الأموال
السبت، 20 أبريل 2024 03:49 مـ
  • hdb
11 شوال 1445
20 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

الزلزال التونسى.. والأسباب الأعمق للصدام بين «النهضة» والرئيس

الكاتب الصحفي الدكتور محمد فراج أبو النور
الكاتب الصحفي الدكتور محمد فراج أبو النور

بقلم : د. محمد فراج أبوالنور

زلزال سياسى أحدثته قرارات الرئيس التونسى قيس سعيد يوم الأحد الماضى (٢٥ يوليو) زلزال لم يهز تونس وحدها، بل امتدت أصداؤه إلى المنطقة كلها.. والمؤكد أن توابعه سوف تستمر طويلا وتمتد إلى أكثر من بلد.

الرئيس التونسى قرَّرَ تجميد صلاحيات البرلمان ورفع الحصانة عن جميع أعضائه، وإقالة حكومة هشام المشيشى رئيس الوزراء الموالى لحركة «النهضة» الإخوانية التى يتزعمها راشد الغنوشى رئيس البرلمان، وأحد أبرز قيادات التنظيم الدولى لجماعة الإخوان ومعروف أن «النهضة» تمثل الفرع الرئيسى للتنظيم الدولى المذكور.

كما شملت قرارات الرئيس التونسى قيامه بتولى السلطة التنفيذية كاملة بمساعدة رئيس الحكومة يقوم باختياره وأن يتولى سعيد بنفسه رئاسة النيابة العمومية.. وهى فى تونس مستقلة عن السلطة القضائية، وتابعة لوزارة العدل.. وتوالت خلال أيام الأسبوع المنقضى قرارات بإقالة عديد من كبار المسئولين فى وزارات وأجهزة الدولة كانت حركة «النهضة» الإخوانية قد قامت بتعيينهم خلال الشهور والأعوام الماضية.

قرارات الرئيس التونسى اكتسبت قوتها من تأييد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية التى كانت قياداتها موجودة مع الرئيس حول نفس الطاولة، وقت إعلان القرارات التى حظيت أيضا بتأييد عدد من الأحزاب وأهم منظمات المجتمع المدنى، وفى مقدمتها الاتحاد التونسى العام للشغل أكبر وأهم المنظمات النقابية فى البلاد، واتحاد الصناعة والتجارة الذى يضم رجال الأعمال واتحاد المرأة وهيئة المحامين التونسية «نقابة المحامين» التى طالبت بسرعة فتح ملفات الفساد والاغتيالات التى شملت عددا من قيادات المعارضة لحركة النهضة فى مقدمتهم الزعيم اليسارى شكرى بلعبد والزعيم القومى محمد البراهمى.. وهى قضايا تعرض التحقيق فيها لتلكؤ كبير استمر لسنوات، كما اختفت ملفات بعضها بطريقة مشبوهة عزاها المراقبون إلى تغلغل حركة «النهضة» فى صفوف القضاة ورجال النيابة، وهو الأمر الذى يفسِّر قرار الرئيس بأن يتولى بنفسه رئاسة النيابة العامة بغية إحكام الرقابة عليها.

وكان لافتا للنظر أن يوم صدور قرارات الرئيس التونسى شهد مظاهرات حاشدة منذ الصباح ضد حركة «النهضة» وزعيمها الغنوشى، وحكومة المشيشى احتجاجا على عجز الحكومة، الأقرب إلى الشلل الكامل، فى مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التى ظلت تعصف بالبلاد طوال الشهور الأخيرة، وبصورة خاصة عجز الحكومة التام فى مواجهة وباء كورونا الذى يحصد أرواح التونسيين بالآلاف، حتى أن تونس التى لا يزيد سكانها على الـ١١مليون نسمة أصبحت الدولة رقم (١) من حيث عدد حالات الإصابة والوفيات في إفريقيا والوطن العربى (نكرر القول: الدولة الأولى فى الوطن العربى وإفريقيا) حيث توجد بلاد يزيد عدد سكانها علي المائة مليون نسمة مثل مصر ويقارب المائتى مليون نسمة مثل نيجيريا وبرغم ما يعكسه هذا الوضع الكارثى من انهيار اقتصادى وفشل حكومى وإدارى تام فقد كان الإجراء الذى اتخذته حكومة المشيشى فى مواجهته - ومنذ أيام قليلة - هو تقديم كبش فداء يتمثل فى وزيرة الصحة في محاولة لتحميلها المسئولية.

اللافت للنظر أيضا هو أن المظاهرات الجماهيرية اندلعت فى عدد كبير من مدن البلاد بما فيها العاصمة، بمجرد الإعلان عن قرارات رئيس الجمهورية، تأييدا لتلك القرارات، بينما كان تحرك جماهير الإخوان وأنصارهم محدودا بصورة واضحة، الأمر الذى يشير إلى تقلص شعبية «النهضة» وزعيمها بشدة بسبب الأداء السيئ للحزب والبرلمان والحكومة الأمر الذى جعل الشعب التونسى يحمّل هؤلاء مسئولية الأوضاع الكارثية التي وصلت إليها البلاد.

ومعروف أن «النهضة» تقود تحالفا للأغلبية فى البرلمان (٢١٧ مقعدا) يضم نواب النهضة (٥٢ نائبا) وحزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال نبيل القردى الذى تحاصره اتهامات الفساد (٣٨ نائبا) وحزب «ائتلاف الكرامة» من التيار الإسلامى السياسى المتطرف (٢٢ نائبا) نصاب الأغلبية (١٠٩ من ٢١٧) والحزب الأخير هو الذى قام اثنان من نوابه بالاعتداء البدنى واللفظى على زميلتهما عبير موسى مؤخرا.

وزراء فاسدون وممارسات عبثية

لم يكن انفجار الخلاف بين الرئيس قيس سعيد وحركة النهضة مؤخرا بالأمر المفاجئ.. فالصراع يتصاعد ويحتدم باستمرار طوال الشهور الأخيرة بسبب دفع الحركة لحليفها هشام المشيشى إلى إجراء تعديل وزارى واسع النطاق (فى ديسمبر الماضى) شمل ١١ وزيرا من إجمالى وزراء الحكومة (٢٨ وزيرا) التى لم يكن قد مضى على تشكيلها غير ثلاثة أشهر!

وتم التعديل دون التشاور مع رئيس الجمهورية بالرغم من كونه الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية.. والأدهى من ذلك أن الوزراء الجدد كان من بينهم ٤ وزراء متهمين بالفساد.. مما دعا الرئيس للاعتراض عليهم فرفضت «النهضة» اعتراض الرئيس بدعوى أن الوزراء الأربعة قد حازوا على ثقة البرلمان.. ورد الرئيس بأنه لن يقبل أن يؤدى اليمين الدستورية أمامه هؤلاء الوزراء الجدد المتهمون بالفساد.. فاتهمته الحركة بأنه يتجاوز صلاحياته الدستورية وتمسك المشيشى بالوزراء الفاسدين!

والحقيقة أن هذه كانت معركة خاسرة سياسيا وأخلاقيا دفع ثمنها الغنوشى والمشيشى والبرلمان والحركة.. بينما تعزز موقف الرئيس سعيد كما أن تعطيل أداء الوزراء الجدد كلهم للقسم بسبب إصرار الغنوشى والمشيشى على التمسك بالأربعة المتهمين بالفساد أضعَّفَ بشدة عمل الحكومة كلها، فى ظل ظروف بالغة الصعوبة والحساسية تمر بها البلاد، فى القلب فيها بالطبع التفشى الكبير لوباء «كورونا» الذى تطوَّر إلى وضع كارثى بكل معنى الكلمة.

ونظـرًا لأن الاقتصاد بدوره في حالة انهيار تسبب فيها الشلل الحكومى وسوء الأداء أكثر من أى شىء آخر، فإن البلاد كانت عاجزة عن مواجهة الوباء، الأمر الذى دعا الرئيس قيس سعيد إلى طلب المساعدة من كل البلدان القادرة على مد يد العون، لكن «النهضة» بدلا من الانخراط فى الجهود العامة لمكافحة الوباء أخذت تطرح شتى الخطط التى تتيح لها السيطرة على عملية التطعيم، لكى تحقق مكاسب سياسية، بالرغم من أن رئيس الدولة كان له الجهد الأكبر فى جلب المساعدات، الأمر الذى دعا الرئيس سعيد لإسناد العملية برمتها إلى سلاح الخدمات الطبية فى القوات المسلحة.

أما البرلمان فكان تحالف الأغلبية فيه «النهضة - تحالف الكرامة - قلب تونس» مشغولا بمحاولة تمرير قانون لتشكيل محكمة دستورية «على مقاسهم» تمكنهم من عزل رئيس الجمهورية أو فرض الوزراء المتهمين بالفساد عليه.. إلخ إلخ.

وبدا المشهد كله عبثيا وصادمًا، وكان من الطبيعى أن يزيد ذلك كله من الغضب الشعبى على الحكومة والبرلمان.

جذور الخلاف

والحقيقة أننا إذا أردنا النظر بصورة أعمق إلى جذور الخلاف بين النهضة وحلفائها من ناحية، والرئيس والقوى المدنية والديمقراطية من ناحية أخرى، فسنجد أن الأمر يعود إلى سياسة «التمكين» الإخوانية المعروفة التى ترمى إلى السيطرة على مفاصل الدولة السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية.. وتعيين الموالين لها فى كل مكان، بغض النظر عن كفاءتهم وهى السياسة التى أدت باستمرار للصدام بين النهضة والاتجاهات المدنية والديمقراطية وإلى عدم استقرار التشكيلات الحكومية، بسبب إصرار الحركة على استبعاد الوزراء غير الموالين لها، والدفع بعناصر موالية إلى مختلف المناصب الوزارية بدلا من غير الموالين.

من ناحية أخرى فإن تجاهل المصالح الوطنية والارتباط بمصالح التنظيم الدولى للإخوان التابع لتركيا وأردوغان كان له دور بالغ الأهمية فى توتير الأجواء بين «الإخوان» والقوى الوطنية والديمقراطية وعلى سبيل المثال فقد حاولت الحركة أن تجعل من تونس معبرًا للقوات التركية إلى غرب ليبيا، مع أن هناك قواعد تركية فى طرابلس ومصراتة وغيرها أصلا!! ولا يوجد أى سبب مقبول لتوريط تونس فى الصراع الليبى ولصالح الطرف الموالي لأنقرة، وكان رفض الرئيس سعيد لهذا التوجه أحد أهم أسباب نقمة الحركة عليه، واندفاعها لمشاكسته والصدام معه.. وهو ما دفع الرئيس للحديث علنا عن أطراف تسعى للإضرار بالأمن القومى للبلاد، من أجل مصالحها السياسية الضيقة، وأنه لن يسمح بذلك، والحقيقة أنه الموقف الطبيعى المتوقع من رئيس البلاد والقائد الأعلى لقواتها المسلحة.

كما أدان قيس سعيد إعلان الغنوشى تأييده للاتفاقات غير المشروعة بين تركيا وحكومة السراج فى غرب ليبيا، وسفر رئيس البرلمان إلى تركيا للاجتماع بأردوغان وإعلان تأييده له، واعتبر سعيد هذا التصرف تجاوزا لصلاحيات رئيس البرلمان ــ وهذا صحيح تماما ــ وتعبيرا عن موقف غير موقف الدولة، كما اعتبره اغتصابا لسلطات رئيس الجمهورية، المنوط به وحده (وبوزير الخارجية كممثل له) التعبير عن السياسة الخارجية للبلاد وتمثيلها أمام الدول الأخرى، غير أن الغنوشى لم يهتم حتى بتوضيح موقفه، وشددت الحركة هجومها المستمر على رئيس الدولة، سواء في البرلمان أو فى الإعلام.

زيارة مصر.. أغضبتهم!

زيارة الرئيس قيس سعيد إلى مصر منذ عدة أشهر واجتماعه بالرئيس السيسى وكذلك زيارة سعيد لقبر عبد الناصر، وتسجيل كلمات تحية لذكراه.. كانت من الخطوات التى أغضبت «النهضة» بشدة من الرئيس التونسى، حيث إن الحركة والتنظيم الدولى عموما يعتبران مصر عدوا لدودًا لـ«الإخوان» منذ إطاحة الشعب المصرى وجيشه بحكم الإخوان الفاشى فى ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، كما أن زيارة الرئيس قيس لقبر عبد الناصر والكلمات الطيبة التى كتبها تحية لذكراه، قد اعتبرها هؤلاء استفزازا لحركة الإخوان الدولية التى تعتبر عبدالناصر أحد ألد أعدائها.

وخلاصة القول إن الخلافات بين الرئيس قيس سعيد وحركة النهضة لها جذور أعمق بكثير من الأزمة الأخيرة والخلافات حول الصلاحيات الدستورية ــ بالرغم من أهميتها ــ وهى خلافات تتصل بقضايا ومفاهيم الأمن القومى وتحالفات تونس الإقليمية والدولية وانتماء البلاد العربى والحضارى والإنسانى، والطابع المدنى للدولة التونسية، فى مواجهة الدولة الظلامية التى يريد الإخوان إقامتها كجزء من «دولة الخلافة» هذا هو الجوهر الأعمق للخلافات بين «النهضة» من جهة والرئيس التونسى قيس سعيد والقوى الوطنية والديمقراطية والمدنية والعسكرية التى تدعمه.. وهذا هو السبب فى الدعم الواسع الذى لقيه منذ اللحظة الأولى، والذى فاجأ «النهضة» وكثيرين غيرها فى الداخل والخارج، بمن فيهم الليبراليون السذَّج والسطحيون والمغرضون الذين يرون أن حركة الغنوشى هى حاملة لواء الديمقراطية فى تونس.

أقوى مما تصوروا!

وهذا ما يجعل موقف الرئيس قيس سعيد أقوى بكثير مما تصورت «النهضة» باعتبار أنه شخصية مستقلة، وليس وراءه حزب منظّم يدعمه، حتى وإن كان قد حصل على أكثر من ٧٠٪ من أصوات الناخبين بفضل دعم الشباب ومنظمات المجتمع له.. وبالتالى كانت الحركة تتصور أنها يمكن أن تحتويه، كما احتوت المنصف المرزوقى قبله، أو تطيح به ببساطة، وأن القوات المسلحة وأجهزة الأمن لن تتدخل لصالحه، كما حدث مع زين العابدين بن على فى حينه، حيث امتنعت عن التدخل وتركته لمصيره الكئيب.

لكن القوى المدنية والعسكرية من الواضح أنها أدركت أن المعركة لا تدور هذه المرة حول «النظام» أو الصلاحيات الدستورية وإنما حول بقاء الدولة والمجتمع فى مواجهة قوى الهدم والظلامية.. وبديهى أن هذا لا يعنى أن الدستور والصلاحيات وقضية الديمقراطية بمجملها ليست قضية هامة، فهى بالغة الأهمية، وقد دفع الشعب التونسى ثمنها غاليا من دماء أبنائه، ولا نعتقد أنه سيفرط فى الحريات التى اكتسبها، لكن أغلب القوى فهمت أن «النهضة» هى الخطر الأكبر على الحرية والديمقراطية.. لذلك فإن المهمة الأكثر إلحاحًا هى إزاحتها.. وكل الأمور يمكن تسويتها بعد ذلك، وسيكون لنا عودة إلى هذه القضية بالغة الأهمية بإذن الله.

مصر للطيران
الرئيس التونسى قيس سعيد تونس

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE