الأموال
الجمعة، 26 أبريل 2024 03:35 مـ
  • hdb
17 شوال 1445
26 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب :العدوان التركى على سوريا.. كشف حساب الخسائر والمكاسب

الأموال


تشير كل الشواهد وتطورات الأحداث إلى أن الولايات المتحدة وتركيا لا
تريدان للحرب على سوريا أن تضع أوزارها، وإلى أنهما تصرّان على الاستمرار
فى استنزاف هذا البلد العربى الشقيق وإنهاك قواه إلى أقصى حد يمكن، وعلى
بذل كل ما بوسعهما من جهد لتقسيمه والاستيلاء على ما يمكن سلخه من
أراضيه، ونهب ثرواته. وتشترك كل من واشنطن وأنقرة فى هذا الهدف الكبير،
بالرغم من تباين بعض أهدافهما التفصيلية أو المرحلية، أو الاختلاف على
نصيب كل منهما من الغنائم، و«المشاجرة الحامية» بينها حول حدود العدوان
التركى الأخير على الشمال السورى «منطقة شرق الفرات».
ومعروف أن هذا العدوان قد تم بضوء أخضر أمريكى، بعد مكالمة هاتفية بين
الرئيسين الأمريكى ترامب، والتركى أردوغان، سبقتها مفاوضات ومناوشات
طويلة حول رغبة تركيا في إقامة «منطقة آمنة» بطول حدودها مع الحدود
الشمالية لسوريا، وصولاً إلى الحدود العراقية، وبعمق ٣٢ كم بدعوى إقامة
حاجز قوى ضد «الإرهاب الكردى».. حيث تنتشر التجمعات الكردية الرئيسية في
المنطقة الجنوبية الشرقية منها، بامتداد الحدود السورية والعراقية..
بينما تنتشر التجمعات الكردية السورية في المناطق الشمالية.. وتدعى تركيا
أن المناطق الكردية السورية تمثل عمقًا وملاذا آمنا لحزب العمال
الكردستانى (التركى).. كما يمثل الحزب الديمقراطى الكردستانى (السورى)
ذراعًا لشقيقه التركى..
ضوء أخضر لأردوغان
وحينما أعلن ترامب انسحاب القوات الأمريكية المنتشرة شمال شرقى سوريا،
فقد كان واضحًا له ولجميع المراقبين، أنه بذلك يعطى الضوء الأخضر
لأردوغان لاجتياح المنطقة، بما يعنيه ذلك من تدمير «للإدارة الذاتية»
التى يسيطر عليها الأكراد.. وقضاء ما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية/ قسد»
التي تمثل قوات الحزب الديمقراطى الكردستانى «وحدات حماية الشعب» العمود
الفقرى لها.. وهى الإدارة والقوات التى كانت تمثل نواة لمشروع «دولة
كردية» انفصالية، تسيطر على ما يقرب من ثلث مساحة سوريا، وتنتج نحو ٦٠٪
من بترول البلاد، ويحتوى باطنها على الجزء الأكبر من احتياطياته (٢.٥
مليار برميل).. كما يوجد بها حوالى ٦٠٪ من المياه العذبة والأراضى
الزراعية الخصبة.. وذلك بالرغم من أن الأكراد يمثلون أقل من ربع سكان
المنطقة، بينما يمثل العرب أكثر من نصف السكان، بالإضافة إلى أقليات
عرقية أخرى من الشركس والأشوريين والأرمن وغيرهم..
ونظرًا لأن الولايات المتحدة قد استثمرت كثيرًا في إنشاء وتعزيز قوة
«قسد» و«الإدارة الذاتية» الكردية، وللعلاقات الوثيقة بين الأكراد
وإسرائيل، فإن البنتاجون وأجهزة المخابرات كانت دائماً ضد انسحاب القوات
الأمريكية من المنطقة، وحينما اتخذ ترامب العام الماضى قرارًا بسحب الجزء
الأكبر من هذه القوات من الشمال السورى، فإن أجهزة الدولة العميقة عطّلت
تنفيذ القرار بدرجة كبيرة، واستقال وزير الدفاع احتجاجًا عليه.
مسرحيات ترامب
وحينما اتخذ ترامب قراره الأخير بالانسحاب الكامل من شمال شرق سوريا،
ثارت عليه «الاستابليشمنت» واعتبرت قراره تخليا عن الأكراد و«بيعًا» لهم
إلى أردوغان، وأجبرته على إعادة نحو ألف جندى وأعداد ضخمة من الدبابات
والمدرعات إلى محافظتى «الحسكة» و«دير الزور» «شمال شرق سوريا» لحماية
حقول البترول والغاز ومنع وقوعها فى أيدى الجيش السورى أو الأتراك الذين
كانوا يتلمظون عليها، وكان أردوغان قد أعلن أنه يعد قوة خاصة للاستيلاء
عليها!!
كما اتخذ مجلس النواب الأمريكى قرارًا بفرض عقوبات على بعض الشخصيات
التركية.. والأهم أنه اتخذ قرارًا بإدانة المذابح التركية ضد الأرمن
(١٩١٥/ ١٩١٦) التى مرّ عليها أكثر من قرن، باعتبارها «جريمة إبادة جماعية
للجنس».. وثارت واشنطن ثورة عارمة ضد ترامب، الذى اضطر لإرسال نائبه
ووزير خارجيته لتحذير أردوغان بصورة صارمة بسبب المجازر التى بدأ يرتكبها
حلفاء جيشه من الإرهابيين والمرتزقة الموالين لأنقرة، والذين يرافقون
قوات الجيش التركى، وكذلك بشأن عمليات الطرد الجماعى لسكان المناطق التى
دخلها الأتراك من منازلهم.
وعاد أردوغان لتهديد تركيا بالتدخل العسكرى ضدها!! وكأنه لم يكن يعرف ما
سيحدث!! وليدافع عن عودة القوات الأمريكية لاحتلال حقول البترول والغاز
السورية، مستخدماً لغة القراصنة وقطاع الطرق وقائلا إن أمريكا لابد أن
يكون لها نصيب من هذه الثروة البترولية!! بالإضافة لأهمية إنتاجها لتغطية
احتياجات القوات الأمريكية، واحتياجات حلفائها الأكراد.. وللعلم فإن
احتياطيات هذه الحقول تبلغ نحو ٢.٥ مليار برميل، وهو ما يساوى نحو ١٥٠
مليار دولار بالأسعار الحالية، وإن كان الإنتاج قد تدهور بسبب الحرب
الطويلة والتدمير الجزئى لبعض الحقول والإدارة البدائية وغياب
الاستثمارات الضرورية لتطويرها.. إلاّ أنها تدر حاليًا مكاسب صافية تبلغ
مليون دولار يوميًا، أى ٣٠ مليون دولار شهريا.. و(٣٦٠ مليون دولار)
سنويا.. وأعلن ترامب أنه سيرسل شركة أمريكية لاستغلال وتطوير حقول الحسكة
ودير الزور.
بوتين يقلب الطاولة
إذا كان قرار ترامب الانسحاب من سوريا بمثابة ضوء أخضر لأردوغان لشن
عدوان على المنطقة، فإنه كان بالنسبة للأكراد إخطارًا بأن ترامب قد
«باعهم».. وأنهم يواجهون خطرًا ماحقًا على أيدى الجيش التركى وحلفائه من
الإرهابيين والمرتزقة السوريين الآتين في ركابه.. ولذلك فقد كان عليهم
اتخاذ قرار سريع بإنهاء حالة المواجهة مع دمشق والاحتماء بالقوات الروسية
من المذبحة المرتقبة.
>> وهكذا قامت روسيا بعملية وساطة عاجلة بين دمشق والقوات الكردية وحلفائها «قسد» ترتب عليها الاتفاق علي تسليم المواقع الكردية للقوات السورية المتحالفة مع القوات الروسية، لتمثل هذه القوات حاجزًا بين الأكراد والجيش التركى.. ونظرًا لأن موسكو تحتفظ بعلاقات لا بأس بها مع الأكراد، وكانت تحاول تقريب مواقفهم مع دمشق طوال الأعوام الماضية، بالرغم من علاقتهم الوثيقة للغاية بالأمريكية (ولاحظ هنا الطابع البراجماتى لعلاقات جميع الأطراف بعضها ببعض)!! المهم أنه نظرًا للعلاقات بين موسكو وكل من دمشق والأكراد فقد أمكن ترتيب الاتفاق المشار إليه فى نفس مساء (ليلة) بدء العدوان التركى على الأراضى السورية والاتفاق على تفاصيله فى اليوم التالى مباشرة.
<< المثير حقًا هو أنه في الليلة الثانية لبدء العدوان التركى على سوريا،
كانت قد بدأت عملية ضخمة لنقل القوات السورية وأسلحتها ومعداتها العسكرية
إلى محافظة الحسكة فى أقصى شمال شرق سوريا.. على مسافة مئات
الكيلومترات!! وفجر اليوم التالى كانت القوات قد بدأت تنتشر فى مدينة
الحسكة (عاصمة المحافظة).. ثم نتحرك منها إلى مدينة القامشلي على الحدود
مع تركيا.. وإلى مناطق أخرى.. ثم توالت الحشود العسكرية السورية، واستمر
انتشارها على الحدود مع تركيا.. والمهم هنا أن نشير إلى أن قوات الشرطة
العسكرية الروسية كانت ترافق القوات السورية، بما جعل اشتباك القوات
التركية معها يمثل اصطدامًا مباشرًا بروسيا.. وهو ما لم يجرؤ عليه
أردوغان بالطبع.. علمًا بأن طائرات النقل العسكرية الروسية هى التى قامت
بالدور الأكبر فى نقل القوات والمعدات العسكرية السورية إلى شرق وشمال
شرق البلاد.. كما قامت المقاتلات الروسية بحماية عملية النقل مشاركة مع
المقاتلات السورية.
ومن ناحية أخرى فإن القوات السورية قد سيطرت بسرعة شديدة على مواقع
الأكراد في مدينة «منبج» الاستراتيجية في ريف حلب الشرقى «غربى نهر
الفرات» لتعبر النهر بعد ذلك إلى ضفته الشرقية، وتتقدم نحو مدن محافظة
الرقة.. ودائمًا مصحوبة بقوات الشرطة العسكرية الروسية، وبتحليق الطائرات
المقاتلة الروسية، لمنع أردوغان من الإقدام على أى خطوة رعناء.. وهو ما
تحقق فعلاً.
مكاسب استراتيجية
>> وقد مثلت هذه العملية العسكرية الضخمة والخاطفة مفاجأة كبرى للأتراك والأمريكيين على السواء.. كما مثلت مكسبًا استراتيجيًا بالغ الأهمية للدولة السورية.. فهى تعنى من ناحية إنهاء حلم «الدولة الكردية» والمشروع الانفصالى الكردى.. وهى ـ من ناحية ثانية ـ قد نقلت القوات السورية إلي الحدود الشمالية والشرقية للبلاد.. وهو إنجاز عسكرى كان يحتاج إلى حرب ضروس باهظة التكالف لتحقيقه، لو لم تنشأ هذه الظروف الجديدة.. ومن ناحية ثالثة فإن الاستقبال الشعبى الحافل لقوات الجيش السورى فى مدن وبلدات وقرى شرق الفرات قد أوضح بجلاء انحياز غالبية سكان المنطقة للدولة السورية وترحيبهم بالعودة إلى كنفها، بالرغم من وجودها لسنوات تحت سيطرة «داعش» ثم سيطرة «قسد» والقوات الأمريكية.. وهذا مكسب سياسى بالغ الأهمية ذو بعد استراتيجى.. يعبّر عن إرادة شعبية، ويمثل تعزيزًا لاشك فيه أمام أنظار العالم لشرعية الدولة السورية، التى لا تكفي أمريكا وتركيا وعديد من الدول الغربية بل والإقليمية (العربية) عن التشكيك فيها.
أما بالنسبة لروسيا فإن دورها في تنفيذ هذه العملية العسكرية الكبرى ــ
وما سبقها من وساطة بين دمشق والأكراد ـ قد عزّز مواقعها على الساحة
السورية، ودورها فى التسوية المرتقبة.. كما عزَّز هيبتها ووضعها كحليف
قوي يمكن الاعتماد عليه أمام أنظار العالم كله.. وبناء على ذلك كان لابد
أن يتجه أردوغان إلى موسكو لعقد قمة مع بوتين (٢٢ أكتوبر) لبحث الوضع
الجديد الذى انقلب فيه السحر على الساحر.
تحجيم العدوان
التحركات العسكرية التى شرحناها جعلت من المستحيل على تركيا احتلال
«المنطقة الآمنة» التى كان أردوغان يريد الاستيلاء عليها بطول الحدود
السورية وعمق ٣٢كم.. أى ما تبلغ مساحته نحو ٣٠ ألف كم٢.. وأسفرت قمته مع
بوتين على الاتفاق على حصر منطقة السيطرة التركية فيما بين مدينتى (رأس
العين) شرقًا و(تل أبيض) غربًا، بامتداد يبلغ نحو ١٢٠ كم وبعمق يبلغ ٣٠
كم ومساحة قدرها حوالى ٤ آلاف كم٢ مع الإقرار بوحدة الأراضى السورية
وسيادة سوريا واستقلالها.. وهو ما يعطى دمشق الحق في المطالبة بخروج
القوات التركية.. بإقرار أنقرة ذاتها أو شن المقاومة ضدها في الوقت
المناسب.. كما أعاد الاتفاق الاعتبار إلى (اتفاقية أضنة/١٩٩٨) بين دمشق
وأنقرة، والتي تعطى تركيا الحق في ملاحقة «الإرهابيين الأكراد» لعمق
يتراوح بين (٥ و١٠كم).. وتم الاتفاق وبناء على ذلك على إخلاء المنطقة
الحدودية بعمق ٣٠كم من القوات الكردية وأسلحتها الثقيلة، وتسيير دوريات
دروسية ـ تركية مشتركة علي الحدود بعمق ٧كم للتأكد من إخلاء المنطقة
الحدودية من المقاتلين الأكراد، على أن تشرف روسيا وسوريا على مسألة
تراجع القوات الكردية.
وبديهى أن العدوان يظل عدوانًا.. والغزو يظل غزوًا.. لكن المؤكد أن حصر
الغزو في الحدود المشار إليها أعلاه هو أفضل بكثير جدًا مما كانت تريده
تركيا، وما كان متفقًا عليه بين ترامب وأردوغان.. كما أن العمل المسلح ضد
أطماع التوسع التركية فى «جيب» مساحته ٤ آلاف كم٢ يظل أسهل كثيرًا من ذلك
العمل في مساحة ٣٠ ألف كم٢.. ومن ناحية ثالثة فإن خِطط أردوغان لتهجير
اللاجئين السوريين من الإرهابيين والمرتزقة إلى «المنطقة الآمنة» ستتقلص
بصورة جذرية، ومعها مشروعاته (الوهمية) لإقامة مدن ومشروعات بنية تحتية
ضخمة لتنفيذ تلك المشروعات، خاصة أن الاتفاق ينص علي مشاركة روسيا في
الإشراف على «عودة اللاجئين» ـ بحكم الاتفاقية الأخيرة ـ ستمثل عائقًا
أمام تنفيذ خطة أردوغان لتسكين العناصر الإرهابية على الأراضى السورية..
وخلاصة القول إنه أمكن تحجيم العدوان التركى بدرجة كبيرة جدًا، قياسًا
بما كان مُخططًا له.. وتقليص الدور الذى كانت تركيا تريد القيام به في
اتفاقات التسوية النهائية، بما في ذلك دورها في إعادة الإعمار المرتقبة
من خلال فوز شركات المقاولات التركية بنصيب أساسى في العملية.. لكن
المؤكد أن قوات أردوغان قد نجحت فى إشاعة الكثير من الفوضى، ومكنت مئات
الإرهابيين «الداعشيين» من الهروب من سجون «قسد» التي تعرضت للقصف..
وستجلب معها عددًا لا يُستهان به من الإرهابيين والمرتزقة.. وإزالة آثار
هذا العدوان ستحتاج إلى قتال وسيُراق خلالها مزيد من الدماء الزكية..
وبالتأكيد ستؤخر التسوية في سوريا.. وإن كانت نهاية العدوان محتومة
بالتأكيد.
كما أن مراجعة مؤسسات القوة الأمريكية لقرار ترامب بالانسحاب، وعودة
قواته لاحتلال حقول البترول والغاز فى شرق الفرات، تعنى المزيد من نهب
ثروات الشعب السورى لأجل غير معلوم.. كما تعنى إعادة خلط أوراق العلاقات
بين دمشق والأكراد، وخصوصًا فصائلهم الأكثر ارتباطًا بالأمريكيين،
والأكثر تعلقًا بأوهام الانفصال و«الدولة الكردية» أو كيان «الحكم
الذاتى» واسع الصلاحيات.. وسيحتاج التعامل مع هذه المعضلة إلى عمل عسكرى
إذا لم ينسحب الأمريكيون طوعًا.. لكن هذا العمل العسكرى من الصعب تخيل أن
يكون نظاميًا «حرب مع أمريكا!» والمنطقى أن يتخذ شكل حرب العصابات
الشعبية.. وكل هذا سيُكلف وقتا ودماء زكية غالية.. وبالتأكيد سيُؤخر
التسوية.
لكن من يتأمل مسيرة كفاح الشعب السورى وجيشه وحلفائه ضد العدوان على مدى
السنوات الثمانى الماضية.. وهزيمة جيوش العدوان وإرهابييه ومرتزقته لابد
أن يستنتج أن هزيمة العدوان محتومة.. وأن الشعب السورى قادر على مواصلة
انتصاراته حتى النهاية.

مصر للطيران
هيثم احمد ذكي

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE