الأموال
الأموال

مركز الأموال للدراسات

الإقناع الخفي: ما لا تقوله الإعلانات.. هو ما يصنع التأثير الحقيقي

-

في زمن تتزاحم فيه الرسائل التسويقية على الشاشات والمنصات، ويتعرض فيه المستهلك يوميًا لعشرات وربما مئات المؤثرات البصرية والنفسية، لم يعد التميّز في جودة المنتج وحده كافيًا، بل باتت المعركة الحقيقية تُخاض في الخفاء، تحديدا في "اللاوعي الجماعي" للجمهور، حيث تتشكّل الانطباعات وتُتخذ القرارات قبل أن يتدخل العقل الواعي.

وفي هذا السباق الخفي قالت شركة W7Worldwide للاستشارات الاستراتيجية والإعلامية من خلال بحثها وخبراتها فى السوق، إن العلامات التجارية الذكية المشهد، من خلال صنع قصص ورسائل مشحونة بالعاطفة والرمزية، تغرس ببراعة في ذهن المتلقي دون الحاجة إلى التصريح المباشر أو الخطاب الدعائي التقليدي.

"نايكي".. درس أولمبي في التأثير النفسي

ضمن مشاركتها في أولمبياد عام 2024، قدّمت شركة "نايكي" للأحذية والملابس الرياضية، إعلانًا بعنوان "الفوز ليس للجميع"، لم تطلب فيه من الجمهور شراء الأحذية، ولم تُظهر المنتجات بشكل مباشر، بل استعرضت خلال دقيقة واحدة مشاهد قوية تجسّد معاني التضحية والتفرّد والإصرار.

وكانت النتيجة؟ موجة تفاعل واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، وارتفاع في معدلات الحماس والانجذاب نحو العلامة، التي تمكّنت بذكاء من تعزيز ما يُعرف بـ"عقلية النخبة"، وترسيخ فكرة أن العظمة لا تُمنح للجميع، بل تُنتزع لمن يدفع ثمنها.

هذا النوع من الرسائل يُعرف في علم السلوك بـ "التهيئة النفسية" (Priming)، وهو أسلوب متقدّم في العلاقات العامة، يُعتمد فيه على زرع فكرة أو شعور معين في ذهن الجمهور قبل أن تتاح للمنطق فرصة الاعتراض أو التحليل، بمعنى آخر، تُغرس الفكرة في اللاوعي، قبل أن يدركها العقل الواعي أو يقيّمها.

وتشير أبحاث من جامعة هارفارد إلى أن نحو 95% من قرارات الإنسان تُتخذ لا شعوريًا، بشكل تلقائي وغير واعٍ، وهي حقيقة لا يمكن لأي محترف في العلاقات العامة أو التسويق تجاهلها، خصوصًا في عصر تتصارع فيه العلامات التجارية على جذب الانتباه في ثوانٍ معدودة.

قوة التأثير الخفي.. من التهيئة إلى التوجيه

تكمن قوة التهيئة النفسية في قدرتها على غرس "فكرة أساسية" في اللاوعي قبل أن يتدخل المنطق، فعلى سبيل المثال، بمجرد أن يتقبل الجمهور، على المستوى اللاواعي، فكرة أن "العظمة تتطلب تضحية"، تصبح أي رسالة لاحقة حول إصدار محدود من الأحذية الرياضية الجديدة امتدادًا منطقيًا وطبيعيًا لتلك القناعة المترسخة.

وهنا يأتي دور التوجيه اللغوي (Framing)، وهو أسلوب يعتمد على اختيار دقيق للأفعال والصفات والعبارات ذات التأثير الحسي والعاطفي القوي، بهدف صياغة معنى يُكمله المتلقي بنفسه في ذهنه، دون أن يشعر بأنه يتعرض لتوجيه مباشر أو إقناع صريح.

وتُعد هذه التقنية الذكية أداة فعّالة تعتمد عليها العلامات التجارية لتفادي مقاومة الجمهور المعتادة تجاه الرسائل التقليدية أو الشعارات الصريحة، التي قد تُثير الشك أو تدفع إلى الرفض.

الاختصارات الذهنية.. قرارات أسرع بتفكير أقل

تلعب الاختصارات الذهنية (Heuristics) دورًا محوريًا في هذه الاستراتيجية، وهي أدوات عقلية يستخدمها الإنسان لاتخاذ قرارات سريعة وفعّالة في مواقف معقّدة، دون الحاجة لتحليل مطوّل، ومن أبرزها:

• الارتساء (Anchoring): حيث يعتمد الأفراد بشكل كبير على المعلومة الأولى التي يتلقونها عند اتخاذ القرارات التالية، فالانطباع الأول غالبًا ما يترك أثرًا طويل الأمد.

• سهولة الاستحضار (Availability): يميل الناس إلى الاعتقاد بأن الأحداث أو المعلومات التي يسهل تذكّرها أو تخيّلها هي الأكثر احتمالًا للوقوع، بغضّ النظر عن دقتها أو واقعيتها.

• الدليل الاجتماعي (Social Proof): يتأثر الأفراد بسلوك الآخرين وقراراتهم، ويزداد هذا التأثير كلما ازداد عدد الأشخاص الذين يتبنون السلوك ذاته، كما في العبارات التسويقية الشائعة مثل: "الملايين استخدموا هذا المنتج"، ما يزرع شعورًا بالثقة والمصداقية.

التسويق العصبي ودوره في إعداد الحملات

كما أصبح علم التسويق العصبي (Neuromarketing) أداة أساسية في رسم الحملات التسويقية، حيث باتت كبرى الشركات العالمية مثل "كوكاكولا" تعتمد عليه في أدق تفاصيل استراتيجياتها.

ويستخدم فريق الأبحاث في "كوكاكولا" تقنيات متطورة مثل تتبّع حركة العين، وتخطيط الدماغ الكهربائي، لقياس تأثير العناصر البصرية واللغوية، من ألوان الخلفيات وسرعة التنقل بين المشاهد، إلى الكلمات القصيرة المستخدمة في الإعلان.

كل ذلك بهدف تحفيز نظام "المكافأة العصبية" في الدماغ، وهي المناطق المسؤولة عن الإحساس بالرضا واتخاذ القرار، ما يزيد من احتمالية استجابة الجمهور للرسالة وتحقيق التفاعل المطلوب.

سيكولوجية الألوان.. رسائل تتغير حسب الثقافة

رغم أن علم نفس الألوان ليس جديدًا، إلا أن العديد من العلامات التجارية لا تزال تقع في أخطاء ثقافية عند استخدام الألوان في حملاتها العالمية، ما يعرّض رسائلها لسوء الفهم أو ضعف التأثير في بعض الأسواق.

فعلى سبيل المثال، يُعد اللون الأحمر في الأسواق الغربية رمزًا للسرعة والعاطفة والحماسة، ويُستخدم بكثرة في العروض الترويجية والخصومات المحدودة، لكن عند استخدامه في حملات الرعاية الصحية في منطقة الشرق الأوسط، قد يُفهم على أنه إشارة للخطر أو التحذير، مما يُضعف الأثر الإيجابي المطلوب.

أما اللون الأزرق، فيحمل دلالات أكثر استقرارًا؛ فهو يرمز إلى الثقة والهدوء، ما يفسّر انتشاره الواسع في شعارات شركات التقنية والتمويل في مدن كبرى مثل الرياض وكوبنهاغن.

ويُعد الأخضر من أكثر الألوان المقبولة عالميًا كرمز للطبيعة والاستدامة، لكنه يحمل في الثقافة الإسلامية بعدًا روحانيًا عميقًا، ما يجعله خيارًا فعّالًا في الحملات البيئية أو المجتمعية في العالم العربي.

حتى اللون الأبيض لا يحمل دلالة موحّدة عالميًا؛ ففي الغرب يُنظر إليه باعتباره رمزًا للنقاء والبساطة، بينما يُرتبط في بعض التقاليد العربية بالموت والحداد، مما يجعله خيارًا حساسًا في قطاعات مثل الرفاهية أو الصحة النفسية.

لهذا، أصبح اختبار لوحات الألوان اليوم جزءًا لا يتجزأ من تصميم الحملات التسويقية، تمامًا مثل ما تُختبر الشعارات والعناوين الرئيسية، لضمان توافق الرسالة مع السياق الثقافي المحلي.

حالات واقعية.. كيف أثّرت الاستراتيجيات اللاواعية بفعالية؟

عند استخدام الاستراتيجيات اللاواعية بذكاء، تصبح النتائج ملموسة ومؤثرة، ومن أبرز الأمثلة الحديثة:

"نايكي" – الحملة الأولمبية 2024

أصبحت هذه الحملة نموذجًا يُدرَّس في أقسام التسويق في الجامعات، فمن خلال رفع الإيقاع الحماسي للفيديوهات، وتعديل تدرجات اللون الأحمر لتخفيف إيحاءات الغضب، مع الإبقاء على ما يكفي منه ليعكس القوة، نجحت الشركة في إيصال رسالتها دون تصريح مباشر.

وكانت النتيجة: زيادة ملحوظة في نوايا الشراء لدى الرياضيين، الذين شعروا أن الحملة تعبّر عنهم وتعكس قيمهم.

"كوكاكولا" – إعادة تصميم نقاط البيع 2025

اعتمدت الشركة على أدوات التسويق العصبي، حيث كشفت بيانات تخطيط الدماغ أن درجة اللون الأحمر الكلاسيكي يجب أن تُخفَّض بمقدار درجتين على مقياس "بانتون"، وهو ما جعل الشركة تستخدم درجة لون أقرب إلى القرمزي، حفّز استجابة عاطفية أعمق وساهم في زيادة الاحتفاظ بالرسالة الإعلانية في الذاكرة مقارنة باللون الأصلي.

مبادرة "Grammys Give Back" – حملة إنسانية بأثر كبير

استخدمت الأكاديمية الأمريكية للتسجيلات مشاهد مؤثرة لحرائق غابات حقيقية ضمن حملة "غرامي جيف باك"، ودمجت ذلك مع رموز QR، وروّج لها نجوم عالميون مثل بيلي إيليش وجوناس برازر، وأدى ذلك إلى نجاح الحملة وجمع أكثر من 7 ملايين دولار خلال 3 أسابيع فقط، بفضل المزج الذكي بين التهيئة العاطفية والدليل الاجتماعي المدعوم بالمشاهير، مما عزّز من مصداقية الرسالة ورفع معدل التفاعل بشكل كبير.

الجانب الأخلاقي.. متى يصبح التأثير تلاعبًا؟

رغم أن التأثير في حد ذاته هو جوهر العمل الاتصالي، إلا أن "التأثير غير المرئي" بات يثير قلق الهيئات التنظيمية، خاصة عند استهداف الفئات الضعيفة أو استخدام أدوات يصعب على الجمهور تمييزها أو مقاومتها.

ففي الولايات المتحدة، تمتلك لجنة التجارة الفيدرالية (FTC) صلاحيات لمعاقبة الإعلانات التضليلية، لكنها حتى اليوم لا تملك إطارًا قانونيًا واضحًا يضبط الرسائل اللاواعية أو استخدام بيانات التسويق العصبي.

أما في أوروبا، فقد بدأت الجهات التنظيمية بوضع قواعد أكثر صرامة، خاصة فيما يتعلق بجمع وتحليل البيانات العصبية في الحملات التي تستهدف الأطفال.

ويتفق الخبراء وأعضاء لجان الأخلاقيات على ثلاث قواعد رئيسية لضمان التوازن بين فعالية التأثير ومصداقية العلامة التجارية، وهي:

1. الشفافية قدر الإمكان، دون الكشف عن أسرار العمل.

2. تحقيق فائدة مجتمعية حقيقية، تتجاوز الأهداف الربحية.

3. احترام حرية الجمهور في اتخاذ القرار، دون ضغوط خفية أو محاولات للتلاعب باللاوعي.

نصائح عملية: الانضباط هو أساس التأثير الأخلاقي

بحسب تقارير W7Worldwide للاستشارات الإستراتيجية والإعلامية، فإن نجاح الحملات التي تعتمد على استراتيجيات التأثير اللاواعي لا يرتبط فقط بالإبداع، بل يعتمد على الانضباط المؤسسي والتخطيط الدقيق، مشيرةً إلى أن العلامات التجارية الراغبة في تحقيق نتائج فعّالة ومستدامة، عليها اتباع مجموعة من التوصيات العملية، أبرزها:

• تحليل الألوان حسب كل سوق محلي، لضمان ملاءمتها ثقافيًا ونفسيًا قبل اعتماد التصميم النهائي.

• تهيئة الإطار العاطفي للحملة مبكرًا، بحيث تصل الرسائل إلى الجمهور في حالة استعداد نفسي يسهّل تقبّلها وفهمها.

• الاستثمار في اختبارات التسويق العصبي على نطاق صغير، كونها أقل تكلفة من إعادة إنتاج الحملة، ولكنها توفر بيانات دقيقة تعزز فعالية الرسائل.

• إنشاء قائمة مراجعة أخلاقية داخلية، تساعد الفرق التسويقية على تقييم الحملات من منظور أخلاقي، وتضمن التزام العلامة بالشفافية والاحترام في التواصل مع الجمهور.

فإذا شعر الجمهور بأي نوع من التلاعب، فإن التأثير اللاواعي الذي تحققه العلامة اليوم قد يتحوّل إلى أزمة سمعة غدًا.

ختاما.. لقد انتقلت معركة جذب الانتباه من الشوارع إلى الشاشات، ومن اللوحات الإعلانية إلى اللاوعي البشري، واليوم لم تعد المنافسة على "حصة السوق" فقط، بل على "حصة من الانتباه" و"مساحة من الذاكرة".

فالعلامات التجارية التي تتقن استغلال اللحظة الفاصلة بين التعرّض للمحتوى والإدراك، ستتمكّن من ترسيخ مكانتها في ذهن المستهلك، أما تلك التي تتجاوز حدودها الأخلاقية وتحاول التسلّل إلى وعي الجمهور دون إذن، فسرعان ما ستُرصد وتُحاسب، وسيحفظها الجمهور في ذاكرته كـ"علامة حاولت خداعه"... ولن يمنحها فرصة ثانية بسهولة.