د.محمد فراج يكتب: اغتيال صديق مقرب لترامب ونتنياهو.. شواهد ودلالات

اغتيال السياسى البارز الأمريكى شارلى كيرك الحليف المقرب للرئيس ترامب ورئيس الوزراء الصهيونى نتنياهو حدث خطير ذو دلالات تستحق التوقف عندها، وليس مجرد حدث عابر من أحداث العنف السياسى التي تتكرر من وقت لآخر فى الولايات المتحدة والتى يتعرض لها حتى الرؤساء “قتل كيندى” والمرشحون للرئاسة وآخرهم ترامب أثناء حملته الرئاسية والنعى الحار الذى نعى به “كيرك” كل من ترامب ونتنياهو دليل علي أهمية القتيل للإدارة الأمريكية والكيان الصهيونى على السواء.
شارل كيرك سياسى بارز رغم صغر سنه (31 سنة) وهو الذى قاد حملة ترامب الانتخابية فى صفوف الشباب وجلب له دعما واسعا بينهم كان من أهم أسباب نجاحه وتشير بعض التوقعات إلى أن الدائرة الضيقة المحيطة بترامب ونائبه فانس كانت تخطط لتقديمه كنائب لفانس عندما يترشح للرئاسة بعد انتهاء ولاية ترامب، نظرا لما يتمتع به كيرك من شعبية واسعة بين صفوف الشباب كمؤسس لحركة “نقطة تحول turning point” اليمينية ومقدم لبرنامج إذاعى ناجح وبودكاست شهير ومُتحدث بارز باسم التليفزيون وفى المؤتمرات الجماهيرية ومؤثر على شبكات التواصل الاجتماعى لديه 5.3 مليون متابع على موقع “إكس”.
وهو من أبرز مؤيدى سياسة ترامب تجاه أوكرانيا والشرق الأوسط ومن أبرز الداعمين للدولة الصهيونية وسياستها الإجرامية وحرب الإبادة التى تشنها ضد الشعب الفلسطينى فى غزة وسياسة الترحيل والاستيطان الإجرامية فى الضفة الغربية.
وقد تم اغتيال كيرك برصاصة واحدة فى العنق أطلقها عليه قناص من مسافة مائتى قدم أثناء إلقائه خطابا فى فعالية جامعية فى ولاية بوتا الأمريكية.
ترامب ونتنياهو حزينان
الرئيس الأمريكى ترامب نعى كيرك بكلمات حارة واعتبره شهيدا للحقيقة والحرية، وتوعد بملاحقة المسئولين عن قتله بلا كلل حتى تقديمهم للعدالة وأدان ترامب “العنف السياسى” بكل أشكاله فى مقطع فيديو مطول له على موقعه “تروث سوشيال” متهما “اليسار الراديكالى” بالتسبب فى تأجيج ذلك العنف فى إشارة إلى الجناح اليسارى فى الحزب الديمقراطى الأمريكى المعروف بمعارضته لبعض جوانب الانحياز المطلق من جانب إدارة ترامب إلى الدولة الصهيونية وجوانب عديدة فى السياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية لترامب، وكذلك بعض جوانب سياسته تجاه الحلفاء الأوروبيين وحلف الناتو.
أما نتنياهو فقد وصف “كيرك” بأنه كان صديقا شجاعا لإسرائيل وكان يتحدث بالحق ويدافع عن الحرية، وأضاف: “لقد اتصلت به منذ أسبوعين ودعوته لزيارة إسرائيل لكن الزيارة لم تتم، لقد فقدنا إنسانا مذهلا”.
بينما وصف جدعون ساعر وزير خارجية الكيان الصهيونى كيرك بأنه كان صديقًا رائعًا لإسرائيل ومحاربا شجاعا من أجل الحقيقة والحرية.
وبديهى أن يكون هذا هو موقف ترامب ونتنياهو تجاه اغتيال شخصية مؤيدة لسياساتهما على النحو الذى كان عليه كيرك، كما أنه بديهى أن يكون موقفهما على النقيض تماما من اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية واللبنانية مثل إسماعيل هنية وحسن نصرالله ورفاقهما وأى شخصيات وطنية أو تقدمية فى أى مكان فى العالم باعتبار أن الولايات المتحدة هى العدو الرئيسى لآمال شعوب العالم كله فى الحرية والتنمية والتقدم، وأن إسرائيل هى حليفها العضوى فى الشرق الأوسط ومخابرات البلدين هى المسئول الأول إما عن التخطيط والتنفيذ “الكيان الصهيونى” أو عن تقديم كافة أشكال الدعم المطلوبة لارتكاب تلك الجرائم “أمريكا” ثم تقديم الحماية السياسية والعسكرية للمجرم المباشر.
صراع متزايد العمق والعنف
لكن الأمر اللافت للنظر بقوة في السنوات الأخيرة هو تزايد ظواهر العنف السياسى والاجتماعى في الولايات المتحدة وارتباط ذلك متزايد وتعمق الصراع السياسى والاجتماعى فى المجتمع الأمريكى والمرتبط بدور بزيادة نفوذ اليمين والنزعات المتطرفة والفاشية فى ذلك المجتمع.
إذ يتسع نطاق عنف البوليس ضد المشتبه بهم أثناء اعتقالهم بما يؤدى فى حالات متزايدة إلى مصرع هؤلاء وخاصة من السود مما يترتب عليه حركات احتجاجية جماهيرية تتسم بالعنف، كما يتسم رد البوليس عليها بعنف متزايد.
ومع اشتعال حرب الإبادة فى غزة وبروز حركة طلابية واسعة مؤيدة للفلسطينيين ومعادية لحرب الإبادة فى عديد من الجامعات الأمريكية الكبرى رأينا ليس إجراءات القمع من جانب إدارات تلك الجامعات لأعداد كبيرة من الطلاب بل والأساتذة “الفصل وإنهاء التعاقد” فحسب، بل وأيضا اقتحام قوات الشرطة للحرم الجامعى وتفريق وقمع الاجتماعات والمظاهرات بالقوة مع استخدام القوة المفرطة حتى ضد الأساتذة بمن فيهم كبار السن والنساء!!
وهذه كلها ظواهر لم تحدث أثناء الحركة الطلابية المعارضة لحرب فيتنام، أو على الأقل لم تحدث بالصورة الواسعة والعنيفة التى رأيناها خلال العامين الماضيين.
اقتحام الكونجرس من جانب أنصار ترامب بعد سقوطه أمام بايدن ومحاولة منع إتمام إجراءات التصويت الضرورية لتنصيب بايدن كانت بدورها ظاهرة تحدث للمرة الأولى في التاريخ الأمريكى ولا ننسى بالطبع تهديدات ترامب أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة بإشعال البلاد “إذا حدث أى تلاعب” من وجهة نظره طبعا.
كما يجب الإشارة أيضا إلى نشر ترامب لقوات الحرس الوطنى فىولاية كاليفورنيا “كبرى الولايات الأمريكية” فى يونيو من العام الجارى بتوجيهات منه إلى وزارة الدفاع وبدن طلب من حاكم الولاية المنتخب كما يقضى الدستور، بل وبالرغم من معارضته والأكثر من ذلك التهديد بنشر مشاة البحرية فى الولاية (!!) لمواجهة المظاهرات المعارضة لإجراءات فيدرالية غير دستورية أيضا ضد المهاجرين غير الشرعيين، ولم يعر ترامب انتباهًا لبيان صادر عن حكام منتخبين لـ22 ولاية يطالبون بسحب القوات المذكورة ويحتج على انتهاك الدستور.
والأمثلة كثيرة جدا عن استخفاف ترامب بالدستور والقانون والحريات الأساسية ومن انتهاكاته لذلك كله بصورة غير مسبوقة فى التاريخ الأمريكى، وبديهى أن ذلك كله يشجع على انتشار ظواهر العنف الفردى والجماعى غير المنظم بغض النظر عن إدانتنا نحن أو غيرنا لهذه الظواهر.
ومن ناحية أخرى فإن أجهزة الدولة العميقة الأمريكية ذات التاريخ الحافل فى انتهاك القانون وصولا لاتهامها باغتيال رئيس الدولة نفسه “جون كيندى” رفضا لسياسته التى اعتبرت “متساهلة” إزاء الاتحاد السوفيتى وقتها (1963) هذه الأجهزة تنتعش داخلها توجهات وأمزجة الاستخفاف بالقانون والدستور خاصة حينما يكون الانقسام بين الأوساط السياسية العليا وفى مؤسسات الدولة حول قضايا كبرى وجوهرية بالنسبة للمصالح الأمريكية كالحرب الأوكرانية والموقف من روسيا والأمن الأوروبى وحلف الناتو.
ولا يجب هنا أن ننسى أن السياسى القتيل “كيرك” هو من أشد أنصار موقف ترامب من الحرب الأوكرنية والذى يتناقض على طول الخط مع موقف الإدارة الديمقراطية السابقة بقيادة بايدن، وهى الإدارة المتغلغلة بعمق في أجهزة المخابرات التى تلقت ضربات قوية من ترامب وحليفه إيلون ماسك بجرب تنصيب ترامب كما لا ينبغى أن نتجاهل حقيقة أن عملية الاغتيال كانت منظمة واحترافية أن القاتل “تبخر” من موقع الجريمة، وهو ما يشير إلى أنه “ربما” كانت وراءه قوة منظمة محترفة وربما كان فى اغتياله رسالة خشنة إلى ترامب نفسه.
الحديث هنا ذو شجون لكن الحقيقة هى أن ما يُسمى بـ”الديمقراطية الأمريكية” تواجه أزمة جدية، وتتجه إلى أشكال مختلفة من العنف الفردى والمجتمعى، وهذا أمر يرتبط بالانقسام حول سبل مواجهة التراجع النسبى الواضح فى القوة الأمريكية وهو انقسام يتزايد وضوحه يومًا بعد يوم، وبروز ظاهرة “دونالد ترامب” وسياساته وأساليبه فى الحكم واتخاذ القرارات هو نفسه أحد مظاهر هذه الأزمة، وأمريكا تتجه يوما بعد يوم إلى المزيد من الانقسام والعنف واهتزاز الاستقرار.