الأموال
الجمعة، 19 أبريل 2024 11:55 مـ
  • hdb
10 شوال 1445
19 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : الحروب التجارية.. وآلام الاقتصاد الأمريكى

الأموال

بلسان ترامب: اعترافات خطيرة.. وادعاءات بالنبوة!!

يبدو أن الرئيس الأمريكى ترامب قد بدأ يشعر بأن الحرب التجارية الضارية التى أشعلها ضد الصين وعدد كبير من دول العالم، يمكن أن تحرق أصابعه هو شخصياً، وأن تؤثر بالسلب على اقتصاد بلاده، وليس على الاقتصاد العالمى عمومًا فحسب، وعلي اقتصادات الدول المستهدفة بضربات واشنطن الرعناء، التى تقوض أسس وقوانين التجارة الدولية.

ترامب صرح في مؤتمر صحفى في البيت الأبيض (الأربعاء 21 أغسطس ـ انظر المواقع والوكالات والصحف 21 و22 أغسطس) بأن سياساته التجارية العنيفة تجاه الصين «ربما تتسبب فى ألم اقتصادى للأمريكيين». وبالرغم من هذا الاعتراف الخطير، فإن الرئيس الأمريكى قال إنه لم يكن لديه خيار آخر سوى فرض تعريفات جمركية أعلى على السلع الصينية معربًا عن اعتقاده بأن ذلك سيكون أفضل وسيؤتى ثماره على المدى البعيد، وإن لم يكن ـ ترامب ـ واثقًا من نتيجته على المدى القصير والمتوسط (!!) وذهب التخبط بترامب إلى حد القول بأن حياته يمكن أن تكون أيسر لو لم يدخل في حرب تجارية مع الصين... «ولكننى أنا الشخص المختار» لإصلاح الاختلال في تجارة الولايات المتحدة مع الصين (!!).. (الأهرام، الخميس 22 أغسطس نقلا عن رويترز والوكالات - ص4) والحقيقة أنه من الغريب والمثير للسخرية أن يلجأ رئيس كبرى دول العالم إلى إضفاء هذه الظلال الدينية والأسطورية على قراراته وتوجهاته ـ «أنا الشخص المختار»!! ـ وفيما يتصل بإدارة علاقات بلاده بدولة أخرى.. ولم يكن ينقصنا إلا أن يقول ترامب إنه يتخذ قراراته بإلهام أو بوحى إلهى!! حاشا لله..

غير أن كلمات ترامب لا تثير السخرية وحدها، بل تثير الفزع أيضًا.. فمن المفزع حقًا أن يفكر ويتحدث بهذه الطريقة رجل يملك بين يديه كل الصلاحيات المتاحة لرئيس الولايات المتحدة بكل ما لديها من قوة عسكرية واقتصادية وسياسية هائلة.. ولانملك إلا أن نحمد الله على أن السيد ترامب لا يملك هذه الصلاحيات الهائلة وحده.. وأن هناك مؤسسات قوية وراسخة تشاركه القرار.. وتملك أن توقفه حين يشتط، وهو ما حدث مرارًا خلال أعوام حكمه التي تقارب ثلاثة أعوام.

وبالعودة إلى اعتراف ترامب الخطير بأن سياساته التجارية العنيفة تجاه الصين ربما تتسبب فى «ألم اقتصادى للأمريكيين» يجب الإشارة إلى قرار مفاجئ كان قد اتخذه بفرض جمارك إضافية بنسبة 10٪ على قائمة من السلع الصينية التى تستوردها الولايات المتحدة، وتبلغ قيمتها 350 مليار دولار.،. ثم عاد منذ أيام فأعلن تأجيل تطبيق القرار حتى منتصف شهر ديسمبر القادم حرصًا على عدم الإضرار بمشتريات المستهلكين الأمريكيين من هذه السلع في الفترة السابقة على أعياد الميلاد (هدايا الأعياد)، لأن فرض رسوم جمركية على هذه السلع يعنى رفع أسعارها بنفس النسبة، ومن ثم التأثير على المبيعات، وبتعبير آخر الإضرار بالتجارة الداخلية في الولايات المتحدة.. وهو أمر لم يكن ليحدث لو كانت هناك سلع أمريكية بديلة مُقاربة فى الأسعار لتلك السلع الصينية، بعد رفع أسعارها.. وبكلمات أوضح فإن عدول ترامب عن قراره المذكور يوضّح أن فارق الأسعار بين السلع الأمريكية ونظيرتها الصينية كبير بحيث إن رفع أسعار الأخيرة بنسبة 10٪ لن تستفيد منه السلع الأمريكية، بينما ستضار حركة التجارة الداخلية وسيغضب المستهلكون.

وتقودنا حقيقة مثل هذه ـ وكثير جدًا غيرها ـ إلى السبب الحقيقى لأزمة العجز التجارى الأمريكى الضخم مع الصين وأغلب الدول الرأسمالية الكبرى والأسواق الناشئة (كالنمور الآسيوية).. نعنى العجز عن المنافسة.. عجز السلع الأمريكية عن المنافسة فى سوق بلادها!! هذه هي الحقيقة المؤلمة التى لا يريد ترامب الاعتراف بها، فيلجأ إلى الإجراءات الحمائية وإشعال الحروب التجارية، وصولا إلى التهديد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية!! وهى المنظمة التى استغرقت المفاوضات من أجل إنشائها سنوات طويلة، وكانت الولايات المتحدة طرفًا أساسيًا وقياديًا فيها.. ولطالما أساءت استغلال حقها فى الاعتراض لمنع التحاق الدول التي لا ترضى عنها بالمنظمة، كالصين وروسيا وغيرهما.

والحقيقة أن كل الإجراءات العنيفة التي اتخذتها الولايات المتحدة ضد الصين عامى 2017 و2018، لم تمنع العجز التجارى الأمريكى مع الصين من الارتفاع بأكثر من 50 مليار دولار عام 2018.. بالرغم من الأضرار التى ألحقتها هذه الإجراءات بالاقتصاد الصينى.. لأن ما يحدث هو أن الصين ـ وأى دولة كبرى أخرى ـ لن تقف مكتوفة الأيدى حينما ترفع أمريكا الرسوم الجمركية على صادراتها، أو تتخذ عقوبات ضدها.. وهذه ما فعلته الصين مع قوائم من السلع الأمريكية، كما أوقفت استيراد عدد كبير من السلع الزراعية الأمريكية، ومنعت تصدير عدد من المعادن شديدة الندرة الضرورية للصناعات الإلكترونية، والتى يصعب على أمريكا الحصول عليها من مصادر أخرى.. وقد جاء هذا الإجراء فى سياق الرد علي الإجراءات التى اتخذها ترامب ضد شركة «هواوى» الصينية العملاقة.

واضح إذن أن ترامب قد بدأ يُدرك أن أساليب غطرسة القوة وحماقتها لن تمر بهذه البساطة التى تصورها في البداية (وحينما نتحدث عن ترامب فنحن لا نتحدث عنه وحده بل باعتباره ممثلاً للتيار اليمينى الشعبوى الأمريكى الذى يرفض الاعتراف بالوقائع الجديدة في الاقتصاد العالمى وفي العالم عموما).. فالاضطراب الذى أحدثته الحرب التجارية فى الأسواق الدولية أدى إلى تراجع نسبة نمو الاقتصاد العالمى، بما فيه الاقتصاد الصينى، لكنه أدى أيضًا إلى تراجع نمو الاقتصاد الأمريكى، لدرجة أن الخبراء يتحدثون اليوم عن أنه يقف على أبواب الركود.. ودون أن تفلح هذه الإجراءات العنيفة وغير المدروسة فى تخفيض العجز التجارى الأمريكى..

بل إن محاولات ترامب لاستعادة رءوس الأموال الأمريكية المستثمرة فى الصين، وتهديداته للشركات الأمريكية العاملة في الخارج بشمول العقوبات الجمركية لها (وهو أمر لا جديد فيه.. لأن الشركة الأمريكية العاملة في الصين مثلا تصدر منتجاتها للولايات المتحدة باعتبارها صادرات صينية).. وكذلك إغراءاته الضريبية.. كل ذلك لم يفلح فى استعادة تلك الشركات إلى «الوطن».. لسبب جوهرى هو ارتفاع أجور العمالة في أمريكا بصورة لا يمكن مقارنتها بالأجور فى الصين أو فيتنام أو تايلاند (ربما أكبر بعشرة أمثال في بعض الحالات)، فضلا عن ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج، وعديد من الخدمات المرتبطة بها، مما يؤدى إلى ارتفاع تكلفة المنتج بصورة كبيرة، ويضعف من قدرته التنافسية في الأسواق الأمريكية نفسها، وفي غيرها من أسواق العالم.. وهكذا ذهبت نداءات ترامب «الوطنية» أدراج الرياح، لأن رأس المال لا وطن له، وهذه إحدى الحقائق الأساسية فى العالم الرأسمالى، التى ينساها أو يتناساها ترامب وأنصاره من اليمينيين الشعبويين الأمريكيين في غمار صيحاتهم لفرض الحمائية وإشعال الحروب التجارية.

