د.محمد فراج يكتب: لماذا ألغى ترامب قمة بودابست مع بوتين؟ (2 – 2)
 
		خلافات وانقسامات فى أمريكا وأوروبا –وبينهما- حول الحرب والتسوية فى أوكرانيا
قمم أمريكية روسية قريبا حول أوكرانيا وقضايا التعاون بين موسكو وواشنطن
المواقف والقرارات المفاجئة وحتى المتناقضة من جانب الرئيس الأمريكى أصبحت ظاهرة معروفة على أوسع نطاق فى العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية، وكذلك التراجع عن هذه المواقف والقرارات أو تعديلها بصورة كبيرة أو جزئية بناءً على ردود أفعال الأطراف الأخرى، أو ما يتضح من أن هذه القرارات كانت متطرفة أو مبالغا فيها أو خاطئة أصلا.. وهذا ما تظهره بوضوح مثلا قرارات بشأن فرض الرسوم الجمركية المرتفعة وحربه التجارية العامة على الحلفاء والشركاء والمنافسين على حد سواء.
وصحيح أن التحليل السياسى والاستراتيجى أمر يختلف عن التحليل النفسى، ولكن الرئيس ترامب برهن وخاصة أثناء ولايته الثانية على أنه "ظاهرة فريدة" فى الحياة السياسية الدولية يجتمع فيها خليط من تضخم الشعور بالذات والميل بشدة نحو الأساليب الفردية فى الحكم واتخاذ القرارات، مع أسلوب في التفاوض ينتزع بقوة نحو "التهويش" والتهديد والمبالغة فى رفع شغف التفاوض مع الحلفاء والخصوم على السواء مع استعداد براجماتى فطرى للتراجع جزئيا أو حتى كليا لدى الاصطدام بعقبات جدية وحسب صعوبة هذه العقبات، ومن أبرز الأمثلة على هذا مطالبته بإزالة الحدود السياسية بين الولايات المتحدة وكل من كندا والمكسيك ثم "نسيانه" لهذا المطلب والاكتفاء بفرض رسوم جمركية عالية على الواردات الكندية والمكسيكية!
وبديهى أنه حينما يقدم ترامب نفسه "كصانع للسلام" فى أى مكان فى العالم فإن ثمة مصالح أمريكية تحققها "مبادراته السلمية" من وجهة نظره هو والاتجاه الذى يمثله فى الولايات المتحدة ولكن اللافت للنظر بشدة هو حرص ترامب الكبير على إبراز دوره الشخصى واستحقاقه لجائزة نوبل للسلام مقابل هذا الدور، ومبالغته الشديدة فى تصوير هذا الدور وأهمية الإنجاز حتى قبل تحققه، إلخ إلخ.. وكذلك استجابته العاطفية الواضحة وشعوره بالإحباط حين تبرز عقبات من جانب هذا الطرف أو ذاك!
وغنى عن البيان أن كل هذه الجوانب الشخصية غير المألوفة فى العلاقات الدولية لا تنفي حقيقة أن هناك مصلحة موضوعية للولايات المتحدة من هذا القرار أو هذه المبادرة أو تلك، من وجهة نظر ترامب والاتجاه الذى يمثله فى الحياة السياسية والاقتصادية الأمريكية، وبديهى أيضا أن لدى ترامب من البراجماتية "الوفيرة" ما يجعله يبحث عن طريقة أخرى لتحقيق أهدافه وأهداف بلاده، وهذا ما رأيناه مثلا فى نتائج لقائه مع الزعيم الصينى "شى جين بينج" فى كوريا الجنوبية منذ أيام من اتفاق على تجميد قراره برفع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية بنسبة 100% لمدة سنة مقابل تجميد الصين لقرارها بوقف تصدير المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة ثم تصوير الأمر كانتصار كبير لأمريكا، مع أن كل هذه المعركة لم تكن لتنشب أصلا لولا قرارات ترامب برفع الرسوم الجمركية بنسبة كبيرة على الواردات الصينية.
روسيا لا تحب المزاح!
نفس هذه الأساليب حاول ترامب انتهاجها مع روسيا فيما يتصل باقتراحه لتسوية سلمية للمواجهة المحتدمة بين الدب الروسى وحلف "الناتو" على الأراضى الأوكرانية، فقد أعلن ترامب فور توليه السلطة أن تسوية الأزمة الأوكرانية لا تحتاج أكثر من 24 ساعة ولقاء قمة بينه وبين "صديقه" بوتين، واقتراح بوقف إطلاق النار عند خطوط القتال الحالية ثم بدء مفاوضات سلام، إلخ.
لكن ترامب اصطدم بموقف روسى يرفض وقف إطلاق النار بالطريقة التى يقترحها ويؤكد أن القمة يجب الإعداد لها بطريقة جدية وتفصيلية لكى تكون ناجحة.
وقد تابعنا تطورات الاتصالات بين الطرفين الروسى والأمريكى فى مقالات عديدة بـ"الأموال" على مدى الشهور الطويلة آخرها مقال الأسبوع الماضى حول أسباب إلغاء قمة بودابست التى كانت مقررة بين بوتين وترامب (الأموال، 26/ 10/ 2025) وأوضحنا تفاصيل الموقف الروسى حول ضرورة الربط بين وقف إطلاق النار وأفق التسوية الشاملة التى ترى موسكو ضرورة معالجتها للأسباب الجذرية لنشوب الصراع الحالى، وهو الأمر الذى يعارضه حلفاء ترامب الأوروبيون (وخاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا) ويشجعون الرئيس الأوكرانى زيلينسكى على رفضه، بالرغم من ضغوط ترامب الشديدة، ومن الخفض الجذرى للمساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية لأوكرانيا، واشتراط واشنطن أن يدفع الاتحاد الأوروبى ثمن السلاح الأمريكى لأوكرانيا والامتناع عن تسليمها صواريخ "توما هوك" الهجومية وحتى صواريخ "باتريوت" المخصصة للدفاع الجوى.
وللتذكرة فإن ما تريده الدول الأوروبية الكبرى وخاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا ودول شرق أوروبية مثل بولندا وجمهوريات البلطيق فضلا عن قيادة الاتحاد الأوروبى وقيادة الناتو تلخص بإيجاز فيما يلى:
1 – وقف إطلاق النار فورا مع مطالبة روسيا بالانسحاب من القرم والدونباس أو عدم الاعتراف بضمها لتلك المناطق وإجراء مفاوضات حول انسحابها منها.
2 – اعتراف روسيا بحق أوكرانيا فى الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبى.
3 – وجود قوات من حلف الناتو على الأراضى الأوكرانية لضمان أمنها وأمن دول أوروبا الشرقية الأخرى فى مواجهة أى تهديد روسى أو تدخل فى شئون أوكرانيا.
4 – التزام روسيا بدفع تعويضات لأوكرانيا من أجل إعادة الإعمار
ومطالب أخرى فرعية تدور فى نفس السياق.
وبديهى أن روسيا ترفض كل هذه المطالب رفضا باتا، وتعتبرها استخفافا بالمنطق وبالوقائع القائمة على الأرض، وعلاقات القوى الواقعية (انظر المطالب الروسية فى "الأموال" - 26/ 10/ 2025) ويتساءل الساسة والمعلقون الروس بسخرية: لماذا إذن نشبت هذه الحرب؟؟!!
ويبدو ترامب والاتجاه الذى يعبر عنه فى الولايات المتحدة أقرب إلى الموقف الروسى الذى برهن على قوته بالسلاح ووفى ميدان المعركة، ولهذا نجد أن الرئيس الأمريكى بعد أن أعلن إلغاء قمة بودابست عاد فأكد ضرورة عقد قمة أخرى مع بوتين، ولكن بعد الإعداد لها بصورة جيدة، لكى تحقق نتائج مثمرة.. وتقديرنا أنه يمكن أن تنعقد أكثر من قمة بين الرئيسين الروسى والأمريكى خلال الفترة المتبقية من ولاية ترامب ليس بسبب إصرار الأخير على مواصلة جهده فى تسوية الأزمة الأوكرانية فحسب، وفى إطار رؤية استراتيجية متكاملة ولكن أيضا لأن هناك قضايا سياسية وعسكرية واقتصادية ثنائية ودولية كثيرة يجب بحثها بين الولايات المتحدة وروسيا مع أخذ علاقات القوى العالمية بعين الاعتبار، وكلها قضايا تتصل بمصالح كبرى للدولتين ونأمل أن تُتاح لنا الفرصة قريبا لتناول هذه القضايا.
خلافات استراتيجية عميقة
الواقع أن الخلافات بين الإدارة الأمريكية الحالية والحلفاء الأوروبيين حول المواجهة مع روسيا فى أوكرانيا (وشرق أوروبا) هى خلافات تتصل بالرؤى الاستراتيجية لقضايا الأمن الدولى والنظام العالمى واقتسام النفوذ (وتوزيع الثروة) فى العالم، وهى خلافات موجودة وعميقة فى المجتمع الأمريكى نفسه، ولا يجب أن ننسى أن الولايات المتحدة فى ظل إدارة بايدن والحزب الديمقراطى كانت هى التى تتخذ الموقف الأكثر تشددا تجاه روسيا والأكثر نزوعا نحو التصعيد فى المواجهة حول أوكرانيا، بينما كانت أوروبا تسير خلف واشنطن، وليس معقولا أن تغيير رجل واحد هو الذى أحدث ذلك الانقلاب فى الموقف الأمريكى من العمل على عزل وحصار وإضعاف روسيا وصولا إلى تقسيمها إن أمكن، إلى التقارب معها والسعى لإقامة علاقات وثيقة متعددة الجوانب.
والحقيقة أن السر يكمن فى تعاظم قوة العملاق الصينى المنافس الأول للولايات المتحدة على النفوذ فى العالم من ناحية، وفى ثبوت حقيقة أن قوة روسيا العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية – التكنولوجية هى أكبر بكثير مما كان معتقدا فى الغرب من ناحية أخرى، حتى أن الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما صرح ذات مرة قائلا: "إن روسيا هى مجرد قوة إقليمية"!! وهو ما ثبت – بما لا يدع مجالا للشك – أنه خطأ فادح فى التقدير.
وإذا كان من المتفق عليه بين المنظرين والخبراء الاستراتيجيين ورجال السياسة والاقتصاد الأمريكيين والغربيين أن الصين هى الخطر الأكبر على النفوذ الأمريكى والغربى، وأن المواجهة العالمية القادمة ستكون معها، فإن تصعيد المواجهة مع روسيا ودفعها إلى التحالف مع الصين يعنى تشكيل قوة عالمية يستحيل على الغرب هزيمتها، وبالتالى يجب العمل على عدم دفع الدب الروسى على تعزيز تحالفه مع التنين الصينى.
هذا بالضبط ما يحاول أن يفعله ترامب والاتجاه الذى يعبِّر عنه، وهو عكس ما كان يفعله بايدن والديمقراطيون، وما تحاول أن تفعله الدول الأوروبية الكبرى من إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وهو أمر ثبتت استحالته فى ميدان القتال، وبالرغم من العقوبات الاقتصادية الأوروبية بالغة القسوة، التى ثبتت عدم فاعليتها وانقلبت على أصحابها بأضرار فادحة.
ومن ناحية أخرى فإن روسيا هى أكبر دول العالم من حيث المساحة (17 مليون كم2) وهى أغناها بالموارد الطبيعية، بما فى ذلك موارد الطاقة والمعادن الثمينة والنادرة الضرورية للصناعات التكنولوجية المتطورة، فضلا عن سوقها الضخم وتقدمها الصناعى والتكنولوجي المشهود، وبالتالى فإن العلاقات الاقتصادية والتجارية معها تتيح للولايات المتحدة فرصا هائلة من الغباء إهدارها، علما بأن كل محاولات حصار وتقزيم روسيا أو تقسيمها قد ثبت فشلها، وهى مستحيلة عمليا بسبب تقدمها العسكرى الكبير وبالتالى فإن المتعاون معها يظل هو السياسة الأكثر صوابا، فضلا عما يؤدى إليه ذلك من استغنائها عن وضع كل بيضها فى "السلة الصينية" وتمكينها من إقامة علاقات متوازنة مع مختلف الدول والتكتلات الدولية دون أن يعنى هذا إضعافا كبيرا لارتباطها بالصين أو ترك التنين الأصفر وحيدا فى مواجهة الغرب، أو فض الشراكات والتحالفات من قبيل البريكس ومنظمة شنغهاى.
ونقول من جانبنا إن هذا قد يكون سبيلا للانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب بطريقة أقل عنفا وصداما وألمًا، بغض النظر عن نوايا الأمريكيين أو الأوروبيين، وهى نوايا لا يمكن عموما الاطمئنان إليها لأنهم كلهم إمبرياليون واستعماريون وإن اختلفت بينهم الرؤى فى سبيل تحقيق نفس المصالح، سواء كانوا داخل أمريكا أو على جانبى المحيط الأطلنطى.
وجدير بالذكر أن الانقسامات فى الرؤى الاستراتيجية داخل أمريكا موجودة أيضا فى أغلب الدول الأوروبي الكبرى (والشرقية) بين النخب الحاكمة التى تميل إلى تأجيج المخاوف من "الخطر الروسى" وإلقاء المزيد من المليارات "وحبذا لو كانت أمريكية!" فى البئر الأوكرانية من ناحية وبين الاتجاهات اليمينية والشعبوية بالذات لكن هذا موضوع يطول شرحه وقد نعود إليه قريبا، ويمكن لمن شاء الرجوع فى هذا الشأن إلى مقالنا حول مخاطر عسكرة أوروبا على السلام العالمى (الأموال، 15 يونيو 2025).
وخلاصة القول إنه إذا كان قد تم إلغاء قمة بودابست فإنه يحق لنا توقع قمم أخرى بين ترامب وبوتين وربما فى المستقبل القريب.













 
		 
		 
		 
		