الأموال
الأربعاء، 17 أبريل 2024 01:59 صـ
  • hdb
7 شوال 1445
17 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

أسامة أيوب يكتب : صفحات من تاريخ مصر السياسى الحديث (١)

الكاتب الصحفى أسامة أيوب
الكاتب الصحفى أسامة أيوب

في مثل هذا اليوم من أربعين سنة.. ٥ سبتمبر ١٩٨١، وبينما كانت مصر تشهد حالة من الغليان والاحتقان السياسى بين المعارضة الحزبية والرئيس السادات وحيث تزايدت حدة المعارضة وصخبها ضد بعض السياسات الداخلية والخارجية وفي مقدمتها ما يتعلق بمعاهدة السلام.. فى هذه الأجواء المشحونة فاجأ السادات المصريين بقرار اعتقال كل المعارضين من كافة التيارات والاتجاهات السياسية والحزبية من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال والذين بلغ عددهم نحو ١٢٠٠ سياسى وحزبى

هذه الاعتقالات الجماعية للسياسيين المعارضين كانت مثار دهشة بقدر ما كانت مثار استنكار فى نفس الوقت، باعتبار أنها تمثل ردة عن أجواء الديمقراطية التى كان السادات يتفاخر بأنه أشاعها في مصر منذ إعادة الحياة الحزبية والتعددية السياسية عام ١٩٧٦ بعد أن ألغى الاتحاد الاشتراكى.. التنظيم السياسى الواحد والوحيد الذي ظل يحتكر العمل السياسى منذ عام ١٩٦١ خلفًا للاتحاد القومى الذي أقامه الرئيس عبدالناصر وكان أيضًا التنظيم السياسى الواحد والوحيد.
< < <
فى هذه الفترة وفي تلك الأجواء المشحونة كان لافتًا أن الرئيس السادات بدأ يفقد أعصابه والكثير جدًا من هدوئه السياسى، حيث بدا خطابه السياسى بالغ الحِدة والعصبية إلى درجة أنه كثيرًا ما يخرج عن النص على نحو ما حدث في مؤتمر صحفى عالمى عندما احتد غاضبًا على أحد المراسلين الأجانب اعتبر أن سؤاله مستفز وأجابه بأنه «لولا أن فى مصر ديمقراطية كنت قد اعتقلتك فورًا»!!، وهى عبارة انطوت على تناقض واضح بين الديمقراطية والتهديد بالاعتقال، ومن ثمَّ فقد عكست بكل وضوح حالة الاضطراب والتوتر التى كانت تنتاب السادات فى تلك الفترة وفى ذلك الشهر تحديدا.
هذه الحالة العصبية وذلك الغضب كان سببهما شعوره بما اعتبره نكرانا من السياسيين وبعض المصريين لهامش الديمقراطية وحرية التعبير الكبير نسبيًا الذى أتاحه لأول مرة فى مصر منذ عام ١٩٥٢ وبعد غياب كبير ومستديم خلال الحقبة الناصرية التى غابت فيها أى مظاهر للحرية والديمقراطية.
السادات كان يشعر بنكران أيضًا لأنه صاحب انتصار السادس من أكتوبر ١٩٧٣.. أول انتصار عسكرى لمصر وللعرب في التاريخ الحديث، وهو الانتصار الذي استكمله بمعركة دبلوماسية لتحقيق الانسحاب الإسرائيلى الكامل من سيناء. تنفيذًا لمعاهدة السلام التى وقعها مع مناحم بيجن، وهو الأمر الذى كان ومازال مثار خلاف بين السادات ومعارضيه حتى الآن، ثم إنه كان يشعر بالغبن لإغفال المعارضين لإنجاز آخر وهو إعادة فتح قناة السويس بعد عامين من حرب أكتوبر في يوم ٥ يونيو وهو نفس يوم هزيمة ١٩٦٧، وحيث رأى السادات أن اختيار ذلك اليوم له دلالة بالغة الأهمية.
ومن بين الإنجازات التى كان السادات يفتخر بها إعادة تعمير مدن قناة السويس الثلاث «بورسعيد ـ الإسماعيلية ـ السويس» وإعادة المهجرين بعد هزيمة يونيو إلى مدنهم وبيوتهم، ولذا كان شعوره بالغبن طاغيًا ومتضخمًا لعدم اعتراف معارضيه بما حققه خلال عشر سنوات من حكمه من إنجازات كانت كافية حتى لا تهاجمه المعارضة سواء من المعارضين لسياساته أو الرافضين لمعاهدة السلام، أو المطالبين بتوسيع هامش الحريات دون مقارنة مع الحقبة الناصرية.
< < <
ولأن السادات لم يُقدِّم على اعتقال أى سياسى أو صحفى حتى يوم ٥ سبتمبر ١٩٨١ باستثناء فصل بعض الكُتَّاب والصحفيين فى عام ١٩٧٢ والذين أعادهم إلى أعمالهم مرة أخرى عام ١٩٧٣، وحيث شهدت الحياة السياسية والحزبية انتعاشًآ غير مسبوق.. أقره السادات وقبله لإثبات حرصه على الديمقراطية.
لذا فإن قرار اعتقالات ٥ سبتمبر لكل المعارضين وفى مقدمتهم فؤاد سراج الدين زعيم حزب الوفد ومحمد حسنين هيكل الصحفى المصرى الأشهر الذى كان الأقرب إلى عبدالناصر.. كان قرارًا صادمًا بكل المقاييس السياسية خاصة أن هؤلاء المعتقلين ليس لهم أى نشاط معاد يهدِّد أمن الدولة وأمن مصر القومي ولا يمارسون أى أعمال عنف من أى نوع.
< < <
المبرِّر الذى استند إليه السادات وتعلَّل به لهذه الاعتقالات الجماعية هو أن ثمة اتجاهات فى إسرائيل تُطالب مناحم بيجن رئيس الوزراء بتأجيل موعد الانسحاب النهائى من سيناء والذى تحدَّد وفقًا لمعاهدة السلام بيوم ٢٥ أبريل ١٩٨٢ إلى موعد آخر وهو الأمر الذى يعنى التهرب من الانسحاب إلى أجل غير مسمى.
هذه الاتجاهات الإسرائيلية كانت تتعلل «كذبًا» فى حقيقة الأمر بأن ارتفاع وتيرة المعارضة السياسية للسادات والمعاهدة يعكس حالة من عدم الاستقرار في النظام السياسى المصرى، وهو الأمر الذى لا تشعر معه إسرائيل بالاطمئنان بشأن ضمان استمرار حالة السلام وفقًا لما أقرته معاهدة السلام الموقعة فى مارس ١٩٧٩.
ومن ثَمَّ فقد اعتبر السادات أن إقدامه على تلك الاعتقالات الجماعية لكل المعارضين من شأنه إبطال الادعاءات الإسرائيلية، وحيث يتم إبعاد كل المعارضين عن المشهد السياسى ويتوقف خطابهم المعارض والعدائى، وحيث اعتبر أن الاعتقالات لا تستهدف الانتقام من المعارضين ولكنها من أجل المصلحة العليا للوطن، وحيث حرص على تأكيد أنه أعطى أوامره بعدم الإساءة إلى أحد منهم فى السجن وأن يلقوا معاملة حسنة كسجناء رأى لهم كل الاحترام، بل إنه تعهد بالإفراج عنهم بعد الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم ٢٥ أبريل ١٩٨٢ وفور اكتمال الانسحاب من سيناء والاحتفال برفع علم مصر فوق آخر بقعة أرض تم تحريرها.
<< <
وفى هذا السياق أذكر أن الرئيس السودانى الأسبق جعفر نميرى أفصح لى فى حوار صحفى أجريته معه فى الخرطوم تصادف أنه جرى يوم ٢٥ أبريل ١٩٨٢.. يوم اكتمال الانسحاب الذي لم أشهده في مصر وقتها.. عن أن السادات أوضح له مبرره لتلك الاعتقالات كما أكد له تعهده بالإفراج عن كل المعتقلين بعد اكتمال الانسحاب.
< < <
غير أن من مفارقات الأقدار أن السادات لم يعش حتى يشهد ذلك اليوم، إذ إنه بعد شهر واحد من اعتقالات ٥ سبتمبر وفي يوم ٦ أكتوبر.. جرى اغتياله في العرض العسكرى فى الذكرى السابعة للنصر وقبل سبعة أشهر من يوم ٢٥ أبريل.
< < <
من المفارقات أيضًا أن السادات غيبه الموت اغتيالا قبل أن يكمِّل ولايته الرئاسية الثانية الأخيرة في أكتوبر ١٩٨٢ بحسب الدستور الذي عدّله عام ١٩٨٠ ليفتح المدد الرئاسية دون حد أقصى، ولكنه لا هو أكمَّل مدته الثانية ولا هو استفاد من تعديل الدستور والذى استفاد منه فى واقع الأمر خليفته حسني مبارك الذى استمر فى الحكم (٣٠سنة)!
< < <
من مفارقات الأقدار أيضًا أن السادات كان قد انتوى في أوائل عام ١٩٨١ وتحديدًا في شهر أبريل أن يقيل حسنى مبارك من منصب نائب رئيس الجمهورية، وحيث تردد في الكواليس السياسية أنه سيعين الوزير منصور حسن المقرَّب منه نائبا للرئيس، وهو التوجه الذى كشفت عنه مجلة «الحوادث» اللبنانية في ذلك الوقت نقلا عن مراسلها فى القاهرة الذى وصف منصور حسن فى تقرير له نشرته المجلة بأنه «الرجل القادم في مصر»، مع ملاحظة أنه تمت مصادرة هذا العدد من المجلة بعد أن تسرَّب هذا التوجه فإن حسنى مبارك اعتكف في منزله بدعوى إصابته في ساقه ووضعها في الجبس، وهو ما دعا السادات إلى زيارته فى منزله ثم تراجعه عن نيته فى إقالته، خاصة بعدما تردد عن حالة غضب داخل القوات المسلحة.
ومع بقاء مبارك فى منصب النائب وبعد اغتيال السادات، ووفقا للدستور فإن مجلس الشعب رشح مبارك للرئاسة فى استفتاء شعبى يوم ١٣ أكتوبر ١٩٨١ وبعد أسبوع واحد من رحيل السادات لتبدأ مصر عهدًا سياسيًا جديدًا من حكم مبارك الذى نجا من إقالته من منصب النائب ليتولى رئاسة مصر لمدة ثلاثين سنة.
< < <
يبقى أن قصة توجه السادات لإقالة مبارك من منصب النائب ومن بينها تقرير مجلة «الحوادث» اللبنانية التى اطلعت عليها وأنا فى مهمة صحفية خارج مصر وعلمت أنه تمت مصادرة العدد الذى نشر فيه التقرير.. قد أكدها لىّ الوزير منصور حسن فى اتصال تليفونى بعد ثورة ٢٥ يناير وقبل أن يرحل.. معلقًا على ما كتبته بشأنها فى مجلة «أكتوبر» متعجبًا من معرفتى بهذه القصة.. ضمن سلسلة مقالات بعنوان «حسنى مبارك.. صعوده وسقوطه» وهو نفس العنوان الذى اقتبسه أحد كبار الصحفيين من المتابعين للمجلة بالضرورة ووضعه عنوانا لكتاب أصدره تضمَّن الإشارة إلى قصة «الرجل القادم فى مصر».. وهو مسلك أستحى من وصفه بما يستحقه مثلما استحييت من الإشارة إلى ذلك وقتها.
< <<
سوف تبقي مفارقات الأقدار السياسية وتقلباتها في مصر بالغة الإثارة فى كل عصور وعهود التاريخ، ومن بينها كانت اعتقالات ٥ سبتمبر ١٩٨١ وما تلاها والتي وجدتنى مدفوعًا بتلك السطور للتذكير بها بعد مرور أربعين سنة بالتمام والكمال.. فى ٥ سبتمبر عام ٢٠٢١..
ويبقي للحديث بقية..

مصر للطيران
أسامة أيوب السياسة
بنك الاسكان
NBE