أسامة أيوب يكتب: اليوبيل الذهبى للدفعة الأولى بإعلام القاهرة.. والكلية فى غيبوبة!!

لعلى لا أبالغ إذا قُلت إن حدثا أكاديميا وتاريخيا مهما يتعين أن يتصدر المشهد الإعلامى والصحفى المصرى هذا الأسبوع، وهو مرور خمسين سنة على تخرج الدفعة الأولى في كلية الإعلام بجامعة القاهرة.. أول كلية من نوعها فى مصر والعالم العربى.
وإذ يتهيأ خريجو هذه الدفعة الذين أتشرف بأنى أحدهم لإحياء هذه الذكرى الغالية، فإن حقيقة الأمر هى أن هذه الذكرى هى التى تحيينا رغم مرور كل تلك السنوات الطويلة.
ففى مثل هذه الأيام منذ نصف قرن وتحديدا فى يوم 10 يونيو 1975.. أعلنت كلية الإعلام نتيجة امتحانات البكالوريوس والتى كانت بنسبة 100%.. إيذانًا بتخرج أول دفعة فكان ذلك حدثا مهما فى تاريخ الدراسات الإعلامية والصحفية الأكاديمية فى مصر والعالم العربى، والتى انطوت على نقلة نوعية غير مسبوقة.
هذه النقلة النوعية تبدت بوضوح مع تخرج هذه الدفعة وبداية انخراط خريجيها فى احتراف المهنة، حيث بدا أن ثمة دماء جديدة ومختلفة قد تدفقت بقوة فى شرايين الإعلام المصري سواء فى بلاط صاحبة الجلالة أو فى الفضاء الإعلامى.. التليفزيونى والإذاعي، إذ اتسم أو بالأحرى تميز أداؤهم بمهارة وكفاءة مهنية ناتجة عن ممارسة فعلية للمهنة خلال تدريب عملى مكثف ومتقدم خلال سنوات الدراسة الأربع مضافًا إليها رصيد ضخم من الدراسات النظرية ليس فى مجال الإعلام فقط بل فى مختلف العلوم، ومن ثم كان ذلك التميز الذى شهدت به قيادات الإعلام والصحافة.
> > >
الأمر الآخر هو أن هذه الدفعة اتسمت بخصوصية اكتسبتها من ريادتها الدراسية ثم فى مخاطرة خريجيها الشجاعة بقرار الالتحاق بكلية الإعلام والذى كان قرارا بخوض المجهول رغم أنها تحمل اسم معهد الإعلام قبل أن يتحول إلى كلية بعد سنتين دراسيتين، وحيث كان الالتحاق بذلك المعهد من خارج مكتب التنسيق وبعد اجتياز اختبارين تحريري وشفوي بشرط ألا يقل مجموع الدرجات فى الثانوية العامة عن 65% بينما كان غالبية المقبولين من الحاصلين على مجموع درجات أكبر بكثير وأهلهم للقبول بكليات القمة، ومع ذلك فقد سحبوا أوراقهم من تلك الكليات وفضلوا معهد الإعلام.
غير أن نجاح هؤلاء المقبولين فى الاختبارات لم يكن فقط بسبب تفوقهم فى الثانوية العامة، خاصة أن كثيرين من أصحاب المجاميع الكبرى لم ينجحوا في الاختبارات ولم يقبلوا فى المعهد، وهو الأمر الذى كان يعنى أن الفيصل فى القبول كان الاستعداد الفطرى والعلمى لدراسة الإعلام واحترافه والمستند إلى رصيد ثقافى ومعلوماتى وسياسى وإلمام بقضايا الوطن واهتمام بالشأن العام، وعلى النحو الذى أكد شغف المقبولين فى الدفعة الأولى بالصحافة والإعلام بوجه عام.. المسموع والمرئى.
> > >
منذ اليوم الأول للدراسة بالسنة الأولى فى معهد الإعلام بدأت مسيرة طويلة لهذه الدفعة امتدت لما بعد التخرج وطوال نصف قرن، وكان لافتًا ذلك الحشد الكبير من المقررات الدراسية فى مختلف العلوم التى تلقاها طلاب هذه الدفعة على أيدى عمالقة وأساتذة كبار فى تخصصاتهم والتى شملت علوم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا السياسية والفلسفة والاتصال الجماهيرى والعلوم السياسية والاقتصاد والترجمة الصحفية واللغتين العربية والانجليزية والدراما، والأدب والفن الإذاعى والهندسة الإذاعية والتصوير الفوتوغرافى الصحفى والإحصاء والرياضيات، وحيث كان المستهدف أن يكون دارس الإعلام مُلمًا بمختلف الثقافات والعلوم وعلى النحو الذى يؤهله للعمل الإعلامى بعد التخرج مستندًا إلى رصيد ثقافى ومعلوماتى، ولذا انطوت الدراسة بمعهد ثم كلية الإعلام مع هذه الدفعة على نقلة نوعية فى مجال الدراسات الأكاديمية الإعلامية.
> > >
ومع هذا الحشد الدراسى العلمى والأكاديمى، فإن محور الدراسة ارتكز فى الأساس على التدريب الصحفى منذ السنة الدراسية الثانية لكل الطلاب قبل التخصص فى السنة الثانية حيث تحول إلى تدريب مكثف وممارسة مهنية فعلية لطلاب قسم الصحافة فى السنتين الثالثة والرابعة، ومع ذلك فإن هذا التدريب الصحفى أفاد كثيرا الذين التحقوا مع التخصص فى قسمى الإذاعة والتليفزيون والعلاقات العامة والإعلان، خاصة مع افتقاد هذين القسمين لأى برامج تدريبية.
هذا التدريب الصحفى كان النقلة النوعية الحقيقية إلى جانب النقلة النوعية العامة فى الدراسات الإعلامية بالكلية، وهو التدريب العملى الذي استحدثه الأستاذ الكبير جلال الدين الحمامصي أحد عمالقة الصحافة المصرية من خلال إصدار جريدة تحت اسم “صوت الجامعة” لتكون بمثابة المعمل الصحفى وهو اسم المادة التى كان يدرسها طوال ثلاث سنوات.
> > >
جريدة “صوت الجامعة” التى كانت تصدر يوم الاثنين من كل أسبوع والتى صارت منذ صدورها جريدة عامة تباع داخل الجامعات ومع باعة الصحف مثلها مثل الصحف الكبرى، لم تكن صوتا معبرًا فقط عن الجامعات المصرية، بل كانت صوتا جامعيا طلابيا معبرا عن كل قضايا الوطن، وفى هذه الجريدة مارس طلاب الدفعة الأولى العمل الصحفى الاحترافى من الألف إلى الياء، بداية من الحصول على الخبر من مصادره وصياغته الصياغة الصحفية المهنية والتحقيقات الصحفية والحوارات وأخبار الرياضة والحوادث والقضايا والإخراج الصحفى، بل المقالات أيضا والتى كانت تمثل ذروة الأداء الصحفى، حيث سمح أستاذنا الحمامصى للطلاب بكتابتها فى إقرار منه لقدرتهم واجتيازهم للتدريب وصلاحيتهم لاحتراف الصحافة.
تجربة «صوت الجامعة» الثرية فى مدرسة أستاذنا جلال الدين الحمامصى كانت بالغة الثراء.. مهنيا وسياسيا، حسبما أكده الأداء المهنى المتميز لخريجيها منذ التخرج وطوال مسيرتهم العملية والذين شهد لهم بصلاحية كل منهم لتولى رئاسة تحرير الصحف وقيادة الإعلام، إذ سرعان ما لمعت أسماؤهم فى الصحافة المصرية والتليفزيونية والإذاعة وكان من بينهم أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام ومحمود صلاح رئيس تحرير مجلتى آخر ساعة وأخبار الحوادث ومحمود الهوارى رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم، وفتحى سند الذى كان أول من تولى منصب رئيس تحرير من خريجى الدفعة حيث تولى تأسيس ورئاسة تحرير أخبار الرياضة، ومحسن حسنين رئيس تحرير مجلة أكتوبر، وصلاح مصطفى رئيس التليفزيون، وعمر أنور رئيس القناة الثقافية، وغيرهم ممن تولوا كافة المناصب القيادية فى الصحافة المصرية، وكان من بينهم أيضا الراحل أحمد القويسنى الذى كان سفيرا ومساعدا لوزير الخارجية، وسعيد مصطفى كامل الذى تولى منصب المحافظ.
ثراء تجربة الدفعة الأولي مع أستاذنا الجليل جلال الدين الحمامصى تبدى أيضا فى حالة الليبرالية التى كانت محورا مهما فى تلك التجربة عبر حراك وتفاعل سياسى ديمقراطى مارسناه معه وتقبله بل شجعنا عليه، ذلك أنه كان فارسا من فرسان الصحافة الحرة.. مُدافعًا عن حرية الرأى والتعبير. مؤيدا للحق فى الاختلاف معه حتى لو كان مع تلاميذه والذين كانوا مؤهلين لهذا الحراك الديمقراطى الذى كان دافعا للمخاطرة والالتحاق بمعهد الإعلام.
> > >
ولقد كان الزخم الأكاديمى الذى أحدثه إنشاء معهد الإعلام سببا فى تطلع طلاب الثانوية العامة للالتحاق به خاصة بعد ذيوع أخبار نجاح تجربة “صوت الجامعة”، وهو نفس الزخم الذى دفع جامعة القاهرة إلى تغيير اسم المعهد إلى كلية، والتى صار القبول بها من خلال مكتب التنسيق وحيث صارت من كليات القمة بعد سنتين فقط من بدء الدراسة بالمعهد، ولعل دواعى الإنصاف التاريخى ودقة التوثيق تقتضى الإشارة إلى أن ما انطبق على الدفعة الأولى ينطبق أيضا على الدفعة الثانية والتي توقفت بتخرجها تجربة “صوت الجامعة” وأغلقت مدرسة جلال الدين الحمامصى الصحفية المتفردة وغير المسبوقة والتى لم تتكرر.
> > >
هذه السطور هى محاولة فى عجالة لتوثيق قصة الدفعة الأولى فى كلية الإعلام التى بدأت فى منتصف شهر أكتوبر 1971 والتى لم تتوقف فصولها وأحداثها بالتخرج، ولكنها طالت وصارت رواية طويلة عمرها 54 سنة، وأحسب أنها سوف تطول لسنوات قادمة وسوف يظل خريجوها يتداولون أحداثها وذكرياتها لما لها من خصوصية طوال حياتهم.. أطال الله أعمارهم، بل لست أبالغ إذا قلت إن قصة هذه الدفعة سوف تظل بخصوصيتها وريادتها باقية في سجل تاريخ الصحافة والإعلام فى مصر والعالم العربى، ولعل تلك الخصوصية هى ما تفسر تفردها بحرص خريجيها على استمرار التواصل طوال تلك السنوات وحتى الآن.
يبقى أخيرًا أنه من المؤسف بل من العجيب أن تغفل إدارة كلية الإعلام الحالية عن هذه المناسبة التى من المفترض أنها معنية بها فى المقام الأول، باعتبار أن مرور 50 سنة على تخرج أولى دفعاتها يمثل لها عمقًا تاريخيا أكاديميا، ولكنها لم تنتبه إلى الحدث ولم تدرك أهميته لها على الأقل، وما كان لها أن تنتظر حتى ينبهها أحد.
هذه الغيبوبة الأكاديمية والتاريخية التى تغط فيها إدارة الكلية تنطوى على غيبة إدراك لأهميتها وريادة الدفعة الأولى، ولذا فإنى نيابة عن زملائى نعتذر عن قبول أى محاولة لتدارك هذا الإغفال من جانبها وسوف نحتفل بالمناسبة فى لقاء قادم للدفعة على غرار كل اللقاءات الدورية منذ ثلاثين سنة.