الأموال
الجمعة، 19 أبريل 2024 11:50 مـ
  • hdb
10 شوال 1445
19 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : طبقية التعليم.. وتوريث الجهل (٢)

الأموال

تقليص دور المدرسة والمعلم.. تدمير (للتربية) وإضعاف خطير (للتعليم)
التعليم عن بُعد استثناء لا يمكن أن يصبح قاعدة.. وشروطه ضعيفة في مصر
الدول المتقدمة تتمسك بالمدرسة والفصل وترفض طريقة شوقى
التعليم العام أساس النهضة ولا يمكن للدولة أن تتخلي عن مسئوليتها تجاهه

تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال (الأموال ـ الأحد ٤ أكتوبر) عن قرار وزير التربية والتعليم بفرض زيادات ضخمة للرسوم الدراسية فى جميع مراحل التعليم قبل الجامعى، بما يمثل انتهاكا سافرا للدستور الذى ينص بوضوح تام على مجانية التعليم، كما أوضحنا العبء الثقيل الذى تلقي به هذه الرسوم الضخمة وبقية عناصر خطة الوزير التعليمية على كاهل الأغلبية الساحقة من الأسر المصرية التي تئن أصلا تحت وطأة الأعباء الثقيلة للحياة، وخاصة فى نفس العام الذي يشهد الآثار الاقتصادية الفادحة لتفشى وباء كورونا، والذى شهد ارتفاعا كبيرا فى أسعار الكهرباء ومياه الشرب، وتكلفة المواصلات العامة. وذكرنا أن الإعفاءات من الرسوم ـ التى تحدث عنها الدكتور طارق شوقى ـ لن تطال إلا الأقلية، وأن بقية عناصر خطة الوزير ـ بما تؤدى إليه من زيادة ضخمة لتكلفة تعليم التلاميذ، لا تدخل فى نطاق أى إعفاء.. وسيؤدى العجز عن تحمل هذه الأعباء إلى تدهور مستمر فى المستوى التعليمى لأبناء الأسر الأكثر فقرا، الأمر الذى يعنى فى النتيجة إضفاء طابع طبقي واضح على التعليم بما في ذلك التعليم العام.
ويلفت النظر تصريح للوزير قال فيه إن ٤٠٪ ــ أربعين في المائة ـ من التلاميذ سيتمتعون بالإعفاء من الرسوم بمقتضى نظام الإعفاءات الذي تضمنه قراره، والذي يشمل الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا (بوابة أخبار اليوم - ٥ أكتوبر ٢٠٢٠) وهنا نجد أنفسنا مضطرين لتذكير السيد الوزير بأن القضية ليست قضية إعفاء (٤٠٪) أو حتى ٩٠٪ وإنما قضية انتهاك مبدأ مجانية التعلم.. ونصوص الدستور الذي أقسم الوزير على احترامه، ثم انتهكه ونكث بالقسم.. علمًا بأن الـ٦٠٪ الباقين ليسوا أفضل حالا بكثير ويكفى أن نذكر أن أرقام الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء كانت تشير إلى أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر قد بلغت ٣٢٫٥ ٪ عام ٢٠١٩، أى قبل كورونا وآثارها الاقتصادية الفادحة، ولنا أن نتخيل الوضع الآن.
الاستثناء والقاعدة
تحدثنا فى مقالنا السابق عن خطة الوزير لتقليص أيام الحضور لمختلف الفصول والمراحل الدراسية، وذكرنا أنه ستكون لها نتائج سلبية على العملية التعليمية لهذا العام الدراسى على أقل تقدير، وربما على العام التالى له، لكن لا مفر من الاتفاق معها في ظل ضرورات «التباعد الاجتماعى» في مرحلة تفشى وباء كورونا.
وتقضى الخطة بتقليص عدد التلاميذ في الفصل إلى ١٥ - ٢٠.. وترتيب الفصول والجداول على هذا الأساس.
غير أن ما لا يمكن الاتفاق معه هو تركيز الوزير وأنصاره فى أحاديث صحفية وتليفزيونية لا حصر لها على تقليص دور المدارس والمعلمين فى العملية التعليمية بصورة دائمة لصالح أسلوب التعليم عن بُعد حتى بعد انتهاء كورونا والاعتماد على الإنترنت والمنصات الإلكترونية ومعها التابلت واللاب توب والقنوات التعليمية التليفزيونية، بدعوى أن هذا الأسلوب هو الأفضل والأكفأ والأكثر تجاوبا مع متطلبات العصر والتطور التكنولوجى!! على أن يقوم التلاميذ بمناقشة المعلم فى المدرسة في النقاط التى يحتاجون فيها إلى مساعدته، وطرح الأسئلة التى لم يتوصلوا إلى إجابة لها.. إلخ أو ما يعرف بنظام «الفصل المقلوب» أى أن وزير التعليم يريد أن يحوّل الاستثناء الذى فرضه كورونا إلى قاعدة وأسلوب دائم.
