الأموال
الخميس، 2 مايو 2024 01:00 صـ
  • hdb
22 شوال 1445
2 مايو 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : أمريكا والصين.. السباق الكبير

الأموال

تحدثنا في مقالنا السابق (الأموال - 25/8/2019) عن تقلص الوزن النسبى للاقتصاد الأمريكى فى الناتج المحلى الإجمالى العالمى من أكثر من (النصف) فى أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى (الربع) فى الوقت الحالى.. وعن التراجع النسبى للقوة العسكرية والسياسية الأمريكية قياسًا عما كانت عليه في الفترة التالية مباشرة لانهيار الاتحاد السوفيتى.. في أوائل تسعينيات القرن الماضى، حيث انفردت الولايات المتحدة بوضع «القطب الأوحد» فيما عرف وقتها باسم (النظام العالمى الجديد) الذى جاء علي أنقاض النظام العالمى ثنائى القطبية. وأوضحنا أن العالم يشهد الآن ميلاد نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب، تحتل فيه أمريكا موضع القوة الأولى، ولكنها لم تعد «القطب الأوحب» بل تواجه تحدى الصعود الاقتصادى والعسكرى والعلمى للقطب الصينى، وتحدى استعادة روسيا لقوتها العسكرية الهائلة، بما يضعها فى مصاف القوى العظمى، كما تواجه تحدى صعود القوة التنافسية لعدد من الدول الأوروبية الكبرى (المتكتلة في إطار الاتحاد الأوروبى) والاقتصادات الصاعدة كالنمور الآسيوية والبرازيل والمكسيك، فضلاً عن اليابان وكوريا الجنوبية، بما يقلص بصورة مستمرة من قدرة الولايات المتحدة علي تحقيق (حلمها الاستراتيجى) فى الهيمنة على العالم.
وحذرنا في الوقت نفسه من خطأ التفكير المتسرع والقائم على الأمنيات أكثر بكثير من استفادة إلى الوقائع wishful thinking من جانب كثير من المنظرين والمحللين، وخاصة في العالم الثالث، بأن الولايات المتحدة على وشك أن تفقد مكانها كقوة أولى فى النظام العالمي خلال سنوات قليلة أو عقد من الزمان ـ ولصالح الصين تحديدًا ـ وقلنا إن تراجع أمريكا عن مكانة القوة الأولى عالميًا، عملية تاريخية طويلة، قد تستغرق عقودًا (عشرات السنين) ويمكن أن تشهد استخدامًا واسعًا للقوة العسكرية في محاولة من جانب أمريكا للحفاظ على وضعها الإمبراطورى، ما لم تكن هناك قوى (للردع) من جانب الدولتين الأعظم الأخريين (روسيا والصين).
ونود هنا أن نتوقف أمام الأفكار التى تذهب إلى أن الصين ستتقدم سريعًا لاحتلال مكانة القوة العظمى الأولى، اعتمادًا على مؤشرات مثل معدل النمو الاقتصادى، أو ضخامة الاحتياطيات الأجنبية القابلة للاستثمار فى الداخل والخارج، أو كونها أكبر دائن لأمريكا (1.2 تريليون دولار) استثمارات في سندات الخزانة الأمريكية أو الفائض التجارى الكبير في تبادلها مع الولايات المتحدة، أو التقدم العلمى والتكنولوجى والعسكرى السريع.. وغير ذلك من الاعتبارات.
ومعروف أن الصين قد حققت نموًا اقتصاديًا هائلاً خلال الأعوام الأربعين الماضية (بدءا من مشروع «سنج شياوبينج النهضوى» عام 1978)، وبنسبة نمو سنوى ظلت تدور حول الـ10٪ لسنوات طويلة، ثم بدأت في التراجع تدريجيًا لتصل إلى 6.5٪ العام الماضى، وهى نفس النسبة المتوقعة هذا العام.. واستطاعت الصين أن تصبح القوة الاقتصادية الثانية في العالم منذ عدة سنوات، ووصل ناتجها المحلى الإجمالى إلى 14 تريليون دولار عام 2018 حسب أرقام صندوق النقد الدولي مقابل 20.4 تريليون دولار للولايات المتحدة، وبناء علي أن النمو الصينى يبلغ 6.5٪ سنويا.. مقابل نمو أمريكى يدور حول 3٪، فإن حجم الناتج المحلى الإجمالى للصين يمكن بالفعل أن يتفوق على نظيره الأمريكى عشرين أو خمسة وعشرين عاماً.. وأن تصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
>> ولكن.. وهنا نقول (ولكن كبيرة) معايير القوة الشاملة للدول لا تقاس بحجم الاقتصاد وحده، بالرغم من الأهمية البالغة، بل والأساسية لهذا العنصر.. فهناك معايير القوة العسكرية والعلمية والسياسية (النفوذ السياسى والقدرة على حشد الحلفاء) والثقافية (التأثير الثقافى والفكرى، وقدرة نموذج حياة هذا المجتمع أو ذاك علي الإلهام).. الخ.. وعلى سبيل المثال فإن الناتج المحلى الإجمالى للاتحاد الأوروبي (بوجود بريطانيا) لديه ناتج محلي إجمالى يعادل الناتج الأمريكى تقريبًا، ولكنه لا يمثل قوة سياسية ولا عسكرية عظمى بسبب تعدد دوله واختلاف توجهاتها السياسية.. واليابان عملاق اقتصادى عالمى، لكنها قزم سياسى وعسكرى وتابعة للولايات المتحدة..
وعلى الصعيد الاقتصادى نفسه فإن الصين، التى يبلغ ناتجها المحلى (14 تريليون)، يبلغ عدد سكانها (1400 مليون نسمة).. أى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالى قدره (عشرة آلاف دولار) فقط.. ما يضعها فى مصاف الدول متوسطة الدخل، بينما يقترب دخل الفرد الأمريكى من (60 ألف دولار) سنويًا.. كما أن أمريكا التحقت بنادى الدول الصناعية المتقدمة منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وهى تملك ثروات طبيعية هائلة في مقدمتها البترول والغاز ومختلف الخامات المعدنية، فضلاً عن مساحات هائلة من الأراضى الزراعية الخصبة، أضف إلى ذلك ما تنهبه من ثروات الدول الأخرى.. وبفضل هذا كله تمكنت من امتلاك بنية تحتية متقدمة للغاية، من شبكات طرق برية وحديدية ومطارات وموانئ، واتصالات ومحطات لتوليد الطاقة.. إلخ.. إلخ.. ويتمتع مواطنوها ـ عمومًا ـ بمستوى معيشة من بين الأفضل في العالم.. كما أن الزراعة فيها متطورة للغاية، وكذلك مستوى التصنيع الزراعى وتحضر الريف.
>> وإذا قارنت هذه الأوضاع بأوضاع الصين، فستجد أن الأخيرة بالرغم من القفزة الهائلة التي حققتها خلال الأربعين عامًا الماضية، ونجاحها فى انتشال مئات الملايين من البشر من براثن الفقر والتخلف، ونشوء طبقة وسطى هى الأكبر فى العالم (300 ـ 400 مليون نسمة)، إلا أن التقدم الصناعى والحضارى فيها يتركز في المناطق الشرقية، حيث المدن الحديثة وناطحات السحاب وكل مظاهر الحياة الحديثة، لكن المناطق الشمالية والوسطى والغربية فيها لاتزال بعيدة عن مستوى الدول المتقدمة، من حيث مستوى المعيشة والتحضر والبنية التحتية وتطور الزراعة.. إلخ..
وكل هذا الشوط الاقتصادى والحضارى الطويل مطلوب أن تقطعه الصين، وهى عملية تاريخية طويلة تستغرق عقودًا من الزمان بكل تأكيد، ولاحظ أننا نتحدث عن 1400 مليون إنسان..
وغنى عن البيان أن هذا لا يقلل إطلاقًا من أهمية المنجزات التنموية الهائلة التى حققتها الصين خلال العقود الماضية والتي تحققها كل يوم.
أما من الناحية العسكرية فإن الولايات المتحدة هى أقوى دول العالم عسكريًا، وبفارق كبير جدًا عن الصين سواءً من زاوية الترسانة النووية الاستراتيجية التي تملكها، أو التقدم الكبير فى المجال الصاروخى والجوى والبحرى (من حيث الكم والكيف) أو شبكة القواعد العسكرية الضخمة (نحو 800 قاعدة) التي تملكها حول العالم، بما فى ذلك المناطق القريبة من الصين (كاليابان وكوريا الجنوبية).. والأساطيل البحرية وحاملات الطائرات.. إلخ.. مما يتيح لها مجالاً واسعًا للحركة ولفرض نفوذها، وخوض الحروب حينما يقتضي الأمر، وبعد الحسابات الاستراتيجية الضرورية بالطبع.
وصحيح أن الصين تحقق تطورًا عسكريًا متسارعًا، مع التركيز على الأسلحة الحديثة والنوعية الأكثر تطورًا.. وأنها تحقق اختراقات مهمة، إلا أن الولايات المتحدة تظل أقوى بكثير.. وهى لا تضيع الوقت عبثًا بالطبع فى تطوير أسلحتها المتطورة أصلاً..
وبالتالى فإن قوة الصين العسكرية (والقوة الروسية الأكبر والأكثر تطورًا) تظل في دائرة (الردع) أى القدرة على إلحاق الدمار بالولايات المتحدة في حالة إذا ما بادرت أمريكا بتوجيه ضربة نووية إلى الصين أو روسيا (ولنلاحظ دائمًا أن القدرة العسكرية الروسية أكبر وأكثر تطورًا بكثير من القدرة الصينية، وخاصة في مجال الأسلحة الاستراتيجية).
وبناءً على توازن القوى العسكرية الذى عرضناه فإن الصين تحتاج إلى سنوات طويلة لكى تحقق قوة مكافئة لقوة الولايات المتحدة، ويظل اعتماد كل من روسيا والصين بشكل أساسى على (القدرة على الردع) في حالة شن عدوان على أى منهما.. ومع قدرة روسية على الحركة في المناطق القريبة منها (كما حدث في سوريا مثلا)، بينما تسمح القدرات الأمريكية بشن حروب صغيرة أو إقليمية فى معظم أنحاء العالم، اعتمادًا على التفوق الجوى والبحرى الكبير، بالإضافة إلى القدرة علي الحشد البرى وحشد قوات الحلفاء الكثيرين.
وبديهى أن هذا يتيح للولايات المتحدة نفوذًا عسكريًا وسياسيًا أكبر، وقدرة على الدفاع عن مصالحها في مختلف أنحاء العالم، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية أكبر.
ويجب أن نلاحظ هنا أن تركيز الصين على بناء قوتها الداخلية يجعلها تمارس سياسة خارجية متحفظة.. وتعزف عن الانغماس في المشكلات الدولية بفاعلية، مما يجعل نفوذها السياسى العالمى أقل بكثير من قدراتها الاقتصادية، التى تركز عليها في ممارسة تأثيرها الدولى.. لكن هذا لا يحقق طبعًا نفس النتائج التي يحققها المزج بين أوجه التأثير السياسي والعسكرى والاقتصادى معًا، كما تفعل أمريكا.. أو السياسى والعسكرى كما تفعل روسيا.. ولنلاحظ أيضًا أن الولايات المتحدة لديها شبكة واسعة من التحالفات حول العالم، في مقدمتها بالطبع ذراع عسكرية - استراتيجية بالغة الأهمية كحلف «الناتو» ـ ووجود عسكرى نووى في قواعد قريبة من الصين (اليابان وكوريا الجنوبية).. وكل هذه أدوات للقوة والتأثير غير موجودة لدى الصين، وتحتاج إلى وقت طويل لامتلاكها، وبشرط التوجه القصدى لتحقيق ذلك.. وهو ما يغيب عن السياسة الخارجية الصينية حتى الآن.
وهكذا فإن الوزن النسبى للقوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية يتقلص بالفعل، مقارنة بما كان عليه في العقد الأخير من القرن الماضى، والعقد الأول من القرن الحالى، وهو سيستمر في التقلص.. لكن المسافة لا تزال بعيدة أمام الصين لتتقدم لاحتلال المكان الأول في القوة العالمية، وإزاحة الولايات المتحدة عن مكانها على رأس القوي الدولية..
ولكن هذا ليس كل شيء.. وللحديث بقية

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE