الأموال
الخميس، 25 أبريل 2024 12:50 صـ
  • hdb
15 شوال 1445
25 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : الخطأ القاتل فى الحسابات الإثيوبية

الأموال

تشير تقارير متواترة إلى فشل أثيوبيا فى تحقيق الملء الثانى لسد الخراب بالمستوى الذى كانت تطمح إليه.. أى بإضافة ١٣.٥ مليار مترمكعب إلى المخزون الموجود حاليا فى بحيرة السد (٥ مليارات مترمكعب)، الأمر الذى كان من شأنه أن يجعل انهياره لأى سبب كارثة على السودان.. وتشير التقارير إلى أن أقصى كمية ستتمكن أثيوبيا من تخزينها هذا العام هى (٤ مليارات مترمكعب) بما يجعل مخزون بحيرة السد (٩ مليارات مترمكعب) إجمالاً.. وبالتالى تبقى الخيارات مفتوحة أمام مصر والسودان فى التعامل مع مشكلة سد الخراب، لهذا العام على الأقل.
وتتباين التفسيرات بشأن كمية المياه التى سيتم إضافتها إلى المخزون الحالى البالغ (٥ مليارات مترمكعب) فيذهب بعض الخبراء إلى القول بأن اثيوبيا فشلت من الناحية الفنية فى تعلية البناء الخراسانى، بما يسمح بتحقيق خطتها فى إضافة ١٣.٥ مليار مترمكعب إلى المخزون الحالى، ويذهب خبراء آخرون إلى أن المناورات العسكرية الكبيرة «حماة النيل» التى أجرتها مصر والسودان، بالإضافة إلى الجهود الدبلوماسية الواسعة التى قام بها البلدان على المستوى الدولى، قد مثلت ضغطا شديدا على أديس أبابا، وتحذيرا قويا من أن الإصرار على المضى فى خططها العدوانية، خشية قيام مصر بتوجيه ضربة عسكرية إلي السد، وبالتالى فقد آثرت أديس أبابا التظاهر بالفشل «فنياً» من باب حفظ ماء الوجه.. وحتى لا يبدو أنها تراجعت أمام القوة العسكرية الكبيرة المحتشدة على حدودها.
بينما يذهب فريق ثالث إلى القول بأن أثيوبيا تمارس الخداع كعادتها.. وأنها أعلنت عن فشلها فى بلوغ المستوى الذى كان تخطط له، من باب كسب الوقت وأنها ستُفاجئ مصر والسودان بمستوى للملء غير الذى تحدثت عنه مؤخراً، أى (٤ مليارات مترمكعب).. وهو حديث مردود عليه بأن كل ما يجرى من عمليات البناء والتخزين مرصود بدقة من جانب عشرات الأقمار الصناعية وأن أديس أبابا بالرغم من كل تاريخها فى الخداع والمراوغة لا تستطيع أن تخفى شيئاً عن المراقبة الفضائية المستمرة على مدار الساعة.
خطر وجودى
إلا أن الأمر الأهم من كل ذلك هو أن عشر سنوات من التفاوض العقيم والمراوغة والتعنت تؤدى بنا إلي استنتاج لا يمكن تفاديه بحال من الأحوال، هو أن أثيوبيا قد اختارت أن تقف فى خندق العداء الاستراتيجى لمصر، وأن سيطرتها على النيل الأزرق (مصدر ٨٥٪ من مياهنا) وسياستها العدوانية تجاه بلادنا، قد أصبحت تمثل خطرا وجوديا بكل معنى الكلمة على مصر وشعبها.. وبالتالي فإن مواجهة هذا الخطر و«ردعه» و«تحييده» بكل السبل الممكنة يصبح ضرورة أساسية ــ إن لم يكن الضرورة الأساسية ــ من ضرورات حماية أمننا القومى ومكانتنا الإقليمية والدولية واستمرار الحياة والتنمية بصورة طبيعية فى بلادنا.
فأى «اتفاق قانونى ملزم» مع أثيوبيا سيظل معرضا لخطر النكوص عنه، ما لم يكن محميا بقوة رادعة.. وذلك بالطبع بفرض التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وأن يكون محققاً لمطالب مصر و«السودان» ومصالحهما.. ولا يرجع ذلك إلى طبيعة القيادة الأثيوبية المراوّغة والمشحونة بالعداء لمصر فحسب.. بل يرجع إلى أمر أكبر بكثير ــ إلى وجود خطط دولية قديمة ــ تعود إلى ستينيات القرن الماضى لتسعير وبيع المياه، وتحويلها إلى سلعة مثل البترول، تسيطر عليها دول منابع الأنهار تحت إشراف قوى عظمى وشركات متعددة الجنسيات، وهذه التوجهات موجودة منذ عقود فى الأدبيات الأمريكية ومنشورات البنك الدولى الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة.
ولذلك فإن خطط بناء السدود فى أثيوبيا لا تقتصر على سد الخراب المعروف باسم «سد النهضة» وإنما تشمل بناء منظومة كاملة من السدود على النيل الأزرق «ونهرى السوباط وعطبرة» بما يؤدى إلى التحكم الكامل فى تدفق المياه إلى مصر والسودان، وإقامة «محابس» متعددة على الأنهار المذكورة، وأهمها النيل الأزرق بالطبع، بصورة تضمن إخضاع مصر بالكامل لإرادة المتحكمين فى هذه «المحابس» وهم لن يكونوا حكام اثيوبيا وحدهم، وإنما أيضا الشركات متعددة الجنسية ــ وفى مقدمتها الشركات الأمريكية ــ العاملة فى مجال بناء السد وتجارة المياه، ولذلك نجد من يتحدثون عنه أنه إذا كان العرب يملكون البترول، فإن المياه أهم من البترول!
>> وإذا كانوا لا يفصحون الآن عن نواياهم فى تحويل المياه، هبة الله للبشر، إلى سلعة وبيعها لنا، فإنهم سيعلنون عن هذه النوايا بكل وقاحة إذا تحققت خططهم الشريرة فى إقامة «محابس» على النيل.

مخلب القط.. وأحلام الهيمنة
ومفهوم أن بيع المياه ووضع «المحابس» على النيل ليس سياسة رسمية أمريكية ــ حتى الآن علي الأقل ــ لكن دراسات إقامة منظومة السدود الأثيوبية على النيل كان مصدرها مراكز الدراسات الأمريكية «ولإسرائيل دور كبير أيضا في هذه الخطط.. وهي تقدم مساعدات كبيرة لأثيوبيا، خاصة من الناحية العسكرية والفنية ومعروف أنها تتلمظ على نصيب من مياه النيل لمواجهة نقص المياه لديها.. واستصلاح صحراء النقب.. لهذا فإن الذين يعلقون آمالا على الوساطة الأمريكية، ويستشهدون بعبارة ترامب حول أنه ليس من حق أحد أن يلوم مصر إذا قصفت السد، فنقول لهم إن هذا من باب «الكلام الذى ليس عليه جمرك»!.. ولو كان ترامب جادا فيه لفرض عقوبات على أثيوبيا بعد تراجع آبى أحمد عن الاتفاق الذى توصل إليه مع الرئيس السيسي بوساطة ترامب ووزير الخزانة الأمريكية فى حينه.
>> وبالمناسبة يجب أن يكون واضحا أن العقوبات الأمريكية الأخيرة على أثيوبيا هى بسبب المذابح الوحشية التى قامت بها فى إقليم «التيجراي» والتى ذهب ضحيتها ما يتراوح بين «مائة وخمسين ومائتى ألف» من أبناء هذه القومية التى تُشكل أقلية من سكان أثيوبيا.. وما صاحب قمع ثورة «التيجراى» من أعمال اغتصاب جماعى وانتهاكات همجية للقانون الإنسانى الدولي.. ولو أرادت أمريكا ممارسة ضغط جدى على أثيوبيا فى موضوع السد لكانت قد فعلت..
<< والحقيقة أن أثيوبيا إلى جانب أحلامها فى إخضاع مصر والسودان من خلال التحكم فى مياه النيل، وهو ما يحقق حلما إسرائيليا وغربيا غالبا.. فإن لديها أيضا أحلامها القديمة فى الهيمنة على القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، ومداخل البحر الأحمر «بعد حل مشاكل مع إريتريا أو عقد صفقة معها» وهي تقدم نفسها كـ«مخلب قط» عدوانى لأمريكا والدول الغربية الكبرى للهيمنة على هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة، وتسعى اثيوبيا من خلال هذا بدور «كوكيل إقليمى» أو «دولة وظيفية» إلى تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية وأن تكون شريكا وإن يكن شريكاً أصغرــ للغرب فى المنطقة، وأن يجلب لها هذا الوضع منافع اقتصادية كبيرة من استثمارات ومعاهدات وما شابه.
غير أن الحلم الجنونى بإخضاع «مصر» و«السودان» من خلال وضع «محبس» على مياه النيل، يظل هو الهدف الذى يتمتع بالأولوية لدى الطغمة الحاكمة فى أديس أبابا، كما يبرهن سلوكها خلال السنوات العشر الماضية، باعتبار ما لمصر من وزن استراتيجى وعسكرى واقتصادى وسكانى وحضاري وأن إزاحتها من معادلة القوة.. كما يتوهمون.. سوف يطلق يد أثيوبيا فيها، ويسهِّل لها تحقيق أطماعها التوسعية فى شرق السودان بأراضيه الخصبة الشاسعة، وبما يمثله «وهم» إخضاع مصر من إتاحة لأكبر «منافس» فى شرق أفريقيا والبحر الأحمر، وكذلك بما يمثل من «خدمة تاريخية» لإسرائيل «شريك الظل» فى المخططات التوسعية الأثيوبية.
خطر لابد من ردعه
والحقيقة أن أثيوبيا بسياستها شديدة العدوانية فيما يتعلق بمصر وحقوقها التاريخية الثابتة فى مياه النيل، أصبحت تمثل ــ كما سبق أن ذكرنا ــ خطرا وجوديا على مصر وشعبها، خطرا يتعين مواجهته وردعه وتحييده كضرورة أساسية من ضرورات الأمن القومى، فسياستها تجاه حقوقنا المائية هى بمثابة إعلان حرب على مصر.. وبغض النظر عن فشل أديس أبابا فى تنفيذ الملء الثانى هذا العام بالكميات التى كان مخططا لها ــ كما تشير التقارير ويجب التشديد على الضرورة القصوى لتحري دقة هذه التقارير ــ فإن هذا الخطر يظل قائما.. ولا تستطيع مصر أن تتركه كسيف معلق فوق رأسها، بل يجب إنهاؤه بكل الوسائل والخيارات المفتوحة اليوم قبل الغد.
إلاّ أن وقف الملء الثاني وعملية «وضع المحبس» على النيل.. وحتى لو تخلت أثيوبيا تماما فى الوقت الحالي عن خطتها شديدة العدوانية تحت وطأة الضغوط العسكرية والسياسية.. وحتى لو اضطرت تحت وطأة هذه الضغوط إلي توقيع اتفاق قانونى ملزم فليس لدينا أى ضمان لاحترامها لتحقيقها، وعدم التراجع عن التزامها خلال عام أو عامين أو ثلاثة، وخاصة بعد أن أسفرت عن نواياها شديدة العدوانية.. ليس لدينا أى ضمان إلاّ سياسة ردع مصرية ضاغطة ومتعددة الجوانب، عسكرية وسياسية واقتصادية وقانونية.. والسعى بكل جهد إلى بناء تحالفات تحاصر أثيوبيا من كل اتجاه، وتخلق خطرا مكافئا لذلك الخطر الذى تهددنا به.. ومهما كلفنا ذلك من أعباء وتضحيات، وبحيث تظل كل الخيارات مفتوحة أمام مصر، بما فيها خيار العمل العسكرى، كما يجب أن يفهم أصدقاؤنا وبعض «أشقائنا» أن مصر لن تسكت على دعم خطط أثيوبيا العدوانية شديدة الخطورة ضدها.. وأنها لن تجامل أحدا فيما يتعلق بأخطر تحد تواجهه خلال تاريخها الطويل.
وإذا كانت نقطة البدء هي أننا لن نسمح بحال من الأحوال بوضع «محبس» على النيل، فمن الضرورى أن يفهم الجميع أنه لن يكون هناك استقرار فى المنطقة إذا أرادت أى قوة أن تحكم على شعب مصر بالعطش، وعلى أرضها بالتصحر أو البوار، وبمعايير المواجهة ــ التي تسعى أثيوبيا لفرضها علينا ــ فإن تفوق مصر العسكرى واضح بما لا يحتاج إلي شرح.. ومن الناحية الاقتصادية فمصر أكثر تقدما وقوة، وبينما يتساوي عدد السكان تقريبا فى البلدين، فإن حجم الناتج المحلى الإجمالى لمصر يزيد على ٣٠٠ مليار دولار، بينما يبلغ نظيره الاثيوبي ٩٥ مليار دولار فقط عام ٢٠١٩.. وحسب خطاب لآبى أحمد أمام البرلمان الأثيوبى فإن حجم الناتج المحلى لبلاده يبلغ ١٠٧ مليارات دولار ـ أى أن مصر أكثر قدرة علي تحمل أعباء أى مواجهة، ولنلاحظ أننا لم نتحدث عن قدرات وطاقات السودان، البشرية والعسكرية والاقتصادية، وهى غير قليلة.
ولا ينبغي أن ننسى كيف تراجعت اثيوبيا أمام القوات السودانية فى النشقة وبنى شنقول.
>> وخلاصة القول إن اثيوبيا تسرف فى تقدير قوتها، وتشتط فى أحلامها التوسعية وتخطئ الحساب بشدّة حين تختار أن تقف فى خندق أعداء مصر والسودان وأن تمعن في سياستها العدوانية، أما الخطأ القاتل الذى ترتكبه اثيوبيا فهو عدم فهمها لحقيقة أن المصريين مستعدون للموت فى ميادين المعارك ــ إذا اقتضى الأمر ــ قبل أن يموتوا عطشا وجوعا.. أو تنتهك حقوق وكرامة وطنهم.

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE