د.محمد فراج يكتب: سوريا على صفيح ساخن (1)

فصل جديد من فصول استباحة سوريا تكتبه إسرائيل هذه الأيام متذرعة بحماية الدروز فى محافظة السويداء من قوات جيش وأمن حكومة (الجولانى/ الشرع) الطيران الصهيونى دمر مقر هيئة أركان جيش دمشق ومبنى وزارة الدفاع وقصف داخل القصر الجمهورى ووحدات الجيش التى كانت قد توجهت إلى السويداء كما أعلن نتنياهو أن اسرائيل ملتزمة بحماية الدروز من قوات "الجولانى/ الشرع" وأن هذه القوات ممنوعة من التواجد فى الجنوب السورى. وهكذا اضطر الجولانى للإعلان عن سحب قوات جيشه من السويداء، وترك وحدات من قوات الأمن لتقوم بحفظ النظام بالاشتراك مع وحدات درزية، بعد أن تم التوصل مع بعض زعماء الطائفة على تنظيم هذه العملية وقد سقط عشرات القتلى من قوات الجولانى والمسلحين والمدنين الدروز نتيجة للاشتباكات بين الطرفين، والقصف الصهيوني ولاتزال الاشتباكات المتفرقة مستمرة حتى كتابة هذه السطور (فجر الخميس 17/ 7 لضرورات تقديم المقال للنشر).
اللافت للنظر أن هذه الضربات الإسرائيلية الموجعة والمهينة جاءت بعد يومين فقط من مباحثات جرت بين وفد إسرائيلى رفيع المستوى، ووفد سورى أشارت تسريبات إعلامية إلى أن الجولانى/ الشرع نفسه كان على رأسه – فى العاصمة الآذرية (باكو) بترتيبات شاركت فيها الولايات المتحدة وتركيا بهدف الإعداد لعقد اتفاق سلام وأمن بين دمشق وتل أبيب فى إطار الاتفاقيات الإبراهيمية سيئة السمعة، تتم بموجبه إقامة علاقات تطبيع وتعاون شامل بين الطرفين بدون التزام إسرائيلى بالانسحاب من الجولان، أو الأراضى السورية التى احتلها الكيان الصهيونى بعد الإطاحة بنظام الأسد (8 ديسمبر 2024) والتى تبلغ مساحتها سبعمائة كم2.
لا رحمة للمنبطحين
وباختصار فإن كل الاستعداد المشين للانبطاح الذى يُبديه (الجولانى) أمام العدو الصهيونى لا يجعله بمنجاة من الضغط العسكرى المهين الذى يقوم به العدو لفرض وقائع أكثر موافاة لمصالحه وأكثر إذلالًا للطرف المنبطح، أو ما يسميه نتنياهو: السلام المفروض تحت ضغط القوة.
وما تريده إسرائيل هو بسط هيمنتها العسكرية على الجنوب السورى بالكامل وصولا إلى المناطق الوسطى من البلاد وعدم جود أى قوات تابعة حتى لدمشق وبناء على ذلك ضربت وحدات جيش الجولانى وأجبرتها على الانسحاب، وكانت منذ شهور قليلة قد ضربت مطارى تدمر وحماة حينما تسربت تقارير تشير إلى نية تركيا فى إقامة قاعدتين جويتين لها فى المطارين، معلنة أنها لن تسمح بوجود أى قوة عسكرية غير إسرائيلية فى هذه المناطق من سوريا، وهو يبقى الطريق مفتوحا أمام الدولة الصهيونية لمد نفوذها أو حتى وجودها العسكرى بصورة من الصور حتى الحدود العراقية، فى إطار سعيها لإقامة إسرائيل الكبرى التى أصبحت في الفترة الأخيرة تنشر خرائطها في كل مكان وكل مناسبة.
الانخراط الكامل لنظام الجولانى/ الشرع فى الاتفاقيات الإبراهيمية كان أهم شروط الولايات المتحدة لرفع عقوباتها عن سوريا، وهو ما أعلنه ترامب بوضوح أثناء زيارته للرياض، حيث استقبل الجولانى وأبلغه بالقرار وسط ترحيب خليجي كبير.
الطائفية والارهاب
ولابد أن تلاحظ هنا أنه بينما كان الانخراط فى الاتفاقيات الإبراهيمية وتصفية أى بقايا للوجود الإيرانى أو السياسى الفلسطينى، وحزب الله، إلخ، شروطا ضرورية لرفع العقوبات الأمريكية فإن وجود المنظمات الإرهابية المتطرفة مثل جبهة النصرة والجيش التركستانى والأوزبك والشيشان وغيرها من المنظمات التى تضم عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين والعرب والأجانب، لم يكن محل رفض أو اشتراطات وهذا مفهوم تماما، فهذه المنظمات نفسها وعلى رأسها النصرة بقيادة الجولانى هى التى أنهكت نظام الأسد منذ عام 2011 وهى التى أطاحت به فى النهاية تحت اشراف أمريكى وتركى مباشر (ديسمبر 2024) يمثل زعماؤها وكوادرها وأعضاؤها الآن الجسم الأساسى لنظام الجولانى وجيشه وقواه الأمنية، وكلهم من العناصر الإرهابية المتطرفة والتكفيرية، ويعتنقون المذهب الوهابى "السنى" وهم يكنون عداءً أعمى ليس لأبناء الأديان الأخرى فحسب، بل ولأبناء المذاهب الإسلامية المختلفة، فضلًا عن المنتمين للتيارات الفكرية الديمقراطية والليبرالية والحداثية أيًا ما كانت أديانهم أو مذاهبهم، وهم يمارسون هذا العداء الأعمى الآن تحت مظلة الدولة، وفى أيديهم السلاح! وينشرون موجات همجية من الإرهاب فى المجتمع السورى الذى لطالما كان نموذجًا للتعايش بين أبناء مختلف الأديان والمذاهب والطوائف.
وعلى سبيل المثال فقد تعرضت عدة كنائس لاعتداءات من هذه العناصر وإن كان الخوف من إغضاب الغرب يمثل رادعًا مهمًا لهم بمنعهم من التوسع فى هذا الاتجاه.
أما فصل العداء الطائفى للنظام وأجهزته وأعدائه نتيجة بصورة أساسية نحو الطائفة العلوية، التى كان ينتمى إليها أغلب قادة نظام الأسد، والتى يتركز أغلبها فى منطقة الساحل السورى، وتعيش أعداد غير قليلة منها فى منطقة حمص وقد شهدت مناطق العلويين أحداث اغتيال واختطاف للشباب والفتيات على نطاق واسع بعد الإطاحة بنظام الأسد إلا أن أخطرها كان منذ نحو أربعة شهور حيث قامت وحدات من جيش الجولانى وأجهزته الأمنية بعملية اجتياح واسعة لمنطقة الساحل بدعوى مطاردة فلول النظام، وجرت عمليات قتل على الهوية راح ضحيتها نحو ألفى مواطن سورى علوى فضلا عن عمليات نهب للمنازل واعتداءات همجية وصفتها الأمم المتحدة بأنها جرائم حرب وأعلن الجولانى عن تشكيل لجان لتقصى الحقائق وعن حتمية محاكمة المجرمين.. إلخ، ولكن برغم مرور أربعة أشهر لم تسفر التحقيقات عن شىء، كما أن الاعتداءات ضد العلويين لم تتوقف.
وتحتل الطائفة الدرزية فى محافظة السويداء جنوب البلاد الهدف الثانى الأكثر استقطابا لعداء نظام الجولاني وفصائله المسلحة، ولا يتسع المقام هنا لبحث مشكلات الدروز مع نظام الأسد، ثم مع النظام الحالى، لكن ما يعنينا هنا هو أن أجهزة النظام "وما يسميه بالعناصر المنفلتة" تمارس استفزازات واعتداءات واسعة ضد الدروز دون اعتبار لحساسية الوضع الجغرافى لمنطقتهم، ولا لامتداداتهم فى البلدان المجاورة (لبنان وفلسطين) ولا لحقيقة أن العدو الصهيونى جاهز دائمًا للتدخل فى السويداء لأسبابه التى ذكرناها فى بداية مقالنا، مما يوجب الحرص الشديد فى التعامل مع سكان المنطقة حتى لا يجد العدو أرضية للتغلغل فيها، وكل هذا يستوجب حساسية عالية فى التعامل مع الوضع الدرزى والمسارعة بمحاسبة العناصر المنفلتة بحزم وعلنا، وهو ما لا يحدث فيظل التوتر الشديد مسيطرا على المنطقة وعلى العلاقة بينها وبين النظام.
وبديهى أن هذا لا يعطى العدو الصهيونى أى شرعية للتدخل بأى شكل من الأشكال فى شئون سوريا وشعبها، لكن السؤال يظل قائما: لماذا تعادون وتستفزون جزءًا من شعبكم؟؟ وللأسف فإن وسائل التواصل الاجتماعى حافلة بأمثلة كثيرة مما نتحدث عنه.
وللحديث بقية..