الأموال
الخميس، 2 مايو 2024 12:36 صـ
  • hdb
22 شوال 1445
2 مايو 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : أزمة الغذاء العالمية.. الأسباب الحقيقية وسبل ‏المواجهة (٢‏‎)‎

د.محمد فراج ابو النور
د.محمد فراج ابو النور


أزمة الغذاء العالمية مشكلة خطيرة تهدِّد بحدوث ‏مجاعة يعانى منها عشرات الملايين من البشر، ‏وخاصة فى الدول الفقيرة والأشد فقرًا، ولذلك فإن ‏الوقوف على أسبابها الحقيقية أمر ضرورى ‏بصورة مطلقة، لكى يُمكن معالجة هذه الأسباب ‏وحل الأزمة. ويفرض هذا التعامل بجدية ‏وبمسئولية عن حياة البشر حينما يتحدث أى ‏سياسى أو إعلامى أو خبير اقتصادى عن هذه ‏المشكلة، وألا يتم استخدامها بصورة مغرضة ‏لإدانة هذا الطرف أو ذاك، أو دعم وجهة نظر ‏سياسية بعينها على حساب الحقيقة، لأن هذا ‏يؤدى إلى توجيه الاهتمام والجهود فى اتجاه ‏خاطئ، وترك المشكلة تتفاقم، والضرر يقع على ‏ملايين البشر المطلوب إنقاذ حياتهم أو تخفيف ‏الضرر عنهم‎.‎
ومعروف أن أزمات الغذاء تتكرر بصورة شبه ‏دورية عمومًا لأسباب تتصل بالكوارث الطبيعية ‏من جفاف أو فيضانات أو زحف التصحر على ‏الأراضى الزراعية مما يؤدى لتدمير المحاصيل ‏في بعض المناطق وذلك على خلفية زيادة ‏السكان، وخاصة في الدول النامية والأشد فقرًا ‏بنسبة تسبق زيادة الموارد الطبيعية وتطوير ‏الإنتاج الزراعى، والأمر الأكثر أهمية هو أن ‏السياسات الزراعية فى أغلب دول العالم تهدف ‏لتحقيق الربح وخدمة مصالح الشركات العملاقة ‏وكبار منتجى الحبوب ومختلف السلع الغذائية، ‏أكثر مما تهدف إلى تلبية احتياجات أوسع جماهير ‏السكان للغذاء بأسعار تتناسب مع دخولهم، وهذا ‏حديث يطول شرحه، ولا يتسع له المقام هنا‎.‎
أما بالنسبة للأزمة الحالية، فالثابت أنها بدأت مع ‏تفشى وباء «كورونا»، وما صاحبه من إغلاقات ‏واسعة النطاق للمؤسسات الاقتصادية «بما في ‏ذلك مصانع الأسمدة الضرورية للزراعة» ‏والاضطراب الكبير في منظومة التجارة الدولية ‏والنقل البحرى، فضلاً عن التضخم المرتبط بطبع ‏كميات هائلة من النقود، وخاصة في الولايات ‏المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، وغيرها من ‏الدول الغنية، وهو التضخم الذى فاقمت منه أزمة ‏الطاقة العالمية المرتبطة بصورة وثيقة بالعقوبات ‏الغربية ضد روسيا، ومن ثمَّ الارتفاع الهائل فى ‏أسعار موارد الطاقة، ومختلف السلع الصناعية ‏والزراعية، بما فيها المواد الغذائية بالطبع‎.‎
ثم جاءت الحرب في أوكرانيا والمواجهة الشاملة ‏بين الغرب وروسيا، وما صاحبها من عقوبات ‏اقتصادية قاسية، وارتباك فى سلاسل التوريد ‏لتفاقم من هذه الأزمات المترابطة.. ولكن ليس ‏لتخلقها أصلا، كما يحاول السياسيون ‏والإعلاميون الأمريكيون والأوروبيون أن ‏يقنعونا‎.‎ومعروف أن روسيا هى أكبر مصدِّر للقمح فى ‏العالم بنسبة تبلغ حوالى ٢٠٪ من الصادرات ‏العالمية، وأن أوكرانيا هى خامس أكبر ‏المصدرين، بنسبة تتراوح بين (٨ - ٩٪)، كما ‏يسيطر البلدان على ٢٧٪ من صادرات الشعير ‏و١٧٪ من صادرات الذرة، التى تمثل ثلاثة ‏أرباع مكونات أعلاف المواشى والدواجن، علاوة ‏على إسهامهما بحوالى ٧٥٪ من زيت عباد ‏الشمس، الأكثر استخدامًا فى العالم من أنواع ‏الزيوت النباتية‎.‎
وبالإضافة إلى ذلك فإن روسيا تصدِّر ١٧٪ من ‏الأسمدة الأزوتية «النيتروچينية» و١٥٪ من ‏أسمدة البوتاسيوم حسب المصادر الدولية (راجع ‏‏«الأموال» - ١٩/ ٦/ ٢٠٢٢‏‎).‎
ونود أن نلفت النظر إلى خلط شائع فى عديد من ‏الكتابات والتقارير، بين التصدير والإنتاج.. ‏فكثيرًا ما يتم ذكر أرقام التصدير على أنها أرقام ‏الإنتاج أو العكس، أما في الحقيقة فإن الصين ‏والهند هما أكبر منتجى القمح في العالم على ‏التوالى، لكن أعداد السكان الهائلة فيهما تجعلهما ‏بحاجة لإنتاجهما «بالكامل تقريبا» ولا تصدِّران ‏إلا كميات قليلة وغير مؤثرة، فى أعوام ‏المحصول الوفير‎.‎
الأزمة بين الدعاية والحقائق
مع نشوب الحرب الأوكرانية كان من الطبيعى أن ‏تتفاقم الأزمة الناشبة أصلا منذ أيام تفشى ‏‏«كورونا»، وقد أعلن عدد من الدول المصدِّرة ‏للقمح والحبوب عن وقف صادراتها مؤقتًا، أو ‏فرض قيود عليها، خوفًا عن مواجهة نقص فى ‏الإمدادات لديها، وكانت روسيا بين هذه الدول.. ‏ثم عادت فخففت القيود، وأعلنت أنها لن تصدِّر ‏إلا للدول الصديقة، وستمنع الصادرات عن الدول ‏‏«غير الصديقة».. أى المشاركة في العقوبات ‏ضدها.. واتخذت نفس الموقف فيما يخص ‏الأسمدة. ولنلاحظ أن روسيا هى أكبر الدول ‏المصدِّرة للقمح (٣٧.٥ مليون طن عام ٢٠٢٠ - ‏مقابل ٢٦.١ مليون طن لأمريكا، و٢٦ مليون ‏طن لكندا، و١٩.٧ مليون طن لفرنسا، و١٨ ‏مليون طن لأوكرانيا‎).‎
غير أن الجزء الأكبر من الصادرات الروسية قد ‏توقف بسبب العقوبات، وخاصة بسبب مصاعب ‏حركة السفن في البحر الأسود في ظل مخاطر ‏الحرب، وامتناع شركات التأمين وإعادة التأمين ‏عن التعامل مع الشحنات الروسية، لهذا السبب ‏وأيضًا بسبب إبعاد أغلب البنوك الروسية عن ‏منظومة «سويفت‎».‎
أما أوكرانيا فقد قامت بتلغيم موانئها لمنع ‏الأسطول الروسى من دخولها، كما فرض هذا ‏الأسطول حصارًا بحريًا على تلك الموانئ، لكن ‏من المهم ذكر أن صادرات القمح الأوكرانية لم ‏تتوقف تمامًا، بل انتقل جزء منها إلى الموانئ ‏الرومانية.. أو إلى التصدير بالقطارات عبر ‏بولندا والمجر وسلوفاكيا.. وإن كان من المؤكد أن ‏حركة هذه الصادرات قد ارتبكت‎.‎
وقد أشرنا فى الجزء الأول من هذا المقال ‏‏«الأموال ١٩/ ٦» إلى حديث لوزير الزراعة ‏الأوكرانى نفسه ذكر فيه أن إجمالى محصول ‏الحبوب المخزون في بلاده «قد يصل» إلى ٢٣ ‏مليون طن من القمح والشعير والذرة وبذور عباد ‏الشمس وغيرها، منها «خمسة ملايين طن» ‏لأزمة الاستهلاك المحلى، وبديهى أن الوزير ‏الأوكرانى لن يقلل من حجم مشكلة بلاده، بل إن ‏الأرجح أنه سيلجأ إلى تضخيمها‎.‎
‎< < <‎
ومن ناحية أخرى فإن الرئيس الروسى بوتين قدم ‏اقتراحًا من شقين‎:‎
الأول: أن تقوم أوكرانيا بإزالة الألغام التي ‏نشرتها حول موانئها.. ويفتح الأسطول الروسى ‏ممرًا إنسانيًا لعبور شحنات القمح والحبوب ‏وتوفير الحماية للسفن التى تنقلها، وهى مبادرة ‏يفترض أن تشارك تركيا في تنفيذها، لأن ‏المبادرة صدرت بعد محادثات بين بوتين ‏وأردوغان.. علمًا بأن تركيا دولة عضو فى حلف ‏‏«الناتو‎».‎
الشق الثانى: أن يتم رفع العقوبات عن روسيا، ‏على أن تتعهد بتصدير ٥٠ مليون طن من ‏الحبوب فورًا، فضلا عن الأسمدة التى أدى نقص ‏إمداداتها إلى ارتفاع صاروخى في أسعارها، ‏وأضاف بوتين نقطة أخرى إلى هذا الشق من ‏مبادرته، تقضي برفع العقوبات الغربية عن ‏بيلاروسيا لتقوم بتصدير ما لديها من أسمدة «وهى ‏دولة متقدمة ومنتج معتبر فى هذا المجال» علاوة ‏على ما لديها من مخزون القمح الذى لا تستطيع ‏تصديره بسبب العقوبات الغربية الشاملة ‏المفروضة عليها‎.‎
‎< < <‎
لكن أوكرانيا وأمريكا وبريطانيا، والدول ‏الصناعية السبع الكبري، والمفوضية الأوروبية، ‏كلها رفضت هذه المبادرة وطالبت روسيا برفع ‏الحصار عن الموانئ الأوكرانية فورًا، مع رفض ‏العرض الروسى بتوفير ٥٠ مليون طن من القمح ‏فورًا، بالإضافة إلى ملايين الأطنان من الأسمدة‎.‎
وحملت تلك الدول كلها روسيا مسئولية الأزمة ‏الغذائية المتفاقمة متهمة إياها بارتكاب «جريمة ‏حرب» ودفع العالم نحو المجاعة.. وأصبحت هذه ‏النغمة هى السائدة فى الإعلام الغربي وأحاديث ‏السياسيين الغربيين خلال الفترة الأخيرة‎.‎
‎< < <‎
أسئلة لا يمكن تجاهلها
هنا تبرز أسئلة لا يمكن للمراقب الموضوعى أن ‏يتجاهلها‎:‎
أولها: إذا كانت الصادرات العالمية من القمح تبلغ ‏حوالى مائتى مليون طن، وإذا كان مخزون ‏أوكرانيا من جميع أنواع الحبوب يبلغ- حسب ‏شهادة وزير زراعتها نفسه (٢٣ مليون طن) منها ‏خمسة مطلوبة للاستهلاك المحلى.. أى أن القابل ‏للتصدير يبلغ (١٨ مليون طن).. وإذا كانت كل ‏صادرات أوكرانيا تبلغ (١٨ مليون طن).. ‏والموسم الآن فى نهايته، ويفترض أن يكون كل ‏ما بقىَّ منها هو الربع أو الثلث.. فهل خمسة أو ‏ستة ملايين طن من القمح هي التى ستتسبب في ‏المجاعة العالمية؟‎!!‎
السؤال الثانى: إذا كان بوتين يعرض توفير ٥٠ ‏مليون طن من القمح والحبوب، فضلا عن تسهيل ‏خروج المخزون الأوكرانى (بمجموع يبلغ حوالى ‏سبعين مليون طن).. فضلا عن الإفراج عن ‏الصادرات الروسية الأوكرانية الضخمة من القمح ‏والحبوب (حوالى ٥٥ مليون طن من القمح وحده ‏‏- منها ٣٧.٥ مليون من روسيا و١٨ مليوناً من ‏أوكرانيا) وفضلا عن الإفراج عن صادرات ‏روسيا وأوكرانيا من بقية أنواع الحبوب، وعن ‏زيت عباد الشمس (حوالى ٧٥٪) من الإنتاج ‏العالمى.. وعن صادرات الأسمدة الروسية ‏والأوكرانية البيلاروسية.. فهل هذا أكثر جدوى ‏لحل الأزمة- أو على الأقل التخفيف منها بشدة- ‏أم الإصرار على حصر القضية فى المخزون ‏الأوكرانى؟!! علمًا بأن إنتاج روسيا المتوقع من ‏القمح وحده هذا العام يبلغ ٨٧ مليون طن‎ (RT - ‎‏٢٨‏‎/ ‎‏٣‏‎/ ‎‏٢٠٢٢‏‎)..‎
السؤال الثالث: وإذا كان الأمر كذلك فمن هو ‏الطرف الذى يُصر على تعقيد الأزمة، ودفع ‏عشرات الملايين من البشر نحو المجاعة؟‎!!‎
السؤال الرابع: إذا كانت أمريكا والدول الغربية ‏تفرض العقوبات غير المسبوقة على روسيا ‏وتعلِّن ليل نهار أن هدفها هو تدمير الاقتصاد ‏الروسي، واستنزاف موسكو.. الخ.. علمًا بأن هذه ‏العقوبات مفروضة خارج إطار الأمم المتحدة، ‏وأغلب دول العالم ترفضها، وإذا كان هناك إقرار ‏غربى عام حاليًا بأن العقوبات قد فاقمت الأزمة ‏الاقتصادية العالمية، وانعكست سلبًا على ‏الاقتصادات الغربية نفسها.. فهل من حق أمريكا ‏ودول الاتحاد الأوروبى والدول السبع الكبرى أن ‏تتمسك باستمرار العقوبات.. وفي الوقت نفسه ‏تطالب روسيا برفع حصارها عن الموانئ ‏الأوكرانية دون مقابل؟؟!! أى أن تستسلم بهدوء ‏للخنق والتدمير؟؟!! هل هذا من الواقعية في ‏شىء، وخاصة في ظروف المواجهة الشاملة ‏الجارية، والحرب المشتعلة؟؟‎!!‎
والسؤال الخامس: هل المطلوب إنقاذ حياة ‏عشرات الملايين من البشر من غائلة المجاعة.. ‏أم دفع روسيا وبوتين «بجريمة الحرب» ‏والمسئولية عن تجويع الناس؟؟ ومن المسئول ‏أصلا عن إشعال المواجهة الشاملة والحرب في ‏أوكرانيا؟؟
ليست سياسة توسيع «الناتو» شرقًا ووضع ظهر ‏روسيا للحائط هى المسئولة عن هذه المواجهة، ‏والحرب التى تنعكس آثارها شديدة السلبية على ‏العالم بأسره؟؟
وللحديث بقية عن انعكاسات هذه الحرب على ‏مصر وعلى المنطقة.. وسبل تجاوز أزمة الغذاء ‏العالمية‎.‎

مصر للطيران
أزمة. الغذاء. العالمية.
بنك الاسكان
NBE