د.محمد فراج يكتب: العدوان الصهيونى الأمريكى على إيران.. قراءة أولية فى النتائج (1)

بغض النظر عن الطنطنة الإعلامية الصاخبة التى يقوم بها رئيس الحكومة الصهيونية نتنياهو عن الإنجاز التاريخى الذى حققته بلاده بعدوانها على إيران والطنطنة الأكثر صخبا التى يثيرها الرئيس الأمريكى ترامب بحديث عن النجاح فى تدمير البرنامج النووى الإيرانى من خلال الضربات التى وجهتها قاذفات “بى -2” الاستراتيجية بقنابلها الثقيلة الخارقة للتحصينات، وصواريخ “توماهوك” للمواقع النووية الإيرانية الثلاثة الرئيسية فى “فوردو، وناطانز وأصفهان” فإن الحقائق التى تتكشف ساعة بعد ساعة وتقارير أجهزة المخابرات الأمريكية ذاتها تشير إلى أن العدوان الأمريكى الصهيونى على إيران قد فشل فى تحقيق أهدافه المعلنة سواء فيما يتعلق بتدمير البرنامج النووى الإيرانى أو تدمير القوة الصاروخية الإيرانية وهو هدف توليه الدول الصهيونية اهتمامًا خاصا.
تقرير وكالة المخابرات الدفاعية الأمريكية التابعة للبنتاجون ذكر أن الضربة الجوية التى وجهتها قاذفات الـ”بى-2” قد أخرت البرنامج النووى الايرانى لفترة تتراوح بين شهرين وستة أشهر وليس لسنوات طويلة أو إلى الأمد، كما يعلن ترامب الذى يشن هجومًا عنيفًا على شبكة “سى إن إن” الأمريكية وصحيفة “نيويورك تايمز” الكبرى بسبب نشرهما لتسريبات حول التقارير الأمريكية ويصف الصحفيين والإعلاميين فى القناة والجريدة بأنهم “حثالة” و”قمامة” وينشرون الأكاديب، إلخ، علما بأن رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة نفسه كان قد صرح بأن الضربات التى وجههتها قواته الجوية قد ألحقت ضررا كبيرا بالبرنامج النووى الإيرانى إلا أن حدود ذلك الضرر غير معروفة بدقة وأن الوقت مطلوب لمعرفة التفاصيل التى تتيح إجراء تقييم دقيق لهذا الضرر، كما أن وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو ونائب الرئيس “جى دى فانس” قد تحدثا بنفس الطريقة تقريبا، وأبديا تحفظا واضحا على الحديث عن تدمير البرنامج النووى الإيرانى أو دفعه سنوات إلى الخلف (جريدة بوليتيكو الأمريكية النافذة/ 25 يونيو 2525” وهذا هو رأى عديد من الخبراء العسكريين الأمريكيين إلا أن ترامب لايزال مصرا على ترديد مزاعمه المفتقرة إلى الأدلة ولا يمنعه من الاستمرار فى ترديدها ما أصبح معروفا من أن ايران قد سحبت رصيد اليورانيوم المخصب بنسبة ستين بالمائة 60% من منشأة “فوردو” قبل قصفها ومعها الجزء الأكبر من أجهزة الطرد المركزى المستخدمة فى التخصيب.
ولا يقل أهمية عن ذلك أن ترامب كان قد كذّب وزيرة المخابرات الوطنية الأمريكية تولسى جابارد أمام الكونجرس فى مارس الماضى بأن مجتمع المخابرات الأمريكى لايزال يرى أن طهران لا تعمل على امتلاك سلاح نووى قائلا: “لا يهمنى ما تقوله”!! علما بأن هذه الوزيرة هى المسئولة عن التنسيق بين أجهزة المخابرت الأمريكية وتجميع تقاريرها، وجاء ذلك فى رده على سؤال لترامب حول تقرير الوزيرة أثناء عودته من قمة السبعة الكبار فى كندا مؤخرا.
شريك أصلى مع سبق الإصرار!
والحقيقة أن ترامب كان قد سبق أن وجه إنذارا لإيران باحتمال تعرضها لضربة عسكرية إذا فشلت المفاوضات حول البرنامج النووى بينها وبين أمريكا ولم يتم التوصل إلى اتفاق خلال ستين يوما، وبمجرد مرور هذه الفترة بدأت الدولة الصهيونية عدوانها على إيران وهو العدوان الذى أعلن ترامب على الفور أنه كان على علم بتفاصيله قبل وقوعه، وهذا أمر مفهوم تماما، فلم تكن إسرائيل لتستطيع القيام بهذا العدوان دون ضوء أمريكى أخضر على أعلى المستويات.
ثم بدأ ترامب يتحدث عن ضرورة استسلام إيران غير المشروط، ومن ثم انتقل إلى الإنذار بتوجيه ضربة أمريكية للمنشآت النوية الإيرانية خلال أسبوعين إذا لم تستجب إيران بإعلانها قبول الشروط الأمريكية والإسرائيلية غير أنه خلال يومين فقط أمر بتوجيه الضربة!
ويوضح كل ما ذكرناه أن خطة شن العدوان على إيران كانت جاهزة قبل وقت طويل ومحل اتفاق على توزيع الأدوار، والحقيقة أن هذا العدوان لم يكن يمكن لإسرائيل القيام به دون دعم أمريكى مؤكد ومضمون تماما.
أولا: لأن الطائرات التى استخدمت فى شن العدوان هى طائرات “إف 35” طويلة المدى وناشئة التطور التى لا تملكها وبأعداد كبيرة “بالعشرات” إلا الدول المتحالفة عضويا مع أمريكا، بالإضافة إلى الطرز الأكبر تطورا من طائرات إف 15 وإذا كانت الدولة الصهيونية تملك العشرات من طائرات الطرازين منذ مدة طويلة إلا أن القيام بعمليات حربية كبيرة يستدعى وجود كميات ضخمة من الصواريخ والقذائف المطلوبة لتسليح تلك الطائرات وهو ما وفرته أمريكا.
ثانيا: نظرا لطول المسافة بين الدولة الصهيونية وايران (أكثر من ألف كم) فقد كان مطلوبا توفير عشرات من طائرات التزويد بالوقود فى الجو وهو نوع من الطائرات لا تملكه بأعداد كبيرة إلا الدول الكبرى، ومع ذلك وفرته أمريكا لإسرائيل.
ثالثا: كما أن أعمال التزويد بالوقود أثناء الطيران جرت فى أجواء سوريا والعراق، حيث تملك أمريكا وجودا عسكريا ونفوذا سياسيا ضخما، وسيطرة جوية مطلقة الأمر الذى أتاح للطيران الصهيونى وجودا متصلا طوال الوقت فى الأجواء الإيرانية وبأعداد كبيرة من القاذفات المتطورة مما ساعد منذ بداية العدوان على تحييد أسلحة الدفاع الجوي الإيرانية.
رابعا: معروف أن سلاح الردع الأساسى الذى تملكه إيران هى الصواريخ الباليستية وفرط الصوتية والمسيرات فى ظل ضعف وتخلف أسطولها الجوى الحربى، ومعروف أيضًا أن الدولة الصهيونية تملك منظومة متطورة من صواريخ الدفاع الجوى متعددة المهام “القبة الحديدية/ وحيتس أو السهم... وغيرها” ومع ذلك فقد زودتها الولايات المتحدة مؤخرا بعدة بطاريات من طراز “ثاد” الأكثر تطورا من صواريخ “باتريوت” الشهيرة، كما تقوم السفن والقواعد الأميركية فى المنطقة بالمساعدة فى صد الصواريخ الموجهة نحو الدولة الصهيونية، باعتبار ذلك التزامًا مستمرًا، ويجب لفت النظر إلى أن صواريخ “ثاد” بالغة التطور ليست موجودة ضمن منظومات دفاع عديد من دول حلف الأطلنطى، التى تكتفى بصواريخ باتريوت الأقل تطورًا وبالترابط مع منظومات أخرى.
وباختصار فإنه لولا التعزيز الأمريكى الكبير لقوة الدولة الصهيونية الهجومية والدفاعية خلال السنوات والشهور الأخيرة، لما كان بإمكان نتنياهو التبجح بأن اسرائيل ستضطر للقيام بضرب البرنامج النووى الإيرانى بمفردها إذا لم تشارك الولايات المتحدة فى القيام بذلك العدوان، ولما كان بإمكان نتنياهو بالطبع تنفيذ تبجحاته تلك.
أكثر من تحالف عضوى!
وبناء على ذلك كله فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن التحالف بين أمريكا وإسرائيل هو تحالف عضوى، يصل إلى درجة التناغم حتى فى التفاصيل وتقاسم الأدوار والتظاهر بوجود اختلافات وانتقادات ثم التطابق في تحليل نفس الأحداث فى نهاية الأمر، ولا نبالغ إذا اعتبرنا أن محادثات إدارة ترامب مع إيران حول برنامجها النووى السلمى والشد والجذب بين الأطراف وادعاءات ترامب ونتنياهو حول اختلافهما بشأن توجيه ضربة لذلك البرنامج، إلخ، كل ذلك كان جزءًا من خطة الخداع الاستراتيجى السابقة للعدوان الصهيونى الأمريكى أو الأمريكى الصهيونى على إيران.
وقد سبق أن رأينا سيناريو شبيهاً ومماثلاً فى التعامل مع غزة وحرب الإبادة فيها بدءا من اليوم الأول “لطوفان الأقصى” حتى الآن، مع اختلافات طفيفة فى التفاصيل بين إدارتى بايدن وترامب وهو ما يجعلنا نرفض بشدة تعويل بعض الأطراف العربية على الولايات المتحدة للقيام بدور “الوسيط!!” فى قضايا الصراع العربى – الإسرائيلى أو الفلسطينى – الإسرائيلى، باعتبار ذك التعويل نوعًا من خداع النفس يجب التخلص منه تمامًا.
إيران.. صمود رغم الخسائر المؤلمة
بعد الضربة التى وجههتها القوات الأمريكية إلى المنشآت النووية الإيرانية الثلاث تقدم ترامب للقيام بدور الوسيط لوقف الحرب، وهى الدعوة التى قبلها الطرفان الإيرانى والصهيونى، مع ملاحظة تأكيد نتنياهو على ما أسماه “إنجازا تاريخيا” وأنه يحتفظ بحق الدولة الصهيونية فى ضرب أى محاولة ايرانية لاستئناف العمل ببرنامجها النوى أو تعزيز دفاعاتها الجوية.. إلخ، ومع ملاحظة أن ترامب يتحدث وكأن إيران قد خسرت الحرب، مع اعترافه بأن إسرائيل قد لحقت بها ضربات مؤلمة.
والحقيقة أن إيران قد تعرضت لخسائر مؤلمة وخاصة فى أول أيام الحرب، حيث فقدت عددا من كبار قادتها العسكريين وعلمائها النوويين، وجانبا كبيرا من منظومة دفاعها الجوى وقدراتها العسكرية، إلا أن هذا كله لا يعنى الهزيمة.. فالهزيمة هى انكسار الإرادة، والرغبة فى المقاومة والقدرة عليها، وعلى إلحاق الضربات بالعدو وسوف نجىء فى مقالنا التالى إلى هذه المسائل بالتفصيل، لكننا نود أن نلفت النظر باختصار إلى الملاحظات التالية:
1 – القيادة الايرانية لم تفقد رباطة جأشها، بل استعادت تماسكها بسرعة، وبدأت فى مساء نفس اليوم فى توجيه الضربات لإسرائيل فى العمق، وألحقت بها خسائر اعترف ترامب نفسه بأنها مؤلمة.
2 – رفضت إيران بصورة قطعية العودة إلى التفاوض فى ظل استمرار العدوان الإسرائيلى وأصرت على وقف العدوان أولا، كما أصرت على رفض التخلى عن حق طهران فى التخصيب.
3 - أثبتت قدرتهاعلى ضرب أهداف استراتيجية فى عمق العدو، واتبعت تكتيكا ذكيا فى إغراق منظومة دفاعه الجوى بالضغط بين القصف الصاروخى والاستخدام المكثف للمسيرات.
4 – فرضت على السكان فى إسرائيل حالة من الذعر والاحتماء بالملاجئ لمدة اثنى عشر يوما ما نتج عنه مغادرة آلاف منهم للبلاد، كما عطلت الحياة الاقتصادية بصورة شبه تامة فى الدولة الصهيونية.
5- ظلت تطلق صواريخها على إسرائيل حتى الدقائق الأخيرة من مهلة وقف إطلاق النار.
6 – وجهت ضربة محدودة لقاعدة “العديد” الأمريكية فى قطر، وبرغم كل ما يقال عن “المسرحية” فإن أمريكا اضطرت لتلقى الضربة دون رد كما كانت تتوعد.
وللحديث بقية