الأموال
الخميس، 18 أبريل 2024 09:26 مـ
  • hdb
9 شوال 1445
18 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : حماية الصناعة الوطنية أم حماية الاحتكار؟!

الكاتب الصحفى د.محمد فراج أبوالنور
الكاتب الصحفى د.محمد فراج أبوالنور

ماذا يريد رجال الأعمال؟!

قرار وزيرة التجارة والصناعة بوقف العمل بقرارين سابقين بفرض رسوم وقائية على واردات البليت وحديد التسليح ومنتجات الألومنيوم، هو قرار صائب من حيث المضمون والتوقيت على السواء، ومع ذلك فقد أثار القرار اعتراضا شديدا من جانب بعض رجال الأعمال، الذين طالبوا الوزيرة بإعادة النظر في قرارها بدعوى أنه سيؤدى إلى إغراق السوق المصرية والتأثير سلبا على الصناعة المحلية. بينما الحقيقة أن القرار سيؤثر سلبا على الأرباح الاحتكارية الفاحشة التى يجنيها هؤلاء دون مبرر على الإطلاق. والحقيقة أن موقف رجال الأعمال المذكورين يثير قضايا أوسع من قضية صناعة الحديد- بالرغم من أهميتها البالغة- قضايا تتصل بمفهوم حرية السوق والاحتكار والمنافسة، وحقوق المستهلكين، ونظرة رجال الأعمال إلى مصالح الاقتصاد القومى، وغيرها من القضايا الهامة التى سنجىء إلى مناقشتها فى مكانها من مقالنا.

قرار الوزيرة نيفين جامع بوقف العمل بالقرارين رقم ٩٠٧ لسنة ٢٠١٩ و١٦٨ لسنة ٢٠٢١ الخاصين بفرض تدابير وقائية على واردات البليت وحديد التسليح كان الدافع إليه ارتفاع أسعار حديد التسليح بصورة مبالغ فيها كثيرا إذا ما قورنت بالأسعار العالمية «حسبما جاء فى التقرير الموسع المتميز الذى نشرته جريدة «الأموال»، الأحد ٢١ نوفمبر ٢٠٢١، وأعده الأستاذ محمود سيد حاحا» إذ يشير التقرير إلى أن أعلى مستوى لأسعار الحديد في الأسواق العالمية يبلغ «٧٤٠ دولارا/ سبعمائة وأربعين دولارا»، ويبلغ في كل من السعودية والإمارات «٦٠٠/ ستمائة دولار» للطن، بينما وصلت به الممارسات الاحتكارية فى مصر إلى قرابة الألف دولار!! (أكثر من ١٥ ألف جنيه)!! بسبب الممارسات الاحتكارية لبعض المنتجين. والأكثر من ذلك أن هؤلاء كانوا قد بدأوا فى «تعطيش السوق» وسط شائعات عن ارتفاع وشيك لسعر الطن إلى ١٨ ألفا أو حتى ٢٠ ألف جنيه!! مما أثار حالة من البلبلة وعدم الاستقرار فى الأسواق، وهذه ممارسات احتكارية يفترض أن يعاقب عليها القانون، وإذا كان المقصود من الرسوم الوقائية «الحمائية» أن تحمى المنتج المحلى من المنافسة الأجنبية غير العادلة، وسياسات «الإغراق» التى تلجأ إليها بعض الدول.. فليس مقبولا أن يلجأ حيتان الاحتكار إلى رفع السعر بدرجة تتجاوز كل حدود المعقول.. ونعيد إلى الذاكرة أن سعر الطن فى السعودية والإمارات يبلغ «٦٠٠/ ستمائة دولار.. أى حوالى عشرة آلاف جنيه» وفى السوق العالمية يبلغ «أعلى سعر» حوالى «سبعمائة وأربعين دولارا.. أى أكثر بقليل من ١٢ ألف جنيه»، بينما يبيعه حيتان الاحتكار «بخمسة عشر ألف جنيه أو أكثر» ويريدون رفعه إلى «ثمانية عشر أو عشرين ألفا»!! فى إساءة استغلال بالغة للحماية التى توفرها الدولة للصناعة المحلية.
ومن ناحية أخرى فإن المصانع القادرة على إنتاج البليت عددها (٤) فقط وهى تنتج ما يكفيها لمصانع الدرفلة التى كانت تعانى من ارتفاع أسعار البليت «بسبب رسوم الحماية» وبالتالى فلم تكن قادرة على العمل بكامل طاقتها الإنتاجية. وهذا ـ فى حد ذاته ــ إضرار لاشك فيه بالصناعة المحلية، ويحرم السوق من إنتاج يحتاجه بصورة ماسة.

ضربة لحيتان الاحتكار

ولا يخفى ما يمثله حديد التسليح من نسبة مرتفعة فى تكلفة الإنشاءات والمبانى السكنية، الأمر الذى يجعل رفع سعر الحديد ينعكس على تكلفة الإنشاءات وأسعار الشقق السكنية، ولا يستفيد من هذا إلا حيتان الاحتكار.
لهذا فإن قرار وزيرة التجارة والصناعة هو قرار صائب من حيث المضمون والتوقيت، ويُقدِّر الخبراء أن القرار سيؤدى إلى انخفاض سعر طن الحديد بمبلغ ٢٠٠٠ جنيه الأمر الذى يؤدى إلى تقليص تكلفة الإنشاءات بدرجة ملحوظة، ومن ثم إلى إنعاش هذا القطاع، كما يؤدى وقف تحصيل رسوم الحماية على واردات البليت إلى إنعاش نشاط مصانع الدرفلة الصغيرة، ومن ثم إلى زيادة العرض من حديد التسليح، ومن ثم إلى تضييق الخناق على الممارسات الاحتكارية، ومحاولات «تعطيش السوق» من جانب حيتان الاحتكار، ومن هنا فإن معارضة هؤلاء لقرار وزيرة التجارة والصناعة تكون مفهومة تمامًا.
الحماية.. وحدودها.. وضوابطها
المفروض أن فرض رسوم وقائية أو «حمائية» على الواردات من أي سلعة، هو إجراء تهدف الدول من خلاله إلى توفير الحماية للإنتاج المحلى من المنافسة غير العادلة الناشئة عن انخفاض أسعار الواردات على اختلاف أسبابه.. ومنها لجوء بعض الدول المصدِّرة لانتهاج سياسات إغراق لأسواق معينة، أو عمومًا، بهدف تعزيز القدرة التنافسية لإنتاجها فى الأسواق العالمية، أو أن تكون أجور العاملين فى هذا البلد أو ذاك زهيدة، بما يجعل تكلفة الإنتاج تنخفض، أو يكون مستوى التقدم التكنولوجى وارتفاع الإنتاجية فى البلد المصدر سببا في انخفاض تكلفة إنتاج هذه السلعة أو تلك.. أو انخفاض سعر صرف الدول المنافسة مقابل الدولار والعملات الصعبة الرئيسية، وغير ذلك من الأسباب.
لكن حماية الإنتاج المحلى لا يمكن أن تكون سياسة عامة مطلقة فى جميع الأحوال وطوال الوقت، بل يجب أن تكون سياسة مرنة ومرتبطة بظروف وتوقيات محددة، وإلاّ تحولت مظلة الحماية إلى سبب لتعطيل تطور الصناعة الوطنية وقدرتها على المنافسة ارتكانًا إلى هذه الحماية فضلا عن أن المجتمع «أو المستهلك» هو الذى يدفع ثمنها لصالح المنتجين المحليين.. وهذا وضع لا يمكن أن يكون مفتوحا بلا قيود.. والمفروض هو أن يتجه المنتجون المحليون لتطوير منشآتهم من الناحية التكنولوجية ورفع إنتاجيتها بحيث ترتفع قدرتها التنافسية، وتصل إلى تحقيق مصلحة المستهلكين فى الحصول على سلعة جيدة بسعر مناسب، وفي أسرع وقت ممكن.
ومن ناحية أخرى فإن «الحماية» تنطوى على إمكانية نشوء وضع احتكارى أو شبه احتكارى للسوق إذا تم تركها مفتوحة دون حدود أو قيود وأن يستغلها بعض المنتجين لجنى أرباح احتكارية فاحشة، وهو الوضع الذى جاء قرار وزيرة التجارة والصناعة لمواجهته، كما أوضحنا فى بداية مقالنا، وهكذا نجد هؤلاء يرفعون رايات «الوطنية» والدفاع عن الصناعة المصرية، إذا تم المساس بمظلة الحماية التى يتمتعون بها، بينما هم فى الحقيقة يدافعون عن أرباحهم الفاحشة، ويبتزون المجتمع والدولة بدعواهم الوطنية الزائفة، بينما يرفع هؤلاء عشيرتهم بالدفاع عن قوانين السوق وحرية الاقتصاد، إذا تدخلت الدولة لضبط ممارساتهم فى جوانب أخرى، ولا يمنعهم ذلك بالطبع من المطالبة بتعظيم «دعم الصادرات» بدلا من الاهتمام بتطوير قدراتهم التنافسية، إذا كان هذا يحقق مصالحهم، علمًا بأن هذا يتم من خلال الموازنة العامة «أى أموال الشعب».
وهكذا مثلا نجد أن منتجى الملابس الجاهزة يطالبون الدولة بحماية إنتاجهم من المنافسة الأجنبية ليحافظوا على هامش ربح مُبالغ فيه على حساب المستهلك، الذى يجد أمامه ملابس مستوردة أفضل فى النوعية وأرخص فى السعر، بدلا من أن يعمل هؤلاء على تطوير إنتاجهم والاكتفاء بهامش ربح أقل، بما يعزّز قدرتهم التنافسية.

قوانين السوق.. حسب المقاس المناسب!

والأصل أن قوانين السوق حتى فى أعتى المجتمعات الرأسمالية تمثل حزمة متكاملة لكل منها وظائفه.. ولا تستطيع كل مجموعة من رجال الأعمال أن «تنتقى» منها ما يناسبها، وتترك ما لا يناسبها، لأنها فى هذه الحالة ستعتدى على حقوق رجال الأعمال الآخرين، فضلا عن حقوق العاملين والمجتمع، فالاحتكار مرفوض لأنه يقضى على المنافسة، التى هى أداة لتطوير الإنتاج والإنتاجية، وتتيح للمستهلك الحصول على منتج أفضل بسعر أقل، وحماية الملكية الخاصة لها وظائفها الاجتماعية والاقتصادية، لذلك لا يسمح المجتمع الرأسمالى بالمساس بها إلا لأسباب اجتماعية قوية جدًا وبمقابل عادل.. والرقابة على جودة المنتجات حق ثابت للمستهلك لا يمكن التفريط فيه، وحماية حقوق العاملين، بما فى ذلك تأميناتهم الاجتماعية ومعاشاتهم وغيرها من حقوق تم اكتسابها واعتراف المجتمع بها عبر نضال طويل، والضرائب التصاعدية باعتبارها حق المجتمع ومصدر الإنفاق العام.. إلخ.. إلخ.
أما لدينا فإن رجال الأعمال ــ إلا من رحم ربى ــ فيطالبون بالدعم حينما يكون مناسبا لهم، ويرفضونه بالنسبة للفقراء!! ويريدون حماية حقهم فى المنافسة حينما يكون هذا محققا لمصالحهم، ويريدون الاحتكار حينما يحقق لهم مكاسب لا يمكن تحقيقها في ظل المنافسة، ويتهربون من الضرائب أو يماطلون فى دفعها، ويرفضون مبدأ الضرائب التصاعدية ولا يريدون الالتزام بحقوق العاملين.. ثم يحتجون على قيام الدولة بدور فى النشاط الاقتصادى، باعتبار أن هذا حق لهم وحدهم!! ويمتنعون عن الدخول فى المشروعات الإنتاجية الكبرى لأنها تحتاج إلى رءوس أموال كبيرة، وتنطوى على مخاطرة لا يرغبون فيها، ويريدون خصخصة مشروعات الدولة بأبخس الأسعار، دون أن يمثل هذا قيمة مضافة من أى نوع للإنتاج الاجتماعي، بل يمثل نوعًا من نقل الملكية شبه المجانى لمشروعات اقتصادية كبرى إلى حيازتهم!!
وهذا كله فهم مشوَّه لقوانين السوق.. لا يبنى اقتصادًا ولا مجتمعًا وليس له نظير فى أى مجتمع رأسمالى تقليدى أو رشيد، وعواقبه على السلام الاجتماعى والأمن القومى، وخيمة إلى أبعد حد، ولا يمكن أن يسمح به المجتمع ولا الدولة، لذلك فإن رجال الأعمال فى جميع القطاعات الاقتصادية وليس فى مجال صناعة الحديد وحدها بحاجة إلى مراجعة شاملة لأفكارهم ومفاهيمهم حول الاقتصاد الحر وقوانين السوق، إذا كنا نريد حقًا أن نبنى اقتصادًا قويًا متطورًا، وأن نحتل المكان الجدير بمصر بين دول العالم المتقدمة.

مصر للطيران
الصناعة الوطنية الاحتكار
بنك الاسكان
NBE