الأموال
الجمعة، 26 أبريل 2024 11:35 مـ
  • hdb
17 شوال 1445
26 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : إيطاليا وفرنسا.. والصراع على الثروات النفطية الليبية

الأموال

أخيراً.. انفجر الصراع المكتوم منذ سنوات بين إيطاليا وفرنسا حول ليبيا، وأخذت كل من روما وباريس تتبادلان الاتهامات بانتهاج سياسة تؤدى إلى عدم الاستقرار في ليبيا، ووجود نزعات استعمارية تجاه أفريقيا.. فضلاً عن مواقف أنانية تجاه استقبال المهاجرين غير الشرعيين القادمين من القارة السمراء.. إلخ.. غير أن السبب الأهم والأعمق لانفجار الأزمة المكتومة هو ليبيا، والطمع في بترولها، والصراع من أجل الاستحواذ عليه.

لويجى دى مايو «نائب رئيس الوزراء الإيطالى» اتهم فرنسا بإشاعة الفقر في الدول الأفريقية التى كانت خاضعة لاحتلالها أثناء الفترة الاستعمارية (الكولونيالية).. وبالاستمرار فى نهب المستعمرات السابقة من خلال سياسات جديدة للهيمنة الاقتصادية ونزح الثروات إلي باريس، قائلا إن هذا هو السبب الرئيسى في تدفق المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين علي أوروبا، وخلق أزمة كبيرة تتهرب فرنسا من تحمل نصيبها من المسئولية عنها، وعن موت آلاف المهاجرين غرقًا في البحر المتوسط.

وطالب دى مايو ـ وهو أيضا زعيم حركة «النجوم الخمس» المشاركة فى الائتلاف الإيطالي الحاكم ــ الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على فرنسا لوضع حد لسياساتها الاستعمارية في أفريقيا.

وواصل نائب آخر لرئيس الوزراء الإيطالى ـ هو ماتيو سالفيتى ـ الحملة على فرنسا، متهمًا باريس بأنها لا ترغب في تهدئة الأوضاع فى ليبيا ـ التى يمزقها العنف ـ بسبب مصالحها في قطاع الطاقة، مؤكدًا أن «فرنسا لا ترغب في استقرار الوضع (في ليبيا) بسبب تضارب مصالحها النفطية مع مصالح إيطاليا» ــ (الأهرام ـ والمصرى اليوم ـ الأربعاء 22 يناير 2019).

الخارجية الفرنسية بدورها استدعت السفيرة الإيطالية في باريس وأبلغتها باحتجاج الجانب الفرنسى علي تصريحات دي مايو (كان ذلك قبل صدور تصريح سالفيتى (الثلاثاء 22/1).. وبالمناسبة فإن دى مايو ووزراء إيطاليين آخرين كانوا قد أعلنوا خلال الأسابيع الماضية دعمهم لحركة «السترات الصفراء» في فرنسا، وتشجيعهم لها على مواصلة التظاهر بين الرئيس الفرنسي ماكرون «المتغطرس» ونظامه.. وكل هذه أمور غير مألوفة في العلاقات بين دول صديقة وحليفة (فى الناتو) وأعضاء في الاتحاد الأوروبى.

ومعروف أن ليبيا كانت مستعمرة إيطالية في الفترة (من 1911 ــ 1951) وتحررت بعد نضال شعبى بطولى.. وبعد الاستقلال أصبح النفوذ الأمريكى والبريطانى غالبًا في البلاد، حتى ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 بقيادة القذافى.. ثم تراوحت العلاقات مع إيطاليا بين شد وجذب ـ لا يتسع المقام للدخول فيه.. وحسبنا القول إن هذا العلاقات قد شهدت ازدهارًا في فترة حكم رئيس الوزراء الإيطالى بيرلسكونى الذى قدم اعتذارًا رسميًا للشعب الليبى عن جرائم الاحتلال، وتعويضًا قدره (5 مليارات دولار) وهى حالة نادرة الحدوث في علاقات الدول الاستعمارية بمستعمراتها السابقة.

لكن هذا الموقف نادر الحدوث لم يكن بسبب إنسانية بيرلسكونى وحسن أخلاقه (والحق أنه لم يكن معروفًا بحسن أخلاقه على الإطلاق)! وإنما جاء الاعتذار والتعويض كـ«عربون» لفتح الأسواق الليبية أمام الاستثمارات والبضائع الإيطالية وخاصة الاستثمارات في مجال البترول، حيث تملك ليبيا ثروات بترولية ضخمة، ومن أفضل أنواع البترول الخفيف.. وهى شديدة القرب من الأسواق الأوروبية، وكان طبيعيًا أن تتلمظ شركة «إينى» البترولية الإيطالية العملاقة على هذه الثروة، وفضلاً عن ذلك فإن السوق الليبية فى عهد القذافى (1969 ــ 2011) كانت تقدم فرصًا استثمارية ممتازة فى مجال الإنشاءات ومد الطرق وأنابيب النفط، وخطوط نقل المياه (النهر العظيم) وغيرها.. ولذلك سعى بيرلسكونى بكل السبل لتحسين علاقاته مع القذافى، والتغلغل في السوق الليبية.

ومن ناحية أخرى فإن فرنسا كانت تتطلع بكل اهتمام إلى السوق الليبية..  وكان بين فرنسا والقذافى علاقات لا بأس بها، وصلت إلى حد تقديم الزعيم الليبى (رشوة) للرئيس الفرنسي ساركوزى تمثلت في دعم لحملته الانتخابية قدره خمسة ملايين دولار، حسب تقارير متواترة.. لكن فرنسا لم تستطع أن تحقق مطامحها في السوق الليبية أو الوصول لمستوى علاقات طرابلس مع روما.

ويرى كثير من المراقبين أن هذا كان أحد الأسباب الأكثر أهمية لانخراط فرنسا في الحملة الأطلسية ــ الأمريكية ضد نظام القذافى، والتي أدت إلى الإطاحة بالنظام ومصرع القذافى عام 2011..

ويشير المراقبون إلى اهتمام ساركوزي خصوصًا بقتل القذافى، لكى تدفن معه قصة رشوة الخمسة ملايين دولار!! ومعروف طبعًا أن فرنسا كقوة عسكرية واقتصادية تتفوق علي إيطاليا بصورة ملحوظة.. ولذلك فإن فرنسا كانت تعتبر نفسها مرشحة للدور الأكبر (أوروبيًا على الأقل) في نهب ثروات ليبيا.

غير أن الرياح فى (أرض المختار) أتت بما لا تشتهى سفن كثيرة، فالإطاحة بالنظام تحولت إلى تدمير للدولة ومؤسساتها، وانقسام بين شرقها بقيادة بنى غازى، وغربها بقيادة طرابلس، وسلطتين سياسيتين متصارعتين، مع فوضى شاملة في الجنوب، وانقسام قبلى ومناطقى يصل إلي حد التشظى.. فضلا عن تدفق عشرات الآلاف من الإرهابيين إلى البلاد مستغلين حالة فشل الدولة وتمزقها..

ومن ناحية أخرى فإن ليبيا تحولت إلى معبر مفتوح للهجرة غير الشرعية من دول أفريقيا جنوبى الصحراء.

وخسر الإخوان المسلمون وحلفاؤهم الانتخابات البرلمانية، مما أدي لتعميق الانقسام.. فقد استولى هؤلاء، مدعومين بالميليشيات الإرهابية والقبلية على طرابلس والمناطق المجاورة لها.. بينما استقرت الأغلبية البرلمانية والسلطة الوحيدة المنتخبة ـ شرقى البلاد (برلمان طبرق).. وما لبث أن ظهر المشير خليفة حفتر الذى بدأ فى تكوين جيش وطنى ليبى في المنطقة الشرقية والوسطى.. بينما أسفرت الجهود الدولية (الفوقية تماماً ـ وذات الطابع المخابراتى) عن تكوين مجلس رئاسى غير منتخب برئاسة فايز السراج في طرابلس.. متحالف مع الإخوان وحلفائهم من قوي الإسلام السياسى.

تقلبات الصراع السياسى والعسكرى المستعر كانت تطال، بالطبع، حقول النفط، الذى تدهور إنتاجه كثيرًا.. لكن جيش حفتر تمكن من السيطرة على منطقة (الهلال النفطى) حيث يجرى الجزء الأكبر من إنتاج وتصدير البترول الليبى (وسط الساحل الليبى على البحر المتوسط).. كما استمرت المنافسة الحامية بين الشركات للسيطرة على الحقول المنتجة حاليًا، أو الاتفاق على الاستحواذ عليها في المستقبل.

وتعتبر شركة «إينى» الإيطالية أكبر شريك في سوق البترول والغاز الليبية (بإنتاج يبلغ 350 ألف برميل/ يوميا)، كما تشارك «مؤسسة النفط الوطنية الليبية» في استغلال أكبر حقل بحرى للغاز (بحر السلام) الذى يبلغ إنتاجه حاليًا حوالى 400 ألف قدم مكعب/ يوميا.. قابلة للزيادة حتى (1.1 مليار قدم3/يوميا) علمًا بأن احتياطياته تبلغ أكثر من 260 مليار م3.

أما شركة «توتال» الفرنسية فهي شريك للمؤسسة الوطنية في استغلال حقل «الواحة» البحرى الضخم (حوالى 300 ألف برميل/يوميًا).. وقد قامت مؤخرًا بشراء إحدى الشركات الأمريكية الصغيرة المشاركة في استغلال الحقل (50 ألف ب/ى) دون إذن أو علم مسبق من جانب المؤسسة الوطنية، الأمر الذى أثار نزاعًا قانونيًا، وتوترًا في العلاقة بين الطرفين، ولايزال النزاع مستمرًا.

وبديهى أن مستقبل الاستثمار في البترول والغاز الليبيين لديه آفاق واعدة للغاية.. فالمعروف أن ليبيا تعوم فوق بحيرة من البترول والغاز. وإمكانيات التوسع في التنقيب كبيرة، كما أن إعادة تأهيل قطاعى الإنتاج والتصدير ـ اللذين تأثرا سلبًا بصورة كبيرة بسبب العمليات العسكرية ـ تحتاج إلى استثمارات كبيرة، وتعد بأرباح أكبر.

وإيطاليا وفرنسا هما الدولتان المعنيتان أكثر من غيرهما بكل ما ذكرناه.. لهذا فإنهما معنيتان بالتوصل إلى تسوية في ليبيا تصنع استقرارًا تريد كل منهما أن يكون لصالحها.. وتعيد بناء الدولة بطريقة تبذل كل منهما ما في مستطاعها من جهد لتكون تلك الدولة تحت سيطرتها، أو أن تملك نفوذًا أقوى فيها.

<< وفي هذا الإطار فإن فرنسا ترتبط بعلاقات أفضل مع حفتر وجيشه وسلطة المنطقة الشرقية.. كما أن لديها علاقات بمجلس طرابلس الرئاسى.. كما تم تعيين غسان سلامة اللبنانى الجنسية والفرانكوفونى الثقافة مبعوثًا دوليًا إلى ليبيا.. ودعت الحكومة الفرنسية إلى عقد مؤتمر في باريس في مايو الماضى (2018) جمع بين حفتر (وممثلى المنطقة الشرقية) والمجلس الرئاسى (طرابلس/ فايز السراج) وحلفائه.. وضغطت فرنسا ليتم الاتفاق على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية قبل نهاية 2018.. ولكن كان واضحًا أن (سلق) اتفاق بهذه العجلة، وبدون وجود للأطراف الدولية الأكثر أهمية المتصلة بالصراع في ليبيا.. والتي لا يمكن ضمان تنفيذ أى اتفاق بدون دعمها له (وفي مقدمتها مصر، ثم دول الجوار العربى والأفريقى).. وواضح أن هذا يشير إلى رغبة فرنسا في الانفراد بعملية التسوية الليبية.. وقد أثبتت الأحداث أن هذه اللقمة أكبر من أن تستطيع فرنسا ابتلاعها!! وهكذا فشل اتفاق باريس.

<< أما إيطاليا فإنها تدعم المجلس الرئاسى في طرابلس (فايز السراج) وحلفاءه من «الإخوان» وممثلي الإسلام السياسى.. أو أن علاقاتها أوثق بهذه الأطراف.. أو أنها تعتبر أن السيطرة على هذا الفريق أسهل نظرًا لضعف موقفه الداخلى وسيطرة الانقسامات عليه، فضلا عن ضعف علاقاته الدولية.. كما تدرك روما أن وزنها السياسى والعسكرى والاقتصادى أقل من وزن باريس سواء فى أوروبا أو فى العلاقات الدولية عمومًا.. وتدرك من ناحية ثالثة أن الانفراد بالتسوية و(ابتلاع) ليبيا أمر مستحيل فى ظل أوضاعها الراهنة.. وعمومًا.

ولذلك فإنه عندما لاحت بوادر فشل اتفاق باريس، دعت إيطاليا إلى قمة في مدينة باليرمو بجزيرة صقلية (12/13سبتمبر)، ودعت لحضوره كل القوى الداخلية والإقليمية والدولية الفاعلة فى الأزمة الليبية، بحيث يكون المؤتمر ذا صفة تمثيلية واسعة لكل المصالح.. وبالتالي تكون هناك إمكانية جدية لتنفيذ مقرراته.. وفى الوقت نفسه تتمكن روما من الاحتفاظ لنفسها بمكانة معتبرة في التسوية الليبية.. دون أن تحمل نفسها ما لا طاقة لها به.

والواقع أن هذه سياسة ذكية. وفي الوقت نفسه فإن نتائجها قابلة للتحقيق.

وهكذا دعت فرنسا إلى قمة «باليرمو» كلاً من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا (ذات العلاقات المتميزة مع حفتر، والتي تمده بالسلاح.. وذات الوجود العسكرى القوي فى شرق البحر المتوسط).. كما دعت القوى الإقليمية المرتبطة بالأزمة، وفي مقدمتها مصر ودول الجوار العربي والإقليمى لليبيا (تونس/ الجزائر/ تشاد/ النيجر).. بالإضافة إلى تركيا (الداعمة للسراج) والمتوسطة في نقل الإرهابيين إلى ليبيا وتسليحهم.

وحضر ممثلون رفيعو المستوى من كل الدول والمنظمات المذكورة، بمن فيهم ممثلون لجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقى.

واتخذ المؤتمر قرارات في مقدمتها اختيار مجلس وطنى جامع بـ(التشاور) لوضع دستور وقانون انتخابى.. في بداية العام الجارى، ثم إجراء انتخابات في مطلع الصيف.. وقد تطول فترة الإجراءات أكثر.. لكن المؤكد أن هذا المؤتمر أنتج أفضل قرارات تم اتخاذها حتى الآن لمعالجة الوضع الليبى شديد التعقيد..

ومن ناحية أخرى فإن اتساع التمثيل والقوى الداخلة فيه يتيح فرصة لا بأس بها لفك الارتباط بين روما والسراج وجماعات الإسلام السياسى ضمن إطار أوسع. خصوصا مع الموقف الحازم الذى اتخذته مصر وحفتر تجاه ممثل تركيا والجماعات المذكورة أثناء المؤتمر، مما دفع ممثل تركيا للانسحاب.

إذن فقد كان «مؤتمر باليرمو» نقطة سجلتها إيطاليا لصالحها فى سياق السعى نحو التسوية فى ليبيا.. لكن فرنسا لاتزال عازفة عن إبداء الحماس تجاه التعاون لتنفيذ مقررات «باليرمو».. كما أنها ترفض إبداء المرونة فى مسألة قبول مزيد من اللاجئين غير الشرعيين الذين تتحمل إيطاليا العبء الأكبر فى استقبالهم وإيوائهم.. كما ترفض تقديم مزيد من المساعدات الأوروبية (والفرنسية) لدعم إيطاليا فى عملية استيعابهم.. ويؤدى كل هذا إلى حدوث توتر ملموس في العلاقات الفرنسية ـ الإيطالية..

غير أنه ـ وكما أوضحنا بالتفصيل ـ يظل الصراع على الثروات النفطية الليبية (ويمكن بقدر من التجاوز القول: الصراع بين «إينى» و«توتال»).. هو السبب الأعمق فى تصاعد التوتر.. إلى حد انخراط شخصيات رسمية إيطالية رفيعة المستوى في توجيه الانتقادات العلنية الحادة إلى فرنسا..

وتبقى هنا نقطة مهمة، وإن كان أطراف مثل هذه الصراعات لا يستطيعون التعبير عنها بصراحة.. تلك هى أن الدول الاستعمارية كلها تعتبر مستعمراتها السابقة (حقًا) لها!! وأن دخول دول استعمارية أخرى في السباق على هذه المستعمرات السابقة، هو أمر يمثل نوعًا من (التعدى)!! وهو (منطق) قد يستطيع الاستعماريون القدامى والجدد فهمه.. لكن الشعوب ترفضه بالقطع.. ومن هنا فإننا نتمنى للتسوية الليبية نهاية تعيد ثروات ليبيا لشعبها.

 

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE