الأموال
الجمعة، 26 أبريل 2024 01:53 صـ
  • hdb
16 شوال 1445
26 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : لبنان : الخيط الرفيع بين المساءلة والفوضى الشاملة

الأموال

الدولة الوطنية - بكل عيوبها - ضرورة حياة.. وإصلاحها ممكن وضرورى

تقويض مؤسسات الدولة يحمل خطر الحرب الأهلية.. وانفجار شامل فى المنطقة

انتباه.. إسرائيل تتربص بالجنوب وغاز المتوسط.. وتركيا تتربص بطرابلس والشمال

كان من حظ لبنان العاثر أن يقع انفجار ميناء بيروت المدمر فى ظروف أزمة اقتصادية ومالية ومعيشية وسياسية طاحنة تعصف بالبلاد، وتتضافر مع حصار أمريكى وغربى وإقليمى متزايد الإحكام للبنان، وفى سياق محاولات دولية وإقليمية لإعادة رسم خرائط المنطقة، وبسياسات لبنان الداخلية والعربية والإقليمية، وخاصة علاقاته بسوريا وإيران، والإصرار على قطع علاقات بيروت بدمشق، وإحكام الحصار حول سوريا من خلال تطبيق عقوبات اقتصادية غير مسبوقة وصلت إلى ذروتها بغرض ما يعرف «بقانون قيصر».. وبالطبع بنزع سلاح حزب الله واستبعاده تماماً من معادلات القوة الإقليمية باعتباره حليفاً لإيران وامتداداً «لحرسها الثورى».

وقد ساعد تجذر الفساد المزمن فى صفوف النخبة السياسية والمالية، والمحاصصة الطائفية (الفاسدة) فى إدارة البلاد على تفاقم الأزمة ووضع العراقيل أمام إمكانية الخروج منها.

ثم جاءت كارثة انفجار الميناء والخسائر الهائلة التى ترتبت عليها (والتى يقدرها بعض الخبراء بنحو 15 مليار $) لتضع لبنان فى موقف أضعف فى مواجهة الضغوط الغربية القاسية، ولتضع نخبته السياسية فى قفص الاتهام بالفشل الذريع والإهمال الجسيم، مهما تكن نتائج التحقيق فى كارثة الميناء.

ولعل هذا ما يفسر (التجبر) الذى تصرف به الرئيس الفرنسى ماكرون مع الزعماء وكبار المسئولين اللبنانيين - بمن فيهم رئيس الجمهورية - وكأنهم تلاميذ خائبون فى حضرة «أستاذهم».. وهو ما يسلط عليه الضوء بشمول واقتدار أخى الكاتب الكبير الأستاذ / أسامة أيوب فى مقاله الرائع على هذه الصفحة.

ولا نبالغ إذا وصفنا سلوك ماكرون مع كبار المسئولين اللبنانيين واتهاماته وإنذاراته لهم بأنه انتهاك فظ لأبسط قواعد البروتوكول.. أما هؤلاء السادة المذهولون من هول كارثة الميناء.، والمتلبسون بالفشل الذريع والإهمال الجسيم - والمتخبطون فى حبائل الأزمة، فلم يسمحوا للرئيس الفرنسى بالتصرف معهم بهذه الطريقة للأسباب المذكورة فحسب.. وإنما - أيضاً - لأنه أخبرهم بأنه يعرف كل شىء عن فسادهم!! ولذلك فإن أى مساعدات للشعب اللبنانى لن تمر من خلالهم.

مساعدات .. وشروط

مؤتمر المانحين الذى دعا ماكرون لانقعاده بصورة عاجلة فى باريس (الأحد 9 أغسطس) من خلال تقنية الفيديو كونفراس تمخض عنه جمع مبلغ (258 مليون يورو / حوالى 300 مليون $) لا أكثر لمواجهة الاحتياجات الإغاثية العاجلة وهو مبلغ محدود فى مواجهة كارثة بالحجم الذى نعرفه - واللافت للنظر بشدة أن مساهمة فرنسا لم تزد على (30 مليون يورو / 35 مليون $).. بعد كل (عنطزته) فى بيروت!! علماً بأن الناتج المحلى لفرنسا يقترب من (3 تريليونات $).. ودفع الاتحاد الأوروبى - بقضه وقضيضه - (13 مليون $) بينما دفعت الكويت وحدها (14 مليون $).

أما إعادة الإعمار وإنقاذ الاقتصاد اللبنانى فتنتظر الاستجابة للشروط الغربية، وفى مقدمتها تشكيل حكومة جديدة (مستقلة ونزيهة) والانتهاء من التحقيق ومحاسبة جميع المسئولين عن الانفجار وإجراء تغيير شامل فى النخبة السياسية ومؤسسات البلاد، بما فى ذلك انتخابات نيابية مبكرة وبحث وضع حزب الله بدءاً باستبعاده من الحكومة.. ولاستجابة لشروط صندوق النقد الدولى، التى سبق أن رفضتها الحكومة اللبنانية مؤخراً.

الشروط السياسية عبر عن بعضها ماكرون، وعن بعضها الآخر مسئولون أمريكيون وغربيون آخرون، وينتظر لبنان زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكى ديفيد هيل (الخميس والجمعة 13/14) ـ قبل تقديم المقال للنشر - وينتظر أن تكون تجميعاً لكل الشروط المذكورة، مع التركيز على نزع سلاح حزب الله وقطع العلاقات مع سوريا.

ومعروف أن من بين الشروط فرض سيطرة الدولة اللبنانية على جميع الموانىء والمطارات والمعابر الحدودية.. وهو شرط من الصعب للغاية المجادلة فيه، بالرغم مما سيسببه من تضييق على التبادل التجارى بين سوريا ولبنان وفقاً لنظم العقوبات الأمريكية - ومن خسائر اقتصادية للبنان أيضاً.

شروط السياسيين.. ومشانق المتظاهرين

واللافت للنظر أن هذه الشروط بصفة عامة تكررت فى تصريحات لمسئولين غربيين كثيرين..كما أنها كانت تمثل - وإن يكن بصياغات شعبية - الهتافات التى رفعتها المظاهرات العنيفة التى شهدتها بيروت بدءاً من نفس أمسية الانفجار.. فقد تحركت مظاهرات أنصار الأحزاب الموالية لفرنسا والغرب والمعادية تقليدياً للسلطات اللبنانية - برغم وجود ممثليها فى هيئات وأجهزة السلطة! - مثل حزب القوات اللبنانية «بقيادة سيمير جعجع، وحزب الكتائب بقيادة سامى الجميل، والحزب الاشتراكى بقيادة وليد جنبلاط - وغيرها من الأحزاب، ذات نفس التوجهات، وهى ترفع الشعارات المنادية بإسقاط الحكومة ورئيس الجمهورية والبرلمان وكل الطبقة السياسية مستعيدة شعار مظاهرات أكتوبر 2019» «كلن يعنى كلن».. والجديد أن هذه المظاهرات علاوة على عنفها واشتباكها برجال الأمن، وإضرام النار فى بعض المركبات - حملت معها مشانق رمزية، مطالبة بشنق عدد من الرموز السياسية فى مقدمتها حسن نصر الله زعيم حزب الله، ونبيه برى.. زعيم حركة «أمل» ورئيس مجلس النواب، والرئيس عون!!.

لكن الملحوظ أن المطالبة بإسقاط - أو حتى شنق - رموز الطبقة السياسية لم تتطرق إلى أسماء جعجع أو جنبلاط أو الجميل أو غيرهم من رموز تحالف (14 آذار) كما أن تحميل حكومة حسان دياب (القائمة منذ ديسمبر 2015) لم يشر بأى مسئولية إلى حكومة سعد الحريرى، التى ظلت شحنة «نيترات الأمونيوم» موجودة فى الميناء منذ عام 2014، فى ظل حكمها.. بل إن سعد الحريرى يظل الآن، الاسم الأكثر حظاً فى الترشيح لتشكيل حكومة جديدة.

واضطرت حكومة حسان دياب للاستقالة، تحت ضغط المتظاهرين وكلفها الرئيس عون بتسيير الأعمال حتى يتم تشكيل حكومة جديدة.. بينما دعا جعجع وزملاؤه نواب البرلمان للاستقالة سعياً لإسقاطه.. واستقال بالفعل (6 نواب) ليس من بينهم واحد من حزب جعجع.. بينما تستمر المظاهرات فى المطالبة بإسقاط الرئىس عون.

بين المساءلة .. والفوضى

وهنا لابد من التوقف ملياً أمام المطالب بإسقاط النخبة السياسية - بما فيها رئىس الجمهورية - وإسقاط البرلمان من خلال استقالة أعضائه، أو حتى إجراء انتخابات مبكرة غير معد لها جيداً، وبالطبع على أساس قانون الانتخابات الحالى (الطائفى).

الواقع أن تقويض مؤسسات الحكم دون وجود بدائل مقبولة، من شأنه تقويض سلطة (الدولة الوطنية) اللبنانية.. وهذا أمر بالغ الخطورة على الكيان اللبنانى كله.. وينطوى بكل بساطة على خطر اندلاع فوضى شاملة فى البلاد.. أو نشوب حرب أهلية.. فى بلد ينتشر فيه السلاح فى أيدى الجميع تقريباً.. ولديه تاريخ مرير مع الحرب الأهلية التى استمرت (15 عاماً - من 1975 - 1990) وسالت فيها أنهار من الدماء.

لقد رأينا كيف أن انتخاب برلمان جديد (2018).. استمرت الجهود المضنية من أجله عدة سنوات، كانت شرعية البرلمان القائم خلالها محل جدل عنيف، لأنه استمر بعد انتهاء مدته القانونية.. ورأينا كيف ظلت البلاد دون رئىس لعدة سنوات حتى تم انتخاب الرئيس عون.. مما كان له أبلغ الأثر فى سيطرة حالة من الشلل السياسى.. ثم كيف يمثل تشكيل حكومة جديدة معضلة شديدة التعقيد بسبب مناورات الساسة والتكتلات الحزبية، وحدث هذا مع الحريرى، وتكرر مع حسان دياب.

ويرجع هذا إلى التوازنات بالغة الدقة والهشاشة بين القوى السياسية والطوائف، فى ظل نظام المحاصصة الطائفية، وإلى المناورات الحزبية المعقدة والاتفاقات (تحت الطاولة) وفى الكواليس، وتبادل المنافع والرشاوى.. لكنه يرجع أيضاً إلى توازنات فعلية للقوى بين هذه الأحزاب والطوائف.. وارتباطاتها الإقليمية والدولية، وصراعات القوى الإقليمية والدولية على أرض لبنان.

وبالتالى، وبالرغم من فساد هذا النظام، فإن هدمه دفعة واحدة، دون إيجاد بدائل مقبولة من أهم أطرافه على الأقل يعنى تدمير الدولة الوطنية، والقفز إلى الفوضى والحرب الأهلية.. وهو أمر لن تقتصر عواقبه الوخيمة على لبنان وحده. فمن شأن نشوب حرب أهلية بين الشيعة مثلاً من ناحية (وهم الآن أكبر الطوائف عدداً على الأغلب) وبين السنة والموارنة من ناحية أخرى، أن يزيد من حدة الاستقطاب المذهبى فى المنطقة، وأن تكون له انعكاساته بالغة الخطورة فى العراق ومنطقة الخليج.

ومن ناحية أخرى فإن إسرائيل تتربص بلبنان إستمرار.. وتتلمظ على جنوبه الغنى بالمياه وبالأراضى الخصبة.. وفى الفترة الأخيرة تتلمظ على مياهه الإقليمية الغنية بالغاز، وخاصة المنطقة البحرية المجاورة لها، المعروفة باسم (المربع رقم 5).. وسيمثل هذا انتهاكاً بالغ الخطورة للأمن القومى اللبنانى والعربى ولسيادة لبنان ووحدة أراضيه..وهو ما يمنعه حالياً وجود حزب الله فى الجنوب اللبنانى.

ومن ناحية أخرى فإن تركيا لها موطئ قدم فى منطقة طرابلس (شمالى لبنان) حيث توجد جماعات سنية متشددة قريبة من «القاعدة» وغيرها من الجماعات الإرهابية.. وفى ظل نشوب الفوضى فى لبنان، وجنون إردوغان الامبراطورى فليس من المستبعد أن تتدخل تركيا فى الشمال.

لذلك فإنه بالرغم من بريق شعارات مثل الإطاحة الشاملة بالبنية الفاسدة «والبناء على نظافة»..إلا أن الواقع يختلف كثيراً عن الأمنيات والشعارات غير المسئولة.

وليس معنى هذا أن التغيير مستحيل.. لكنه يجب أن يكون تدريجياً ومرتبطاً بحقائق الواقع.. وعلى سبيل المثال فإن حدثاً ضخماً كانفجار ميناء بيروت يمكن - ويجب - أن يكون مقدمة لفرض سيادة الدولة - ممثلة فى الجيش بالذات - على جميع منافذ البلاد.. ويمكن استثمار الضغط الدولى الكبير لتحقيق هدف مثل هذا.

وعلى سبيل المثال كذلك فإن التحقيق فى كارثة الميناء قد تم تدويله فعلاً بدخول فريق من المحققين الفرنسيين إلى جانب المحققين اللبنانيين.. ويمكن أن تنضم إليهم فرق أخرى من الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن (بما فيها روسيا والصين) لمنع (لفلفة) التحقيق.. أو تسييسه على الهوى الغربى.. وبناء على نتيجة هذا التحقيق اللبنانى - الدولى تتم محاكمة المسئولين.. علماً بأن المضى فى التحقيق إلى نهايته يمكن مثلاً أن يسفر عن اكتشاف (وإثبات) تورط إسرائيل فى الجريمة.

كما يمكن ترشيح شخصية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة كالقاضى الدولى (نواف سلام) لتشكيل الحكومة الجديدة، واختيار أسماء من غير الصفوف الأولى من الحزبيين وأعضاء النخبة القديمة الفاسدة، وتقديم دعم عربى ودولى جدى له، مع استبعاد جميع الأسماء القديمة.. مما يفتح الباب لحكومة أكثر كفاءة ونزاهة من الحكومات المألوفة فى لبنان.

وفى جميع الأحوال يجب ممارسة ضغوط دولية وإقليمية على مجلس النواب، ليعمل على وضع قانون انتخابى جديد أفضل تمثيلاً للشعب اللبنانى من القانون الطائفى الحالى - وفى هذه الحالة يمكن إجراء انتخابات نيابية مبكرة.. بينما إجراء انتخابات مبكرة على أساس القانون الحالى، لن ينتج إلا نسخة أخرى من مجلس النواب الموجود حالياً.

وهناك بالطبع إجراءات أخرى ممكنة التطبيق مثل منع أى مظهر للتسلح خارج حدود الجنوب اللبنانى، وإشاعة اللامركزية بانتخاب مجالس محلية لتمثيل مختلف فئات السكان وتطوير المناطق، وإلغاء الطائفية تدريجياً فى الوظائف الحكومية ونزع الطائفية عن التعليم، وتعزيز أجهزة الأمن تدريجياً فى المناطق.. إلخ.. وكلها إجراءات طويلة المدى لكنها أكثر أمناً وفائدة وقدرة على الإزاحة التدريجية للنخبة الفاسدة الحالية.. وبديهى أن تقديم جرعة مساعدات دولية عاجلة وسخية لإعادة إعمار لبنان، مع ضمانات قوية لعدم نهبها، يظل مطلباً ملحاً لنزع فتيل التوتر الاجتماعى بسبب التدهور الكبير للأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتدنى الخدمات.

وأخيراً وليس آخراً فإن المخاطر ستظل محيطة بلبنان بسبب الأوضاع والصراعات الإقليمية وانعكاساتها عليه، ومحاولات التدخل فى شئونه.. لكن دولة لبنان قوية، ذات جيش متماسك وبعيد عن الطائفية، واقتصاد مزدهر ستظل أقدر بكثير على الدفاع عن الكيان اللبنانى المعقد والفريد، من دولة خاضعة للحصار والتدخلات الخارجية من كل اتجاه.. وإلا فسيكون علينا أن ننتظر انفجاراً لبنانياً شاملاً أكبر بأضعاف مضاعفة من انفجار ميناء بيروت وستدفع المنطقة كلها ثمنه .. لا قدر الله.

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE