الأموال
الجمعة، 26 أبريل 2024 01:42 صـ
  • hdb
16 شوال 1445
26 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : حملات المقاطعة.. وقوانين السوق المفترى عليها (3-3)

الأموال

عرضنا في المقالين السابقين (الأموال 24 فبراير و3 مارس 2019) أمثلة للممارسات الاحتكارية والفاسدة المنتشرة في السوق المصرى، ونموذجين لحركة الدفاع عن حقوق المستهلكين في مواجهة تلك الممارسات الاحتكارية الفاسدة، هما حملة «خليها تصدى» في مواجهة الارتفاع غير المبرر لأسعار السيارات، والتى أدت لركود كبير في أسواق تجارة السيارات، وحملة «خليها تعفّن» والتي أدت لانخفاض ملحوظ في أسعار اللحوم البلدية في المناطق التي نشطت فيها حملة المقاطعة.

وأشرنا إلي المفاهيم المشوهة والمغلوطة الشائعة في مجتمعنا حول قوانين السوق والاقتصاد الحر، ودور الدولة في الاقتصاد.. وكيف أن هذه المفاهيم المشوهة تكمن في أساس تلك الممارسات الاحتكارية والاستغلالية المنفلتة وعديد من التشوهات والانحرافات التى يعاني منها الاقتصاد المصرى.. والتى تقدم تبريرًا زائفًا لتلك الممارسات المنحرفة شديدة الضرر ليس على جمهور المستهلكين «أى الشعب» فحسب، وإنما علي الاقتصاد المصرى بمجمله وفرص تقدمه.

وبديهي أن تجد هذه المفاهيم المشوهة أوسع رواج بين طبقة «رجال الأعمال» نظرًا لأنها تنسجم مع مصالحهم في تحقيق وتعظيم الأرباح (المحرك الأول لرأس المال).. كما تجد انتشارًا واسعًا لدى نسبة كبيرة من أساتذة وخبراء الاقتصاد والمسئولين الاقتصاديين، والإعلاميين.. إلخ.. وبين الجمهور الواسع، الذى غالبًا ما تتحقق هذه الأرباح علي حساب مصالحه وتعرُّضه لاستغلال منفلت!

والحقيقة أن أعتى البلدان الرأسمالية لا تنطلق من إعطاء الحرية المطلقة لرأس المال.. وأن الرأسمالية لدى أغلبية المفكرين الاقتصاديين تراعى ضرورة «التوازن» بين مختلف عناصر العملية الاقتصادية حرصًا علي استقرار وتقدم الاقتصاد، ومصالح المنتجين في عمومهم من أن تجور عليهم مصالح البعض، (والحد الأدنى) من مصالح المنتجين، وما يحقق المصالح العامة للمجتمع، باعتباره الوعاء الذى تجرى في إطاره عملية الإنتاج والتبادل (حالات الاستعمار والتوسع الخارجي لها اعتبارات أخرى)، وتقديم الخدمات العامة ومصالح الأمن القومي بالطبع.. إلخ..

*وعلي سبيل المثال فإن (الاحتكار) هو معوِّق أساسي لتطور الاقتصاد، لأنه يشل عنصر (المنافسة)، وهى محرك أساسي لتطور التكنولوجيا وتوسيع الإنتاج، وخفض الأسعار، بما يؤدى إلي توسيع الاستهلاك المحلي، كما يؤدى هذا كله إلى تحقيق ميزات تنافسية في الأسواق الخارجية، ومن ثم تنشيط التصدير.. إلخ.. ولهذا تجد أن الدول الرأسمالية المتقدمة لديها قوانين صارمة لمكافحة الاحتكار.. وآليات دقيقة لتطبيق هذه القوانين،

بينما تجد لدينا أوضاعًا تتناقض مع ذلك تمامًا في بعض الأحيان، في ظل قانون غير مُحكم لمكافحة الاحتكار، أو ممارسات تتحدى القانون بحكم نفوذ أصحابها.

ولنأخذ مثلا صناعة الحديد ووضع أحمد عز في زمن مبارك، بدءا من سيطرته الكبيرة على السوق، إلى استيلائه على مصنع الدخيلة في إطار عملية خصخصة أحاطت بها الشبهات.. إلي تعطيل منح رخص إنتاج لمنتجين آخرين لفترة طويلة، إلى فرض رسوم إغراق على الحديد المستورد، بصورة أتاحت له الاستمرار في السطرة على السوق لسنوات طويلة.

وبعد زوال حكم مبارك لاتزال رسوم الإغراق مستمرة، مع لجوء منتجى حديد التسليح لرفع الأسعار بصورة متزايدة وغير مبررة.

والحجة المستخدمة هنا هى (حمالة الصناعة الوطنية)!

ويثور هنا سؤال بديهى: إذا كان حديد التسليح المستورد يأتى من بلدان أجور العمال فيها أعلى من أجور عمالنا، ويضاف إلى ذلك تكلفة النقل البحرى، ثم تكلفة رسوم الأرضية في الموانئ، ثم النقل من الموانئ من داخل البلاد.. إلخ.. ويظل بعد ذلك كله أرخص من مثيله المصرى بحيث نحتاج إلى فرض رسوم إغراق عليه!! فأين الخطأ؟ ببساطة: الخطأ يكمن في أن المنتجين المصريين يصرون علي تحقيق أرباح مبالغ فيها!! علمًا بأن حديد التسليح المستورد ليس أقل من المصرى في الجودة.. ولو كان أقل لكانت هذه خطيئة كبري من جانب أجهزة الدولة، لأن معنى ذلك تعريض سلامة المنشآت المستخدم فيها هذا الحديد للخطر.. وهذا أمر لا يمكن السماح به طبعًا.

فإذا جئنا إلى الضرائب بأنواعها، وفي مقدمتها الضرائب على الأرباح الصناعية والتجارية، نجد أنها كانت تبلغ نحو 40٪ بالنسبة للشريحة العليا (أكثر من مليون جنيه في السنة) ثم تم تخفيضها إلى 20٪ في عهد مبارك ويوسف بطرس غالى، متساوية في ذلك مع الضريبة علي الدخول المتوسطة للموظفين!! لترتفع بعد ثورة يناير إلى 22.5٪، بينما يطالب بعض كبار المستثمرين برفعها إلى 30٪، وترفض الغالبية الساحقة من (رجال الأعمال) ذلك.. علمًا بأن الضرائب علي شرائح الدخل العليا (والأرباح) فى أغلب البلدان الرأسمالية المتقدمة تصل إلي 45٪ وإلى 60٪ أو أكثر في دول اسكندينافيا، وهي دول رأسمالية، من دول ما يسمى بالرفاهية الاجتماعية.

غير أن «رجال الأعمال» المصريين لا يكتفون بهذه الضريبة المخفضة، بل يتفنّن كثيرون جدًا منهم في تزوير حساباتهم بواسطة محاسبين محترفين في هذا المجال، بحيث تبدو شركاتهم خاسرة!! أو محققة لأرباح زهيدة للغاية. ثم يماطلون في السداد قدر إمكانهم!

وفي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة يعتبر التهرب الضريبى (جريمة مخلة بالشرف) تترتب عليها عقوبات قاسية للغاية.. أما لدينا فمن الصعوبة بمكان عظيم إثبات التهرب.. وإذا أمكن إثباته، فإن العقوبات مالية فقط، ولا تمتد إلي العقوبات السالبة للحرية، وغالبًا ما يمكن الإفلات منها!! ويحدث ذلك بالرغم من العجز الهائل في موازنة الدولة.. علمًا بأن التهرب الضريبى أحد أهم أسبابه.

فأين التوازن المعروف في المجتمعات الرأسمالية بين حق «رجل الأعمال» في الربح وحق المجتمع والدولة؟

<< مثال آخر: إذا كانت أسعار السلع في المجتمعات الرأسمالية «الرشيدة والمحترمة» نتحدد وفقًا لقانون العرض والطلب، فإن ظواهر مثل إخفاء السلع و«تنشيف السوق» والسوق السوداء.. إلخ.. لرفع الأسعار بصورة غير مبررة أمور يعاقب عليها القانون بصرامة.. فهل يحدث هذا عندنا؟ الإجابة لا تحتاج إلى تفكير طويل.

وإذا كان من حق المستهلك فى أى دولة رأسمالية، أن يحصل على سلعة جيدة ومطابقة للمواصفات، وإذا كانت أجهزة الرقابة التابعة للدولة تسهر على متابعة الالتزام بمواصفات الصلاحية والجودة، و«الغش التجارى» يعتبر جريمة مشينة اجتماعيًا وأخلاقيًا.. فهل الأمر كذلك لدينا؟

للأسف فإن الإجابة بالنفى.. والرقابة علي الأسواق ضعيفة للغاية، أو منعدمة، بما في ذلك المنتجات الغذائية، التي يمكن أن تتسبب في كوارث صحية.. وهو كثيرًا ما يحدث، وكذلك الرقابة علي الواردات.

كما أن «الرقابة علي الصادرات» ضعيفة أيضًا مما يتسبب بين الحين والآخر في مشكلات متكررة تلحق ضررًا بالصادرات المصرية، وخصوصا فيما يتصل بالصادرات الزراعية، مما ينتج عنه وقف بعض الدول للاستيراد من مصر لفترات تطول أو تقصر.. والمصدر الذى يرسل إلي عملائه في الخارج بطاطس مصابة بالعفن البني، أو الفلفل الأخضر المصاب بالفطريات أو الديدان، أو البصل المصاب بالفطر الأسود.. إلخ لا يؤذى نفسه فقط ـ وهو يستحق العقاب طبعًا ــ لكنه يؤذى المنتجين والمصدرين المصريين عمومًا.. لأن الدول المتضررة عادة ما تصدر قرارات بوقف الاستيراد من مصر عمومًا.. ويضيع وقت طويل ريثما يتم علاج آثار مثل هذه الجرائم.. ويخسر الاقتصاد المصرى سمعة وأسواقا لمدد تطول أو تقصر.

ومع أن هذه «الجرائم» يتم اكتشافها من خلال المراقبة في الأسواق المستوردة (وكان الأولي بنا أن نكتشفها من خلال أجهزة الرقابة على الصادرات).. فكثيرًا ما يتم إلقاء الذنب على الإعلام في هذه المشكلة.. لأن الصحافة أو غيرها من وسائل الإعلام تحدثت عن بيع سلع فاسدة من هذه الأنواع في الأسواق!! فعرفت الدول المستوردة بهذا من خلال الإعلام، فأوقفت الاستيراد!! وكأن الإعلام مطلوب منه أن يغمض عينيه عن الإضرار بصحة الشعب المصرى، حتى لا يتسرب الخبر إلى الخارج فيضر بالصادرات المصرية!! وكأن الدول المستوردة لا تفحص ما يرسله المصدرون إلى أسواقها!! وكأنهم يتركون صحة مواطنيهم فريسة للأمراض مثلما يحدث لدينا!! فبالله عليكم هل هناك سذاجة أكثر من هذا؟

والأمثلة كثيرة.. ولكن من أخطرها استخدام مدخلات إنتاج مصرية مدعومة، ثم تصدير الإنتاج للخارج بالعملة الصعبة، ثم بيع هذا الإنتاج في السوق المصرى بأسعار مماثلة، أو أقل قليلاً من سعر بيعها في الخارج.. وتحقيق أرباح فاحشة على حساب المواطن المصرى مرتين: مرة حينما تم الحصول علي مدخلات إنتاج مدعومة من ثروته القومية.. ومرة أخرى حينما يتم بيع الإنتاج بأضعاف تكلفته لهذا المواطن!

وتقدم صناعة الأسمنت مثالا ساطعًا فى هذا الصدد.. فقد تمت خصخصة شركات الأسمنت بأبخس الأسعار لصالح المستثمرين الأجانب.. ثم يأخذ هؤلاء المستثمرون مدخلات الإنتاج من الطفلة وغيرها بأبخس الأسعار.. ونحصل نحن على التلوث الناتج عن هذه الصناعة.. ثم يتم تصدير الأسمنت للخارج بالعملة الصعبة.. ويتم رفع أسعاره بصورة منفلتة في مصر، ومن ثم ترتفع تكلفة البناء، ويدفع المواطن المصرى تكلفة ذلك كله!! ثم يتآمر البعض لتصفية الشركة القومية للأسمنت لكي يزيد اعتمادنا علي إنتاج الشركات الأجنبية!!

فهل لهذا كله علاقة بأى مفهوم (رشيد) أو (محترم) للحرية الاقتصادية أو لقوانين السوق؟

وإذا كانت زراعة محصول كالأرز تستهلك كميات كبيرة من المياه، في ظل الشح المائى الذى تواجهه مصر ـ والماء ثروة قومية تخص الشعب المصرى كله ـ فهل من حق مافيا الاستيراد والتصدير أن تقوم بتصدير أرزنا للخارج دون قيود.. بما يتضمنه من ثروة قومية مائية تخص الشعب كله؟ ثم يقيمون الدنيا ويقعدونها إذا فرضت الحكومة أى قيد على تصدير الأرز، ولو لفترة محددة.

ويتم ذلك كله تحت دعاوى اقتصاد السوق، والحرية الاقتصادية!

يا سادة.. هذه كلها مفاهيم مشوهة لقوانين السوق وللرأسمالية عمومًا، لا نجد لها مثيلا إلا لدى الرأسماليات المتخلفة والرثة.. فالرأسمالية في بلدانها الأصلية ـ وبعد خبرة طويلة وتجارب تاريخية عديدة خاضتها الشعوب ــ تفترض توازنًا للمصالح بين رأس المال والفئات المختلفة من أصحابه، والعاملين والمستهلكين.. وحق الدولة كممثل للمجتمع وقائم على توفير الخدمات العامة وحماية الأمن القومى.. وهذا التوازن تنظمه القوانين وتحميه، وتحمى معه الحقوق المتوازنة والسلام الاجتماعى.. وهذا ما نريده في مصر..

نريد رأسمالية وطنية محترمة.. والشعب المصرى يستحقها..

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE