د.ناصر عبد الرؤف يكتب : الإغْرَاقُ .... مَفْهُومًا

يُعد مفهوم الاصطلاح الاقتصادى أمرًا فى غاية الأهمية، كونه يعبر عن المقصود والهدف من ذلك الاصطلاح، وإذا كان المعنى قد يكون واضحًا لاصحاب الاختصاص إلا أن الأمر قد لا يكون كذلك للعامة، واستخدام معنى للاصطلاح يخالف حقيقته قد يثير الكثير من اللغط، و فى حقيقة الأمر فقد دفعنى هنا لعرض ما يخص أحد المصطلاحات ما وجدته من تشويش حول مفهوم ومعنى ذلك الاصطلاح، حيث يتعامل معه النفر غير القليل بمعنى قد يحمله ظاهر الكلمة دون مفهومها الحقيقى، و هو أمرًا قد يتم التجاوز عنه فى ظل عدم التخصص أو عدم المسئولية بالنسبة للعامة، أما أن يكون هذا المعنى هو القابع فى عقول بعض المتخصصين أو المسئولين فهو أمرًا يحتاج منا إلى وقفه يتم خلالها إزالة ما يعلق بالاصطلاح من غموض
فقد لمسنا أن اصطلاح الإغراق لدى النفر ليس بالقليل يعنى إغراق الأسواق بالسلعة أى بزيادة كميتها وإنها ـــــــ على قولهم ـــــــ مغرقة السوق، فينتشر أن الصين مغرقة السوق بالسلع
ونظرًا لخصوصية الإصطلاح و ما يرمى إليه فقد رأيت أن اطلب أن تعيرونى أهتمامكم لعرض معنى الإصطلاح وإزالت ما يعلق به من غموض
الإغراق فى معناه ـــــــ مع تباسط ــــــــ هو قيام دولة المصدر ببيع السلعة فى أسواق بلد المستورد بسعر أقل من سعر التكلفة الحقيقية لهذه السلعة وبسعر يقل عن سعر بيعها فى السوق المحلى للمصدر
وعلى ذلك يمثل الفرق بين السعر الذى يتم به البيع و السعر الطبيعى الذى يجب أن تباع به السلعة خسارة فعلية للمصدر، ويثور التساؤل حول ثلاثة أمور، أولها ما هو الهدف الذى ترمى إليه دولة المصدر ببيع سلعة بأقل من سعر التكلفة بما يمثل خسارة فعلية بلاشك ؟ وثانيها كيف يمكن للمصدر تعويض فرق الخسارة الفعلية المحققة ؟ والثالث دور دولة المستورد فى مواجهة تلك الظاهرة وتفادى المنافسة غير المتوازنة ؟
وقبل الولوج للاجابة على الاسئلة الثلاث، نؤكد أن هذه الظاهرة تجد لها مرتعًا فى ظل سياسة فتح الاسواق ونمو مبادئ التجارة الدولية و التزام الدول بالاتفاقيات الحرة للتجارة، كل هذا الزخم يولد بيئة صالحة لفكرة الإغراق التجارى
و للاجابة على السؤال الأول نرى أن هناك مجموعة من الأسباب التى قد تدفع دولة المصدر إلى بيع سلعة بأقل من سعرها أو بسعر التكلفة، منها الرغبة فى السيطرة على الأسواق الخارجية وكذلك الرغبة فى فرض نفوذ الدولة الاقتصادى فى الأسواق الخارجية، ومنها أيضًا تصريف فائض الانتاج ولاسيما وإن كان من السلع المعرضة للتلف أو السلع الموسمية، وكذلك يكون لزيادة الأنتاج عن الطاقة الاستعابية للسوق المحلى سبب اساسىى، وقد تكون الرغبة فى الولوج إلى أسواق عصية على الدخول بشكل طبيعى فيها نتيجة المنافسة الشرسة، أو تهدف إلى اضعاف الصناعة فى بلد المستورد، وقد يكمن السبب ايضًا فى رغبة المنتجين الدوليين فى تعظيم حصصهم السوقية
وعلى ذلك فقد تلجا دولة التصدير إلى بيع السلعة بسعر يقل عن سعر التكلفة وبالتالى تضمن لسلعتها القدرة على المنافسة واختراق الأسواق
وهنا يثور السؤال الثانى، هل من المنطقى أن تقوم دولة التصدير بتحقيق تلك الخسائر و إلى أى مدى تستطيع أن تتحملها، أو بمعنى آخر كيف يمكن للمصدر فى ظل هذا الوضع تفادى الخسارة الفعلية المباشرة ؟
للاجابة على هذا السؤال نؤكد أن المصدر فى حقيقة الأمر لا يحقق أى خسائر، بل على العكس قد يحقق ارباح تفوق ما قد يحققه إذا تم تصدير السلعة محملة بهامش الربح و بسعرها الطبيعى، فالمصدر هنا يتفادى الخسارة عن طريق بيع السلعة فى سوقه المحلى بسعر أعلى من السعر الواجب البيع به بحيث يمثل الفرق بين سعر البيع والسعر الواجب البيع به فرق الخسارة
التى تحملها عند بيع السلعة المصدرة بأقل من سعر التكلفة، وبالتالى يحصل المصدر على حقوقه كاملة دون خسارة، و الوسيلة الأخرى التى قد يعوض المصدر بها الفارق قد يكون تدخل دولته، والتى تكون لها أهداف اقتصادية أو سياسية، فتقوم بدعم المصدر بأن تدفع له فرق الخسارة المحقق بين سعر تصدير السلعة بأقل من التكلفة وبين السعر الواجب البيع به
ولذلك تجد السلعة المباعة بأقل من سعر التكلفة سبيلاً للتواجد و المنافسة داخل دولة الاستيراد
وبالتالى يثور محور السؤال الثالث، ما هو دور دولة الاستيراد فى مواجهة ظاهرة الإغراق ــــــ بيع السلعة بأقل من سعر التكلفة ــــــ وأختراق أسواقها بسلع تنافس انتاجها المحلى وتهدد صناعتها الوطنية بشكل غير ملائم، فنجد تلك الدولة تسارع إلى فرض ما يعرف بفرض رسوم الإغراق على السلعة المستوردة وهى نسبة يلتزم المستورد بدفعها بجوار الرسوم الجمركية تُحمل على تكلفة السلعة بهدف إعادة التوازن إلى السعر الحقيقى لبيع السلعة وتفادى المنافسة الضارة و المحافظة على الصناعة الوطنية
ولكن نؤد أن نشير ونوجه أن الإغراق يختلف تمامًا عن انتاج السلعة بميزة ووفرة نسبية، وهى حالة ما إذا كانت دولة تتمتع بمزايا نسبية فى عناصر الإنتاج بحيث يتم انتاج السلعة وتُحمل بكافة اعباءها وتُحمل بكلفة المصاريف وهامش الربح ولكن تظل رغم ذلك تتميز بسعر بيع أقل من السعر المحلى ويرجع ذلك إلى القدرات التى تتمتع بها الدولة فى عناصر الانتاج، وفى حقيقة الأمر هذا يختلف تمامًا عن الإغراق بل هو أمرًا مستحب، فعلى الدول أن تستورد ما يتم انتاجه بوفرة نسبية فى الدول الاخرى تحقيقًا لمصالحها الاقتصادية، على أن توجه عناصر انتاجها إلى ما تستطيع انتاجه هى الاخرى بوفرة نسبية
ونظرًا لاهمية موضوع الإغراق فأنه يجب على الدول أن تعمل على دراسة هذا الملف لكل سلعة أو كل قطاع، وأن تجرى تحقيقات ودراسات وافيه، و أن يتم فيها دراسة البعد القانونى واساليب المكافحة الفعالة و اتخاذ التدابير الوقائية لضمان تحقيق الحماية للاقتصاد الوطنى وإعادة التوازن والاستقرار للأسواق