الواقع الذى لا يريد صناع السياسة الأمريكية ومفكروها وخبراؤها الاعتراف به هو أن العالم حولهم يتغير.. وأن قوة أمريكا النسبية فى هذا العالم تتقلص، كما أن قدراتها التنافسية تتراجع.. فبعد الحرب العالمية الثانية ـ وفى ظل دمار أوروبا وروسيا واليابان بسبب الحرب ـ كانت أمريكا وحدها تنتج «أكثر من نصف» الناتج المحلى الإجمالي للعالم بأسره.. ولم يكن لدول مثل الصين أو الهند أو البرازيل، والنمور الآسيوية مكان على خريطة العالم الصناعى.. وقد تغير هذا كله تدريجيًا، وفقدت أمريكا نصف وزنها النسبى فى الاقتصاد العالمى، وبرزت الصين كقوة عالمية، وتتجه الهند لأن تكون قوة كبرى، واستعادت الدول الأوروبية الغربية واليابان عافيتها الاقتصادية منذ عقود.

وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي للناتج المحلي الإجمالى عام 2018 إلى أن الناتج المحلى العالمى يبلغ نحو 80 تريليون دولار تنتج أمريكا منها 20.4 تريليون والصين (14 تريليون) واليابان (5.1 تريليون) وألمانيا (4.2 تريليون) وبريطانيا (2.94 تريليون) وفرنسا (2.93 تريليون) والهند (2.85 تريليون) وإيطاليا (2.18 تريليون) والبرازيل (2.14 تريليون دولار) وكندا (1.8 تريليون) فأين هذا من خريطة الاقتصاد العالمى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية.. أو حتى أواخر القرن العشرين بعد انهيار الاتحاد السوفيتى؟

أما من ناحية القدرة التنافسية، فإن التقدم العلمى والتكنولوجى، وتقدم النظام التعليمى، والقدرة علي تعبئة الموارد في دول كالصين واليابان، والدول الأوروبية الكبرى والهند والبرازيل وغيرها، قد أتاح لها تطوير قدراتها الإنتاجية بصورة ضخمة، والاستفادة من دعوات (العولمة) وفتح الحدود أمام السلع ورءؤس الأموال ـ وهى فى الأصل دعوة أمريكية ـ بحيث استطاعت غزو الأسواق العالمية، بما فيها السوق الأمريكية، وتحقيق فوائض تجارية ضخمة معها.. والمفارقة أن هذه الدول كلها تتمسك بدعوى (العولمة) بينما تحاول الولايات المتحدة حماية أسواقها بدعاوى (الحمائية).. بدلا من حرية المنافسة، وخاصة في علاقتها بالصين والنمور الآسيوية، حيث التقدم العلمى والتكنولوجى والأجور الرخيصة يتيحان قدرة تنافسية تفوق القدرات الأمريكية..

ومن ناحية أخرى فإن الولايات المتحدة قد تحولت إلى (غول استهلاكى) رهيب، وأكبر مستورد في العالم.. وساعدها على ذلك وضع الدولار المهيمن في الاقتصاد العالمى، وتحررها من أى قيود علي إصدار عملتها، مما جعلها أشبه بـ«ثقب أسود» أو «بلاّعة كبرى» للواردات من العالم كله.. وهو ما كان لابد أن ينعكس فى النهاية على اقتصادها وقدرتها التنافسية.

وتبدو الحرب التجارية التى تشعلها الولايات المتحدة الآن.. وسياسة بلطجة القوة التى تنتهجها فى كل أنحاء العالم تعبيرًا عن الإصرار على فرض أوضاع تجاوزتها حقائق العصر، وإثارة الفوضى في النظام الاقتصادى العالمى (وفي النظام العالمى عمومًا) والعقوبات التي تطال الأصدقاء والحلفاء والخصوم بلا تفرقة!! وبديهى أن يقابل الآخرون هذا كله بعقوبات مضادة وإجراءات تستهدف الدفاع عن مصالحهم.. وهو ما اضطر ترامب للاعتراف بأنه يتسبب في «ألم للاقتصاد الأمريكى»، ويؤكد الخبراء أنه تراجع فى النمو ووقوف علي حافة الركود..

والحقيقة أن ما يشهده العالم اليوم هو نوع من «تشنجات» أو «مخاض» ميلاد نظام عالمى جديد، متعدد الأقطاب اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، يحل محل النظام أحادى القطبية الذى شهده العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو (النظام ثنائى القطبية»، وهى عملية تاريخية لن تقدر كل إجراءات ترامب أو غيره علي إيقافها مهما فعل، لأنها سُنة الحياة والتطور، وقانون التاريخ.

غير أن من الخطأ الفادح أن نتصور أن هذه العملية ستنتهى بسرعة أو أن الولايات المتحدة ستفقد مكانتها كقوى أولى في النظام العالمي خلال سنوات قليلة، أو حتى خلال عقد واحد، كما يحلم البعض.. فالأرجح أن تستغرق هذه العملية عقودًا من الزمان.. وقد يدفع العالم ثمنًا فادحًا لها..

غير أن هذا حديث آخر، يستحق معالجة مستقلة.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE