاً من الناتج المحلى الإجمالى للدولة، وكذلك مساعدة الدول الأقل تقدماً فى الاتحاد، فإن بريطانيا ظلت دائماً تشكو من أعباء مشاركتها فى نفقات الاتحاد، كما ظلت تشكو من وجود أعداد كبيرة من الأوروبيين فيها (3 ملايين) يتمتعون بميزات ضريبية وفيما يتصل بالتأمين الصحى.. إلخ. مقابل مليون بريطانى فقط يتمتعون بنفس الميزات فى الدول الأوروبية الأخرى، دون أن يضع الساسة البريطانيون أن وجود البنوك والشركات الأوروبية فى بلادهم (المرتبط بعضويتها فى الاتحاد) وموظفى هذه المؤسسات يقدم ميزات اقتصادية هامة لبريطانيا، ويحقق رواجاً اقتصادياً وعقارياً.. إلخ.
ومن ناحية أخرى فإن الارتباط التاريخى بين بريطانيا والولايات المتحدة (لغوياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً).. والصراعات التاريخية بينها وبين كبرى دول القارة (وخاصة ألمانيا وفرنسا) ظل يمثل عنصراً معاكساً لاندماجها فى أوروبا- وظلت دائماً تعتبر الرابطة الأنجلو ساكسونية (مع أمريكا) هى الرابطة الأساسية فى علاقاتها الدولية، بالإضافة إلى ارتباطها بعضوية «الناتو» .
وأدى هذا إلى أن بريطانيا ظلت دائماً عنصر انقسام سياسى فى القارة الأوروبية، وعائقاً دون تبلور (وحدة إرادة) بين دولها القيادية الكبرى.
كما أن سياستها الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة منذ الفوز الكاسح للمحافظين بقيادة (مارجريت تاتشر) فى أواسط الثمانينيات وضعها باستمرار فى وضع مناوىء للسياسات الأوروبية، الأكثر ميلاً للاندماج، وللحفاظ على الحد الأدنى من مقومات دول الرفاه الاجتماعى.
ونظراً للماضى الاستعمارى والامبراطورى القديم، فإن بريطانيا ظلت باستمرار بالغة الحساسية إزاء تطبيق السياسات القارية (الأوروبية) عليها، وظلت هناك باستمرار نبرة الحديث عن (السيادة) والمطالبة بوضع متميز لبريطانيا فى الاتحاد الأوروبى، وبأعباء أقل مما تفرضه قواعد تحديد مشاركة الدول فى موازنته وأعبائه.
الابتزاز.. والورطة
وفى سياق كل ما ذكرناه أقدمت حكومة المحافظين بزعامة (ديفيد كاميرون) على إجراء استثناء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى (البريكسيت).. وهو استفتاء كان كاميرون قد وعد بإجرائه فى سياق ابتزاز أوروبا لتخفيف أعباء بريطانيا من عضوية الاتحاد، واحتواء المعارضة اليمينية داخل حزبه، التى كانت لا تفتأ تطالب بخروج بريطانيا (كما اعترف هو نفسه في كتاب له حول الموضوع بعد إجراء الاستفتاء).
ولكن ما حدث هو أن الناخبين صوتوا لصالح الخروج (52٪ مقابل 48٪) بعد حملة دعائية اتسمت بطابع شعبوى صارخ.. لكن الديمقراطية هى الديمقراطية.. وكان لابد من استقالة كاميرون.. والبدء فى تنفيذ إرادة الناخبين.
وهنا كان خروج دولة بوزن بريطانيا من الاتحاد الأوروبى يوجب على ألمانيا وفرنسا بالذات (قاطرة الاتحاد الأوروبى) تطبيق شروط ميثاق الاتحاد الأوروبى بخصوص الانسحاب منه على بريطانيا بكل صرامة (ميثاق لشبونة).. بما فيه من التزامات تمثل نوعاً من (الشروط الجزائية).. ولا تسمح للدولة المنسحبة بالتمتع بميزات (الاتحاد الجمركى) بالذات، مادامت قد تحللت من التزاماتها التى تفرضها العضوية.. وكذلك أن تدفع أي التزامات مترتبة عليها حتى آخر لحظة من عضويتها فى الاتحاد.
القضية هنا كانت أكبر من ذلك أيصاً.. ذلك أن تسهيل خروج أي دولة من الاتحاد العتيد، يعنى تقويضه فى الحقيقة، ويقدم مثالاً سلبياً يمكن أن تطبقه أي دولة أخرى.
ومن ناحية أخرى فإن مقتضيات المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأولى فى العالم، والطرف الثانى فى التحالف الغربى الكبير (الأطلسى) كانت تقتضى تعزيز وحدة الاتحاد وعدم السماح بحدوث (تمرد) آخر فى صفوفه.. علماً بأن اليمين الشعبوى فى حزب المحافظين، كان يتحدث باستمرار عن إمكانية إقامة اتحاد جمركى مع الولايات المتحدة بديلاً من أوروبا.. علماً بأن هذه فكرة واضحة السذاجة لغياب التكافؤ تماماً فى القوة الاقتصادية بين الطرفين (ناتج محلى أمريكى أكثر من 21 تريليون دولار- وناتج محلى بريطانى أقل من 3 تريليونات دولار)!! وحتی الطرف الشعبوى الأمريكى- دونالد ترامب- الذى شجع بريطانيا بقوة على المضى قدماً فى الانفصال عن الاتحاد الأوروبى، جاء بسياسة (حمائية) واضحة للغاية، ولم يكن ليتبرع لبريطانيا بنصيب من السوق الأمريكى.. هكذا لوجه الله!! وبالتالى قد خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.. لكنها لم تجد الأحضان الأمريكية جاهزة لاستقبالها!!.
وحينما بدأت تتكشف مساوئ (البريكسيت) حاول حزب العمال البريطانى الحديث عن إجراء استفتاء ثان، باعتبار أن الفارق الضئيل فى الأصوات (52٪ مقابل 48٪) لا يمكن أن يكون كلمة نهائية فى موضوع بهذه الخطورة، فإن اليمين المحافظ أصر على رفض الفكرة.. وكانت عجلة محادثات (الخروج) قد دارت بالفعل وأصبح من الصعب إيقافها.. وبديهى أن المفاوضات لم يكن يمكن أن تتم بشروط بريطانيا، الطرف الأضعف فى المفاوضات، و(حصان طروادة) الأمريكى فى أوروبا، الذى ما كان الألمان والفرنسيون ليمنحوه مزايا مقابل خروجه
(وتمرده).. بل كانوا حريصين على أن يجعلوا من خروجه درساً ورادعاً لأي دولة أخرى تفكر فى الخروج من الاتحاد.
*
وجدير بالذكر أن خسائر بريطانيا من (البريكسيت) يمكن أن تكون حافزاً لنزعات انفصالية داخلها، وخاصة بالنسبة لاسكوتلندا، التى سبق وأجرت استفتاء على الانفصال عن بريطانيا، كانت نتيجته فى صالح رفض الانفصال.. لكن من يعرف ما قد تكون عليه النتيجة فى المستقبل.
*
منذ دقائق جاءت الأخبار عن وكالة (رويترز) بالتوصل إلى اتفاق، ولكن دون أي تفاصيل.. غير أن من الضرورى تسليم هذا المقال للنشر.. وبالتالى فإننا مضطرون لتأجيل الحديث عن الاتفاق لمقال آخر.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE