د.محمد فراج يكتب: عسكرة أوروبا.. ومخاطر اندلاع الحرب العالمية الثالثة

التطورات الخطيرة فى ساحات معارك الحرب الأوكرانية، وما يتصل بها من مجالات متعددة للمواجهة بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، تشير إلى تصاعد مستمر للحرب وإلى تزايد احتمالات اتساع نطاقها ونطاق المواجهة الروسية – الأوروبية بصورة تنطوى على خطر اشتعال حرب روسية – أوروبية شاملة، يمكن أن تتحول إلى حرب عالمية وذلك بغض النظر عن مبادرة ترامب التى كانت قد أنعشت الآمال فى فتح الطريق نحو تسوية سلمية للصراع المحتدم، لكن الأحداث سرعان ما أثبتت قصورها ومحدوديتها.
وإذا كانت الدول الأوروبية الغريبة الثلاث الكبري “بريطانيا وألمانيا وفرنسا” قد رفضت مبادرة ترامب وأعلنت إصرارها على زيادة إمدادها لأوكرانيا بالأسلحة والمعدات العسكرية فإن استمرار الحرب قد أدى إلى مزيد من الهزائم والخسائر للقوات الأوكرانية وإلى فقدانها لمزيد من الأراضى كل يوم، بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة فى الأفراد وهى خسائر مؤلمة للغاية وصعبة التعويض، وكما كان متوقعا فإن تزايد الإمدادات الغربية لأوكرانيا بأعداد أكبر من الطائرات المسيرة والصواريخ القادرة على ضرب العمق الروسى (بمدى يصل إلى 300 – 500 كم) والمزيد من صواريخ الدفاع الجوى، كل ذلك لم يفلح فى وقف تقدم القوات الروسية على مختلف الجبهات، أو حتى فى إبطاء وتيرة هذا التقدم ومفهوم طبعًا أنه إذا كانت القوات الروسية قد نجحت فى تحقيق انتصاراتها الكبيرة فى ظل الدعم الأمريكى الهائل وفى ظل حكم بايدن فإن من غير المنطقى تصور وقف تحقيق مزيد من الانتصارات بعد التقلص الكبير للدعم الأمريكى بعد مبادرة ترامب.
اختراق مخابراتى كبير.. ولكن
ومنذ أسبوعين نجحت المخابرات الأوكرانية تحت إشراف وتخطيط بريطانى – أساسا – وأطلسى فى توجيه ضربة مؤلمة لبعض المطارات فى عمق الأراضى الروسية ألحقت أضرارا بعدد من الطائرات الاستراتيجية القادرة على حمل القنابل النووية، وتم ذلك من خلال تحميل طائرات مسيرة على شاحنات ضخمة مغطاة اقتربت من المطارات المذكورة، ثم قامت بقصفها متفادية منظومة الدفاع الجوى الروسية واحتفى الإعلام الغربى كثيرا بهذه الضربة المخابراتية، وأثار حولها ضجة هائلة والحقيقة أن هذه العملية قد مثلت اختراقا مخابراتيا ناجحا من زاوية التخطيط والاعتماد على وجود أعداد كبيرة من الأوكرانيين على الأراضى الروسية، وألحق هذا الاختراق ضربة مؤلمة بهيبة المخابرات الروسية، لكنه فى التحليل الأخير يبدو أقرب إلى عملية مسرحية لم تغير شيئا فى علاقات القوى الميدانية على جبهات القتال.
وقد جاء الرد الانتقامى الروسى سريعا من خلال ضربات جوية وصاروخية ضخمة على العاصمة الأوكرانية “كييف” ومرافق البنية التحتية العسكرية والصناعية العسكرية فى مختلف أنحاء أوكرانيا، بما فى ذلك مدن كبرى مثل خاركوف وميناء أوديسا، أما على الأرض فقد تقدمت القوات الروسية لتحتل مناطق كبيرة فى مقاطعة “سومى” الأوكرانية الحدودية، وفى مقاطعة “خاركوف”، كما قامت منذ أيام قليلة بهجوم كبير على مقاطعة “دنيبروبتروتسك” الصناعية وأحد أهم مراكز الصناعات العسكرية والمدنية الأوكرانية، واحتلت مناطق واسعة من هذه المقاطعة بالغة الأهمية ولاتزال تواصل التقدم فيها، ومع تكثيف الضربات الجوية والصاروخية على خاركوف “ثانية كبرى المدن الأوكرانية” وأوديسا “كبرى الموانئ على البحر الأسود” والتقارير عن حشود عسكرية ضخمة باتجاه خاركوف، فإن ذلك كله يشير إلى نوايا القوات الروسية فى التقدم نحوها قريبا، وربما نحو أوديسا التى يتدفق عبرها معظم الإمدادات الغربية إلى أوكرانيا.
وباختصار فإن القوات الروسي تتقدم بسرعة أكبر على مختلف الجبهات وتحقيق مزيدا من الانتصارات بينما تتصنع قوى الجيش الأوكرانى بالرغم من قدرته على توجيه بعض الضربات المؤلمة هنا وهناك وخاصة من خلال الثغرات التى ترصدها الأقمار الصناعية والمخابرات الغربية لكن هذا لا يغير شيئا من المسار العام للحرب.
عسكرة أوروبا ومخاطرها
وعلى ضوء نتائج الحرب المحتدمة فى أوكرانيا وخاصة بعد مجىء ترامب للسلطة وطرحه لمبادرته التى عرضها لها بالتفصيل فى أكثر من مقالة والتقلص الكبير للدعم الأمريكى بدأت الدول الأوروبية الكبرى “ألمانيا وبريطانيا وفرنسا” تتجه لتخصيص موارد أكبر للانفاق العسكرى وتعزيز الصناعات العسكرية كما تطالب دول الاتحاد الأروبى بتخصيص المزيد من الموادر للإنفاق العسكرى بالرغم من الأزمات الاقتصادية وتباطؤ النمو فى بلدان القارة العجوز، وبينما كانت تلك الدول ترفض مطالبة ترامب لها أثناء ولايته الأولى برفع الإنفاق العسكرى إلى (2% - اثنين بالمائة) من ناتجها المحلى الإجمالى، فإن الحديث يدور الآن عن رفع الانتاج العسكرى إلى ما يتراوح بين (3.5% و5%) من الناتج المحلى الإجمالى!! وهوما يمثل كارثة اقتصادية واجتماعية بالنسبة للمجتمعات الأوروبية وخاصة تلك القائمة على مفهوم “دولة الرفاه” وينذر باضطرابات سياسية خطيرة لما يعنيه من اقتطاعات واسعة من بنود الرعاية الاجتماعية والصحية وما يترتب على ذلك من صعود لقوة الأحزاب والتيارات اليمنية واليمنية المتطرفة من ناحية، وانتعاش للحركات المطلبية والنقابية واليسارية من ناحية أخرى.
والأمر المؤكد أيضا هو أن الاتجاه نحو عسكرة الاقتصاد بهذه الدرجة الكبيرة سيترتب عليه تزايد النزعة العدوانية فى سياسة الدول الأروبية الكبرى بالذات وكلها ذات تاريخ امبراطورى واستعمارى طويل وفى مقدمتها بالطبع بريطانيا وفرنسا، كما أن العالم قد ذاق الويلات من عسكرة الاقتصاد الألمانى الضخم “فى الحربين العالميتين الأولى والثانية” ومن محاولات ألمانيا لإعادة اقتسام المستعمرات مع الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية، ولا يتسع المجال هنا للإبحار فى التاريخ وسرد الماضى الاستعمارى لكل من إيطاليا وبلجيكا وهولندا واسبانيا وحتى البرتغال.
لكن الخطر الرئيس يجىء من ناحية الدول الثلاث الأكبر “ألمانيا وبريطانيا وفرنسا” ذات الاقتصادات الكبرى والجيوش القوية والتعداد السكانى الأكبر (مع ملاحظة أن بريطانيا وفرنسا دولتان نوويتان وألمانيا قادرة على صنع السلاح النووى)، وأن ألمانيا ظلت على مدى فترة طويلة تعتبر شرق أروبا منطقة مصالح حيوية لها، ولديها تاريخ طويل من العداء لروسيا التى كانت العامل الرئيس فى إلحاق الهزيمة بالنازية الألمانية وأطماعها الامبراطورية فى الحرب العالمية الثانية.
والحقيقة أن إطلاق العنان للاتجاه نحو عسكرة أوروبا وللحديث عن “الخطر الروسيى” يفتح المجال لإيقاظ المشاعر القومية المتعصبة فى أوروبا وزيادة الاتجاهات العدوانية فى سياسات دولها الكبرى بالذات.
وبديهى أن روسيا التى عانت كثيرا من الحروب والاطماع الأوروبية والأطلسية فى أراضيها وثرواتها لن تقف مكتوفة الأيدى فى مواجهة هذه المخاطرة، علما بأن السبب الرئيسى للحرب الحالية هى محاولة توسيع حلف الناتو باتجاه الشرق.
فهل يجد السياسيون الأوروبيون والأطلسيون لديهم ما يكفى من العقل والحِكمة لتجنيب البشرية مخاطر حرب عالمية ثالثة؟