القيثارة والسماء بقلم: الادبية زينب علي درويش

حلَّقت تلك اليمامة، صاحبةُ الجمالِ الممزوجِ بشموخِ الملكاتِ العريقات، فوقَ الأراضي الجرداء والعامرةِ بخيراتِ الله، وهي تحملُ رسالةَ خيرٍ وحبٍّ لمن يستحق.
وبينَ صبحٍ وضُحاه، لمحت تلك الأرضَ السوداء، تنبضُ أرواحُها من كثرة الألم، وتتعالى من حولها آهاتٌ تتكسّر بين أنهارٍ من الأحلام الغارقة في كلماتٍ واهيةٍ، وحروفٍ تائهةٍ لا حياةَ فيها.
ظلّت تُحلّق، وكادت تبكي من تلك البذور التي قُتلت قبل أن تنبضَ في أحشائها الحياة، فكانت أثرًا من وجودٍ تلاشى قبل أن يولد.
تمسّكت بالرسالة خوفًا أن تسقط على تلك البقعة التي خُرّبت بضبابية القلوب، وفرّت هاربةً لتصلَ إلى مغزاها، حيث العدلُ والرحمةُ والإيمان.
وحين أرادت أن تمحوَ من ذاكرتها ما رأت ومرّت به، انهمرت عليها أمطارُ الخير والنماء، وكأنها تغسل عنها همومها وتعيد إليها شموخها القديم.
التقطت أنفاسها، ونزلت لتسكن بين أعشاش الطيور، منتظرةً فجرًا جديدًا.
وأثناء انتظارها مرورَ الليل، سمعت همسًا يقول:
"إن هذا الليل لن ينتهي... إلا حين تستيقظ القلوب من غفلتها."
تأكّدت حينها أنها أخطأت للمرة الثانية في النزول على أرضٍ غير صالحة.
وبينما كانت تفكّر متى تأتي اللحظة المنتظَرة...
سقطت عليها شِباكٌ أفقدتها القدرة على التحليق.
حاولت أن ترى من سلبها حريتها، فإذا برجلٍ يحمل وجهًا منهكًا من تعب السنين، يكاد يفقد شبابه تحت وطأة الزمن.
كان يُحدّق فيها طويلاً، وكأنه يبحث في ريشها عن سرّ الجمال الخفي.
ثم ابتسم ابتسامةً دافئة، وبدأ يتغزّل في جمالها وتفرّدها بهذا التميّز الفريد.
توقّفت عن المقاومة، واستسلمت للصيّاد.
تمتمت بصوتٍ منكسرٍ لا يكاد يُسمع:
"لقد فقدتُ حريّتي..."
فشعر براحةٍ غامرةٍ، وقال:
"من اليوم... أنتِ قيثارتي."
زاد بردُ الفجر، فأخذها ليُشعرها بالدفء،
لكنها أدركت في أعماقها أن الدفءَ الذي منحها إيّاه
كان أوّلَ خيطٍ من أسرٍ جديدٍ، لا يُكسر إلا بالتحليق.
انتظرت حتى أسكنها في قفصٍ من حديدٍ ملوَّنٍ بألوانٍ زاهية، تشبه ملابس الأعياد،
لكنها كانت مقيدةً بين قضبانٍ باردة.
زرفت دمعةً ساخنةً تفور عند سقوطها، إذ كانت نيتها نقية، تحمل الخيرَ والحبَّ لمن يستحق.
اقترب منها مرةً أخرى، وفي يده طعامٌ وماءٌ بارد،
يريد أن يصون تلك القيثارة الجميلة من الذبول.
ومع مرور الأيام، قلّ أكلها وبهت بريقُ عينيها، فخاف عليها وتمتم بدهشةٍ:
"كيف يبهت الجمال حين يُسجَن؟
كنتُ أردتكِ قريبةً لا أسيرة، لديكِ زادكِ وأمنُكِ،
لكن يبدو أن الحرية جناحُ الروح، إن كُسِرَ مات الطيران."
ثم فتح باب القفص وهو حزينٌ لفراقها، وأطلقها مع بداية يومٍ جديد.
حلّقت اليمامةُ نحو السماء، وقد تخلّصت من ثقل الألم،
لكنها عادت قليلًا، وتركت على عتبة القفص رسالةً صغيرة.
قرأها الصيّاد، فإذا بها تقول:
"أردتُ الخيرَ لمن يستحق،
فوجدتُه في من تعلّم أن الحبَّ لا يُملك، طوالحريةُ لا تُهدى، بل تُفهم."