الأموال
الخميس، 18 أبريل 2024 08:00 صـ
  • hdb
9 شوال 1445
18 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

أسامة أيوب يكتب : الإنشاد والمديح والصوفية.. خواطر وملاحظات (10)

الأموال

بعد استعراض لفصول كتاب فن الإنشاد الدينى لمؤلفته الكاتبة الصحفية مروة

البشير والمتخصصة فى شئون الأزهر الشريف بجريدة الأهرام فى المقالات

التسع السابقة، فإنه تبقى ثمة خواطر وملاحظات وجدتنى راغبًا فى إبدائها..

تعليقًا واجبًا وأحسبه ضروريًا.

بداية.. عندما قلت في المقال الأول إن المصادفة هى التى أوقعت الكتاب في

يدى إنما قصدت مصادفة حلول ذكرى المولد النبوى الشريف، إذ إن الكتاب كان

في حوزتى وقت صدوره قبل أكثر من عامين، ولكنها نفحات الذكرى العطرة هى التى ذكرتنى به ودعتنى لإعادة قراءته ومن ثم وجدت التوقيت مناسبًا

لاستعراضه وتقديمه للقراء، خاصة أنه يمثل إضافة جديدة ومهمة للمكتبة

المصرية والعربية نظرًا لافتقارها لأى مراجع حديثة فى هذا المجال حسبما

أوضحت المؤلفة.

أهم ما كشف عنه الكتاب هو أن مصر أول دولة في العالم عرفت الإنشاد الدينى

منذ آلاف السنين.. بداية من الإنشاد الفرعونى.. مرورًا بالإنشاد الدينى

القبطى، حيث كانت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية أول من عرفته ومارسته كجزء

من العبادة.. وصولاً إلى الإنشاد الدينى الإسلامى، وهو الأمر الذى يعكس

بقدر ما يؤكد تدين الإنسان المصرى في كل العصور وفي كل الأديان حيث الكل

يناجى ربه بطريقته ووفق معتقده، وتلك هى الخصوصية المصرية.

< < <

وإذا كان المسلمون الأوائل في العصر النبوي قد عرفوا الإنشاد الدينى من

خلال قصائد الشِعر في المدينة المنورة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

والرد علي أشعار الكفار في هجاء النبى والتطاول علي مقامه الشريف، فإن

مصر بعد دخول الإسلام كانت أول من عرف الإنشاد الدينى، حيث كان المديح

النبوى ومدح آل البيت هما العمود الفقرى لهذا الفن الذى بات تراثًا

شعبيًا تتسم بل تتميز به علي وجه الخصوص.

< < <

من بين كل قصائد المديح النبوى تبقي قصيدتان هما الأهم والأشهر حتى الآن،

الأولى من حيث الترتيب الزمنى.. قصيدة البُردة الأولي للشاعر العربي كعب

بن زهير والتي نظمها طلبًا لعفو الرسول بعد أن أهدر دمه فى فتح مكة،

وأبدى صلى الله عليه وسلم إعجابه بها ولم يكتف بالعفو عنه ولكن خلع عليه

بردته الشريفة ولذا سُميت القصيدة بـ»البُردة«.

ولعل أجمل بيت في هذه القصيدة من وجهة نظرى وأجده قريبًا من قلبي ووجدانى هو:

إن الرسول لنور يُستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول

أما القصيدة الثانية فهى بُردة الإمام البوصيرى والتى سُميت بهذا الاسم

أيضًا لأنه أصيب بمرض «تواتر أنه شلل في يديه» أثناء نظمه لها وتوقف من

عند شطر بيت ولم يستطع أن يكمّل وهو »فمبلغ العلم فيه أنه بشر«، ثم رأى

الرسول في المنام وأكمل له البيت وقال له قل: »وأنه خير خلق الله كلهم«،

ولما استيقظ البوصيري من نومه شُفى من مرضه وأكمل القصيدة.

أما ما يمكن وصفها بالبُردة الثالثة فهى قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقى

والتى نظمها تحت عنوان »نهج البُردة«.

غير أن بُردة البوصيرى تبقى الأهم والأجمل والأقوى، ولذا صارت الأشهر

والأوسع انتشارًا والأقرب إلى قلوب ووجدان المسلمين.

< < <

ومن المؤكد أن وجود الطرق الصوفية في مصر قد أسهم كثيرًا جدًا فى ازدهار

الإنشاد والمديح وترسيخه، بل إن الطرق الصوفية وفى تقديرى الشخصى لم

يتوقف تأثيرها عند هذا الحد، بل كان لها دور تاريخى بالغ الأهمية فى

الحفاظ على وسطية الإسلام ولا أبالغ إذا قلت في الحفاظ علي بقاء الإسلام

ذاته حيًا في وجدان المصريين خاصة في أزمنة الاحتلال.

ثم إنه يمكن القول إن الصوفية وطرقها قد تماهت مع حب المصريين الشديد لآل

البيت مع ملاحظة تمسكهم الكبير فى نفس الوقت بالمذهب السُنى ورفضهم

للمذهب الشيعى، حتى عندما أنشأ الفاطميون الأزهر وحاولوا فرض التشيع على

المصريين فإنهم لم يفلحوا رغم حب المصريين لآل البيت، بل إن الأزهر الذى

بدأ شيعيًا سرعان ما تحول إلى المذهب السنى بعد زوال حكم الفاطميين، ولذا

فإنه يصح وصف المصريين المحبين لآل البيت بأنهم شيعيو الهوى سنيو المذهب،وتلك أيضًا خصوصية مصرية.

أما الذين يعترضون على التصوف والصوفية من المتشددين أو من يصفون أنفسهم

بالسلفيين ويرونها بدعة في الدين، فإنهم يجهلون ولم يتذوقوا فلسفتها في

السمو بالروح تقرباً إلى الله، وقد فاتهم أن الرسول صلي الله عليه وسلم

كان أول متصوف حيث كان يخلو بنفسه في غار حراء قبل نزول الوحى.

أما عن اعتراضهم على حلقات الذِكر وتمايل الذاكرين في الحضرة الصوفية

ووصفهم له بالرقص، فقد تداعى إلى ذاكرتى رد أحد أقطاب الصوفية عليهم بأنه

خير لهم أن يتمايلوا ويرقصوا لله بذكره من أن يرقصوا للشيطان، ثم إن

الحضرة الصوفية تعنى استحضار التصوف للقرب من الله، ولاشك أن من لم يحضر

حلقات الذِكر والمديح في الحضرة الصوفية لا يمكنه استشعار حالة الوجد

التى تعترى المتصوف والتي تصل إلى حالة ما يصفها المتصوفون بـ»الانجذاب«.

< < <

أما موالد آل البيت وأولياء الله الصالحين والتى توصف بأنها موالد شعبية

ويتم إحياؤها بالإنشاد الدينى والمديح النبوى وحلقات الذِكر، فإنها تعكس

تراثا شعبيًا.. فنيًا وثقافيًا إضافة إلى التراث الدينى وهو الأصل، إذ

تشهد قرى ومدن مصر كلها مئات الموالد سنويًا، حيث لا يمر يوم واحد إلا

ويُقام فيه أحد الموالد.

خصوصية هذا التراث الشعبي المصرى تؤكدها وتعكسها إقامة موالد للسيدة مريم

العذراء في ربوع ريف مصر.. أشهرها مولدها فى قرية دمسيس بمحافظة

الدقهلية، ومن المفارقات التى تؤكد تلك الخصوصية أن يُقام فى نفس القرية

مولد محمد بن أبى بكر المدفون فيها بالمصادفة، حيث يحضر المسلمون

والمسيحيون المولدين.

وإذا كان لا خلاف بين عموم المصريين وفي مقدمتهم أهل التصوف على استنكار

بعض الممارسات والسلوكيات في الموالد والتى لا تتفق ووقار المناسبة

واحترام المحتفي بمولده، إلا أن تلك الممارسات لا تعنى رفض إقامة الموالد

من الأساس بقدر ما تقتضى في نفس الوقت ضرورة التصدى لها ومنعها بقدر

الإمكان.

< <<

وتبقى أخيرًا تلك الظاهرة المهمة في ساحة المديح النبوي والتي كشفت عنها

المؤلفة في آخر فصول كتابها وهى ظاهرة المنشدين الأقباط الذين تخصصوا فى

مدح الرسول وآل البيت فى صعيد مصر، وهى الظاهرة التى تؤكد اللحمة الوطنية

بين المسلمين والمسيحيين وتعكس الخصوصية المصرية، بقدر ما تؤكد أن

الإنشاد والمديح ثقافة مصرية شعبية بصرف النظر عن الدين.. إسلاميًا كان

أو مسيحيًا، مع ملاحظة أن ثمة منشدين ومداحين مسلمين ينشدون فى مدح

المسيح عليه السلام والسيدة مريم العذراء عليها السلام.. وتبقي مصر وسوف

تبقى بخصوصيتها وبإسلامها الوسطى وشعبها المتدين من المسلمين والمسيحيين.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE