أسامة ايوب يكتب: ”طوفان الأقصى” هو الذى فجر تسونامى الاعترافات بدولة فلسطين

الاعترافات بالدولة تبقى رمزية حتى تتحقق ولا تكون دولة افتراضية
تعهدات ترامب لقادة عرب ومسلمين مشكوك فى تنفيذها
إن تعهد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى اجتماعه على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بقادة دول عربية وإسلامية الأسبوع الماضى وقت كتابة هذه السطور.. سواء بإنها الحرب فى غزة أو منع نتن ياهو من ضم الضفة الغربية من خلال خطة أمريكية تتضمن 21 بندًا سوف يتم إعلانها غدا الاثنين.. هذا التعهد يبقى مرهونًا بمصداقية ترامب واحترامه لتلك التعهدات.
إذ إن ثمة شكوكًا تظل قائمة فى تنفيذ ترامب لتعهداته وذلك على خلفية سوابقه فى المراوغة وتضارب تصريحاته ومواقفه فى سياساته الداخلية والخارجية خاصة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وانحيازه الأعمى ودعمه غير المحدود لمجرم الحرب نتن ياهو ضد الشعب الفلسطينى وحقوقه المشروعة مع ملاحظة أن هذه الشكوك أبداها بعض المسئولين العرب دون أن يفصحوا عن أسمائهم.
...
لكن يبقى السؤال: لماذا هذا التغير الدراماتيكى المفاجئ من جانب ترامب بدعوته لقادة دول عربية وإسلامية لإبلاعهم بتلك التعهدات لوقف الحرب فى غزة ومنع ضم الضفة الغربية، الإجابة تكمن فى الصدمة السياسية العالمية الكبرى بعد اعتراف أكثر من 142 دولة.. بينها دول كبرى ومنها حلفاء أمريكا الأوروبيون خاصة بريطانيا وفرنسا، إذ إن تلك الاعترافات الدولية أوقعت ترامب وأمريكا في حرج أمام شعوب وحكومات العالم والشعب الأميركى أيضًا، حيث بدت واشنطن معزولة عن إرادة تلك الدول مثلما كشفت عزلتها لوقوفها ضد الاعتراف بالدولة الفلسطينية وضد مقررات الشرعية الأممية والقانون الدولى وضد الشعب الفلسطينى الذى يتعرض لأبشع حرب إبادة فى التاريخ وهى الإبادة التي ينكرها ترامب!
ثُمَّ إن هذا التغير المفاجئ النسبى فى موقف ترامب بالتعهد بإنهاء الحرب فى غزة ومنع نتن ياهو من ضم الضفة الغربية جاء بدافع التغطية على رفضه المتماهى مع رفض نتن ياهو لإقامة الدولة الفلسطينية وعلى النحو الذى بدا عدائيًا ونشازًا أمام العالم، غير أن تعهدات ترامب المشكوك في تنفيذها من غير الممكن أن تكون كافية لتبييض ساحته وساحة أمريكا بدون الانضمام لإجماع حكومات وشعوب العالم فى الاعتراف بدولة فلسطين خاصة أن أمريكا منذ عهد كارتر كانت الراعية للسلام فى الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل، وهى الرعاية التى ظلت تراوح مكانها طوال العقود السابقة، ثم حولها ترامب إلى رعاية لإرهاب الدولة الإسرائيلية.
...
ولذا فإنه ما لم يعترف ترامب بدولة فلسطين تنفيذًا لاستحقاق حل الدولتين الذى يحظى بإجماع العالم وأقرته أمريكا، وما لم يستخدم النفوذ الأمريكى فى ردع نتن ياهو وإجباره – باعتبار أنه النفوذ الوحيد الذى تخضع له إسرائيل– على الانصياع للشرعية الدولية والتخلى عن المخططات اليهدية الاستيطانية التوسعية وكذلك التراجع عن ممارساته الإرهابية والاعتراف بالدولة الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع اسرائيل.
.. ما لم يفعل ترامب كل ذلك فإنه فى حقيقة الأمر يلحق ضررًا كبيرًا بإسرائيل مثلما يلحق أضرارًا بمصالح أمريكا فى المنطقة العربية.. آجلًا أو عاجلًا، إذ سوف يُسجل التاريخ أنه شوَّه صورة أمريكا كدولة كبرى متحضرة من المفترض أنها راعية لحقوق الإنسان فى العالم.
...
إذا كانت الصدمة الكبرى التى تلقاها مجرم الحرب نتن ياهو باعتراف غالبية دول العالم بالدولة الفلسطينية قد أصابته بحالة من السعار السياسى جعلته يهزى ويهدد بكل صلف وغطرسة بأنه سيرد على تلك الاعترافات بإجراءات عقابية ضد الشعب الفلسطينى بعد عودته من نيويورك، وهى التهديدات التى تعنى -بحسب تصريحاته وبحسب موافقة الكنيست- ضم الضفة الغربية والتى ينتوى جعلها أراضى يهودية خالصة وأيضا مواصلة حرب تدمير غزة وإبادة شعبها وتهجيره قسريا.
.. فإن ذات الصدمة أصابت أيضا الرئيس ترامب راعى إرهاب دولة اسرائيل، إذ خرج على القواعد السياسية والدبلوماسية وهاجم دول العالم التى اعترفت بدولة فلسطين.. مكررا ومرددا تصريحات نتن ياهو بأنه لا دولة فلسطينية، ثم إنه فى سياق هذا الخطاب جاء هجومه غير اللائق من جانب رئيس أكبر دولة فى العالم على الأمم المتحدة التى وصفها بأنها لا تفعل شيئا لإيقاف الحروب فى العالم! بينما جاء ادعاؤه الذى أذهل العالم وأضحكه بأنه شخصيا نجح فى إيقاف 7 حروب دون أن يذكر مكان تلك الحروب التى أوقفها! ثم إن المثير للسخرية فى هجوم ترامب على المنظمة الأممية وفى مزاعمه الوهمية عن نجاحه فى إيقاف 7 حروب أنه هو الذى يشعل الحروب بحسب دعمه اللامحدود ومشاركته فى الحرب على غزة وقتل وإبادة شعبها.. متغافلا فى نفس الوقت أنه استخدم الفيتو لمنع صدور قرار من مجلس الأمن قبل أيام يقضى بإيقاف الحرب في غزة أى أنه فى واقع الأمر ضد وقف الحروب على عكس ما ادعى!!
...
لكن يبقى أن الزخم السياسى العالمى الذى أحدثته اعترافات غالبية دول العالم بالدولة الفلسطينية خاصة حلفاء أمريكا الأوروبيين وحيث كان رفع العلم الفلسطينى فوق مقر البعثة الفلسطينية فى لندن حدثا تاريخيا لا تخفى دلالته خاصة مع تحول البعثة إلى سفارة فلسطين لأول مرة فى بريطانيا.. هذه الاعترافات وإن كانت رمزية تعد فى حقيقة الأمر انتصارا كبيرا وإن تأخر لنحو ثمانية عقود.
رغم أهمية ودلالات تلك الاعترافات الرمزية بالدولة الفلسطينية إلا أنها فى الحقيقة تفتقد إلى آليات فاعلة وتتطلب جهودا مكثفة ومعقدة لتحقيقها على أرض الواقع فى مواجهة الرفض الاسرائيلى والأمريكى، خاصة فى سياق خطاب التضليل من جانب ترامب ونتن ياهو اللذين يزعمان أن إقامة دولة فلسطينية ستكون مكافأة لحركة حماس "الإرهابية" بينما الحقيقة أن عرقلة إقامة الدولة ستكون مكافأة لإرهاب الدولة الذى تمارسه إسرائيل ولإرهاب مجرم الحرب نتن ياهو أكبر إرهابى فى العالم فى العصر الحديث، كما أن إقامة الدولة ليست مكافأة للشعب الفلسطين ولكنها حقه المشروع.
...
وإذا كان مجرم الحرب نتن ياهو يدعى كذبًا أن إقامة الدولة الفلسطينية تمثل خطرا وجوديا على دولة اسرائيل، فإن الحقيقة التى سوف يدركها فى مستقبل قريب وسوف يدركها يهود إسرائيل والعالم وسوف تدركها أمريكا سواء فى عهد ترامب أو بعده هى أن عدم إقامة الدولة الفلسطينية واستمرار الاحتلال والتوسع الاستيطانى هو الخطر الوجودى المؤكد على بقاء إسرائيل، حيث سيزول هذا الكيان المصطنع فى فلسطين وفى المنطقة العربية، حيث سيعود اليهود مرة أخرى إلى الشتات وإلى الدول التى جاءوا منها.. هربا من كراهية شعوب تلك الدول لهم، ولذا فإن على يهود إسرائيل إدراك أن بقاءهم وبقاء دولتهم المصطنعة مرهون بإقامة الدولة الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع دولتهم تنفيذا لقرار التقسيم الذى أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 بإقامة دولتين.. يهودية وعربية فلسطينية وهو القرار الذى تأخر تنفيذه طوال ثمانية عقود.
إن تنفيذ قرار التقسيم وإقامة الدولة الفلسطينية لن يتحقق باعتراف غالبية دول العالم ولكنه يتطلب بالضرورة حشدًا عربيا وإسلاميا يضم حكومات 57 دولة يمثلون ملياري مسلم وعربى لتنسيق الجهود مع كل دول العالم المعترفة بالدولة لإجبار إسرائيل بالقوة على اختلاف معايير القوة للانصياع لإقامة الدولة الفلسطينية والانصياع لمقررات الشرعية الأممية والإجماع الدولى، وذلك حتى لا تبقى هذه الدولة المعترف بها دولة افتراضية فى الفضاء الكونى دون أن تتحقق على أرض فلسطين فى هذا الكوكب.
...
تبقى ملاحظة بالغة الأهمية فى اعترافات بعض الدول خاصة بريطانيا وفرنسا إذ تنطوى على شائبة ومغالطة بحق المقاومة الفلسطينية، حيث تصف حركة حماس بالإرهاب وهى مغالطة تتغافل عن أن المقاومة المسلحة للاحتلال في عمل مشروع بحسب القانون الدولى والمرجعيات الأممية خاصة أن عملية "طوفان الأقصى" وبحسب تصريحات أنطونيو جوتيريش أمين عام الأمم المتحدة لم تأت من فراغ لكنها كانت ردا على ممارسات وإرهاب الاحتلال ضد الشعب الفلسطينى فى مدن وبلدات الضفة الغربية وفى انتهاك حرمة المسجد الأقصى، نقول ذلك رغم كل التقدير لإقدام تلك الدول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
...
تبقى أخيرا الملاحظة الأهم وتتعلق بانتقاد وهجوم بعض الدوائر العربية الرسمية وغير الرسمية على حركة حماس واتهامها بل وإدانتها لمسئوليتها عن عملية "طوفان الأقصى" فى تغافل منطقى عن أن "طوفان الأقصى" كان عملية مقاومة مشروعة ضد ممارسات وقمع وإرهاب اسرائيل وأنه الذى أعاد القضية الفلسطينية إلى دائرة بل بؤرة الاهتمام العالمى على نحو غير مسبوق طوال ثمانية عقود بعد أن كانت قد تراجعت بل توارت تماما، ثم إن "طوفان الأقصى" هو الذى كشف وفضح الأكاذيب والسرديات الإسرائيلية أمام العالم خاصة بعد حرب الإبادة والتجويع والتدمير التى شاهدتها شعوب العالم على الهواء مباشرة وانتفضت تضامنا مع الشعب الفلسطينى وضد جرائم مجرم الحرب نتن ياهو المطلوب للعدالة الدولية مما اضطر الحكومات خاصة الأوروبية التخلى لأول مرة عن انحيازها الأعمى لإسرائيل واعترفت بالدولة الفلسطينية.
...
إن "طوفان الأقصى" هو الذى فجر تسونامى الاعترافات بالدولة الفلسطينية الذى داهم مجرم الحرب نتن ياهو وراعية ترامب، ذا لزم التأكيد والتنويه.