ويحاول الوزير وأنصاره تعزيز حجتهم فى هذا الصدد وبالقول بأن من شأن هذا التوجه المساعدة على تقليل كثافة الفصول، وعدم وجود موازنات كافية لبناء الأعداد المطلوبة من المدارس.. وكذلك عدم وجود مساحات كافية من أراضى البناء فى الأحياء والمناطق السكنية لتقام عليها أعداد كبيرة من المدارس، وكذلك في ظل وصول عدد المدرسين إلى ١٫٣ مليون وعدم وجود ميزانيات لتعيين أعداد جديدة وخاصة في حالة بناء مزيد من المدارس.
وبديهى أن هذا التوجه ينسجم مع الأفكار السابق الإشارة إليها حول توسيع وتعميم أسلوب «التعليم عن بُعد» وتحويل استخدامه من أسلوب مساعد فى ظروف استثنائية طارئة ـ نعنى كورونا ــ إلى أسلوب دائم معمم.. أى تحويل الاستثناء إلى قاعدة!! وسوف نعود إلى مناقشة كل هذا، ولكن بعد نظرة سريعة على طريقة الدول المتقدمة فى التعامل مع أزمة كورونا، وأسلوب «التعليم عن بُعد».
مصر تبهر العالم!!
معروف أن أغلب الدول المتقدمة، ومنها فنلندا ـ أولى دول التصنيف العالمى في التعليم ــ واليابان وألمانيا وفرنسا وانجلترا وغيرها قد بدأ العام الدراسي فيها منذ شهر سبتمبر، فى مواعيده العادية، مع اتخاذ التدابير الاحترازية الضرورية من كمامات وأدوات تعقيم وإجراءات للتباعد الاجتماعى، ولم يكن الإجراء الأخير صعبا بصورة خاصة لأن عدد التلاميذ فى الفصول قليل أصلا ويتراوح بين ٢٠ - ٢٥ تلميذا أو أقل.
وهنا يلفت النظر بشدة أن وزارة التعليم لدينا أقرت افتتاح المدارس إلى ١٧ أكتوبر، دون سبب مفهوم.. مع أن هذا يعنى ضياع أكثر من شهر من العام الدراسى على التلاميذ (وكذلك فعلت وزارة التعليم العالى بالنسبة للجامعات.. لكن هذا موضوع آخر).
وذلك بالرغم من معرفة الدُنيا كلها بأن انتشار الوباء كان أقل فى الصيف وهى فرصة كان يجب الاستفادة منها، قبل دخول الموجة الثانية من الوباء، ومع أنه معروف للجميع ــ هنا فى مصر ــ أننا مقبلون على انتخابات برلمانية تتلوها انتخابات إعادة مما يستوجب تحويل المدارس إلى لجان انتخابية، وإضاعة مزيد من الوقت على التلاميذ.
المهم أن البلدان المتقدمة المذكورة بدأت العام الدراسى في موعده، وبالإجراءات الاحترازية الواجبة. ومع أن هذه البلدان أكثر تقدما منا بكثير فيما يتصل بشيوع استخدام الكمبيوتر وتطور وسرعة شبكات الإنترنت ورخص أسعار الاتصالات مع ملاحظة ارتفاع مستويات الدخل.. ومع أن الأطفال يبدأون علاقتهم بالتكنولوجيا الرقمية منذ سن مبكرة.. أى أنهم يستطيعون التفاعل مع أسلوب «التعليم عن بُعد» هم وآباؤهم، أكثر من أطفالنا وآبائهم.. بالرغم من ذلك كله، فإننا لم نسمع عن دعوات للاعتماد على الإنترنت والقنوات التليفزيونية وتحويل ذلك إلى أسلوب معمم.. وتقليص دور المدرسة والمعلم، كما يدعو الوزير طارق شوقى!!
بل إن الجامعات لم تلجأ إلى هذا الأسلوب إلاّ في حدود ضيقة بالرغم من أن طلابها أكثر نضجا وقدرة على التعامل مع التكنولوجيا الرقمية.
ويرجع هذا إلى إدراك مسألة بديهية، هى أهمية دور (التفاعل المباشر) بين التلميذ والمعلم في جميع مراحل التعليم، وبصورة أخص في المراحل المبكرة.. وكذلك إدراك أهمية التفاعل بين الأطفال أنفسهم، وتنمية العلاقات الإنسانية والاجتماعية الصحية وروح الفريق والمنافسة الإيجابية..إلخ.. وكذلك ممارسة الأنشطة الجماعية (الممكنة طبعًا).. وباختصار تكامل الوظيفتين التعليمية والتربوية للمدرسة.
وإذا كان الأمر كذلك فى الدول المتقدمة اقتصاديًا وعلميًا وتعليميًا.. فمن الغريب أن تأتى وزارة للتعليم يقبع نظامها التعليمى فى ذيل قائمة التصنيف العالمي، لتُعيد (اختراع العجلة) ويُقدم الوزير أفكاره فى هذا الصدد باعتبارها فتحا مبينا، ونظامًا يجب تعميمه وإدامته، وهو ما يُذكرنا بالعبارة الساخرة الشائعة التى يرددها المصريون كلما رأوا شيئا مشابهًا: مصر تبهر العالم!! أما الثقة المطلقة التى يقدم بها الوزير وأنصاره (اكتشافهم) ويسفِّهون آراء المختلفين معهم فى الرأى.. فحدث عنها ولا حرج!!
تبرير الانسحاب من المسئولية
نكرّر القول بأننا يمكن أن نتفهم الضرورات القهرية لوضع استثنائى مؤقت كانتشار وباء كورونا.. ولكن ما يثير الاستياء والاعتراض هو محاولة الوزير (لتأييد) هذه الأوضاع، وتحويل الاستثناء إلى قاعدة، و(تأييد) التعليم عن بُعد كنظام عام فى المراحل قبل الجامعية.. وتقليص دور المدرسة والمعلم، وفصل التريبة عن التعليم.. وتعظيم دور المنصات الإلكترونية القائمة على مناهج مستوردة.. وهذه قصة أخرى سنأتى إليها.
ونود تذكير الوزير بكلامه هو نفسه، عن الحاجة إلى ٢٥٠ ألف فصل دراسى لكي تكون لدينا كثافة مقبولة ـ حسب ظروفنا ـ تتراوح بين ٤٠ ـ ٤٥ تلميذًا فى الفصل الواحد.. وكذلك حديث من هو أهم بكثير من الوزير ـ نعنى الرئيس السيسى ـ عن حاجتنا إلى ٢٥٠ ألف فصل دراسى تبلغ تكلفتها نحو ١٣٠ مليارا/ مائة وثلاثين مليار جنيه.. لتحقيق هدف تقليل الكثافة.
أما الآن فإن الوزير يتجاهل كل ذلك فى سياق خطة لتعميم أسلوب (التعليم عن بُعد)، ويتحدث عن عدم وجود أراض للبناء وعن الموازنة المحدودة، ونوّد أن نقول للدكتور شوقى إن الناتج المحلى الإجمالى للبلاد قد بلغ ٦ مليارات جنيه عام ٢٠١٩/ ٢٠٢٠، ووفقًا للدستور فإن نصيب وزارة التعليم منها يجب أن يكون ١٨٠ مليار جنيه حسب الدستور (٣٪ من الناتج المحلى الإجمالى) بينما خصصت الموازنة الجديدة لوزارة التعليم ١٠٩ مليارات جنيه فقط (اليوم السابع - ٦ مايو ٢٠٢٠) أى أقل بـ٧٠ مليار جنيه من المقرر دستوريا.. ولم نسمع من الوزير أى اعتراض أو مناقشة فى البرلمان أو إحدى لجانه أو فى أى مكان آخر.. بل ينفق الوزير بسخاء من هذه الميزانية المتواضعة على شراء «المناهج الجديدة» و«المحتوى الرقمى» للمنصات الإلكترونية وبنك المعرفة.. إلخ من الخارج.. بينما لدينا خبراء قادرون علي إنجاز كل ذلك، وأما عن المضمون فلنا حديث آخر.
وأما بالنسبة للأرض الضرورية للبناء، فالمفروض أن الوزير كان قد فكر فيها حين كان يتحدث عن ضرورة إقامة مدارس جديدة، ويمكن أن تكون أراضى البناء التى استردتها الدولة من مغتصبيها فى حملاتها الأخيرة أماكن مناسبة يتم تخصيصها لبناء المدارس بدلا من بيعها للمطورين العقاريين أو المستثمرين الصغار، كما يمكن للدولة دفع تعويضات (عادلة طبعا) لنزع ملكية الأراضي المناسبة.. وكذلك تنظيم حملات تبرعات لشراء مساحات معينة..الخ.
الحلول موجودة إذن.. لكن الوزير يتبنى منهجا يقوم على تبرير التهرب من المسئولية وانسحاب الوزارة والحكومة عموما من مسئولياتها عن تطوير التعليم العام، وإلقاء هذه المسئولية على عاتق الأسر المطحونة أصلا تحت وطأة ما لديها من أعباء وبصورة تجعل محدودى الدخل ـ أى الأغلبية العظمى من المصريين ـ عاجزين عن توفير تعليم معقول لأبنائهم.. وتزيد كل يوم من الطابع الطبقى للتعليم، وتهبط بمستوى التعليم العام وهذه خسارة فادحة لمستقبل البلاد.. لأنه ما من بلد استطاع أن يبنى نهضة وأن يتقدم دون أن يكون تطوير التعليم فى مقدمة مشروعه لبناء النهضة..
وللحديث بقية

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE