الأموال
الجمعة، 19 أبريل 2024 03:36 صـ
  • hdb
10 شوال 1445
19 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

أسامة أيوب يكتب : قراءة ما جرى ويجرى في المشهد الأمريكى المشتعل

الأموال

مثلما سيكون العالم بعد كورونا غير العالم قبل كورونا، فمن المؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون كما كانت قبل اندلاع المظاهرات والاحتجاجات وأحداث العنف التى فجرها مقتل الرجل الأسود جورج فلويد على يد ضابط شرطة عنصرى في مدينة «مينابوليس» بولاية مينيسوتا قبل أكثر من أسبوع.

ومع كل التحليلات والتفسيرات لما جرى، فإن الأمر المؤكد هو أن جريمة القتل وما تبعها من رد فعل عنيف من جانب المتطاهرين ومن قمع من جانب الشرطة، فقد كشفت الغطاء عن تجذر العنصرية ضد السود بل ضد كل الملونين في المجتمع الأمريكى، ثم إنها فجرت وأججت مشاعر المظلومية لدى الأمريكيين من أصول افريقية على وجه الخصوص، والذين مازالوا يعاملوا كمواطنين من الدرجة الثانية، وعلي النحو الذى يؤكد أن أمريكا لاتزال أمريكتين، «أمريكا البيضاء» و«أمريكا البنية» التى تضم السود وبقية الملونين، وتلك هى حقيقة الأزمة المدفونة التي لاتزال تعيشها أمريكا رغم مضى عقود طويلة من التمييز العنصرى والفصل العنصرى، وحيث بدا أن ذلك التمييز قد انتهى بينما الحقيقة أنه توارى فقط ولكنه بقىَّ في العمق الاجتماعى والسياسى الأمريكى.

‫< ‫< ‫<

لذا فإن مشاعر الغضب والمظلومية المكبوتة لدى الأمريكيين السود والتى فجرها حادث مقتل الشاب الأسود على يد الشرطى العنصرى والذى وصفته نانسى بيلوسى رئيس مجلس النواب بأنه جريمة قتل وإعدام، ثم رد فعل الشرطة العنيف في مواجهة المظاهرات.. قد عكسا تلك الأزمة داخل أمريكا التي تأسست على العنصرية مع جلب الأفارقة للعمل بالسُخرة في تلك القارة الجديدة ومعاملتهم كعبيد.

‫< ‫< ‫<

وإذا كانت أمريكا قد شهدت تحولات لتقليص العنصرية في سعى حضارى إنسانى ولو ظاهريًا عبر عقود طويلة بداية من تحرير العبيد، ثم في أواخر ستينيات القرن الماضى بعد نضال طويل وكبير خاضه وقاده الزعيم الأسود مارتن لوثر كنج والذى قاد أكبر احتجاجات سلمية مناهضة للتمييز العنصرى البغيض في تلك الفترة والتى انتهت باغتياله على أيدى متطرفين عنصريين وحيث لايزال خطابه الشهير «لدىّ حلم» من أهم أدبيات السياسة في «أمريكا السوداء».

‫.. إلا أن ممارسات التمييز العنصرى ضد السود وقسوة الشرطة لاتزال متجذرة وإن بدت متوارية لكنها تتبدى فى أوضح صورها ومظاهرها بين الحين والآخر حسبما كشفت جريمة مقتل الشاب الأسود مؤخرًا.

‫< ‫< ‫<

وفى هذا السياق يمكن القول أن «أمريكا البيضاء بعقيدتها العنصرية والتي داهمها وصول رئيس أسود «أوباما» إلى البيت الأبيض في سابقة سياسية في التاريخ الأمريكى.. لن تسمح مرة أخرى بتكرار ذلك، حتى وإن بدت حالة أوباما مظهرًا من مظاهر الحرية والديمقراطية والمساواة المزعومة في أمريكا العنصرية، رغم أن وصوله إلى منصب الرئاسة كان علي خلفية سياسية حزبية بوصفه مرشح الحزب الديمقراطى والذى يمثل السود جزءًا مهمًا وكبيرًا من قاعدته الشعبية، ولعل ترشيح الحزب له جاء لتأكيد انحيازه لهؤلاء السود وحقوقهم في المساواة ومن ثم ضمان استمرار تمتعه بدعمهم في المستقبل، وحيث بدا مسلك الحزب الديمقراطى بالغ الذكاء السياسى.

‫< ‫< ‫<

إن قراءة الأحداث الأخيرة فى أمريكا والتى أكدت تجذر العنصرية تستدعى عدة ملاحظات مهمة ولافتة، أولها تعاطى الشرطة فى بداية الأمر مع الحادث ومع الضابط القاتل وزملائه الذين كانوا برفقته وقت ارتكاب الجريمة، إذ اكتفت بإيقافهم عن العمل دون تقديمهم للمحاكمة وفقا للقانون وحقوق الإنسان الذين تتشدق بهما الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وحيث بدت عقوبة الإيقاف «إن كانت عقوبة» لا تتناسب مع الجريمة.

هذه الاستهانة بإزهاق روح مواطن أسود هى التى فجرت أعمال العنف والتخريب والحرائق والنهب التي مارسها المحتجون والتي بدت مبررة ومن الممكن تفهمها وتفهم دوافعها، فى مواجهة عنصرية الشرطة ووحشيتها إزاء السود، ولذا فقد جاءت صرخات شابة سوداء أمام الكاميرات لتبرير أعمال العنف والنهب بأن «أمريكا البيضاء» هى التي بدأت بنهب أهل أمريكا الأصليين.. تعبيرًا عن المظلومية التاريخية وتبريرًا سريعًا لأعمال النهب كمسلك عفوي سرعان ما توقف.

‫< ‫< ‫<

الملاحظة الأهم والأخطر فى المشهد الأمريكى طوال الأيام الفائتة منذ مقتل الشاب الأسود واندلاع المظاهرات والاحتجاجات هى تعاطى الرئيس ترامب مع جريمة القتل والمظاهرات، حيث بدا واضحًا أنه هو الذى أشعل الغضب والاحتجاجات منذ تغريدته الأولى والتى لم تتضمن أى إدانة لرجل الشرطة الأبيض القاتل، أو إشارة إلى تقديمه للمحاكمة، بل إنه وصف الحادث بأنه موت الشاب ولم يذكر كلمة قتل، وهو ما بدا أمام السود استخفافًا بحياة القتيل الذى جرى قتله عمدًا وبوحشية بينما بدا منحازًا بعنصرية للقاتل.

‫< ‫<

ثم إنه لم يتصرف كرئيس دولة وكرئيس لكل الأمريكيين أقسم على احترام الدستور والقانون واحترام حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، بل بدا عنصريًا معاديًا للمظاهرات السلمية حتى من قبل أعمال العنف خاصة عندما وصف المتظاهرين والمحتجين بـ«الحثالة».

بهذا العداء للتظاهرات السلمية وبنشره لقوات الحرس الوطنى وتحريضه على إطلاق الرصاص على المتظاهرين بدا ترامب كرئيس فاشي مستبد في دولة من الدول التى تحكمها أنظمة استبدادية وليس كرئيس لأمريكا.. بلد الحريات والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وفي هذا السياق جاء هجومه على حكام الولايات الذين اتهمهم بالتقاعس عن قمع المظاهرات السلمية ثم تهديده باستدعاء الجيش لقمعها حتى بعد توقف أعمال العنف والنهب والتخريب والتى كانت رد فعل عفويًا عقب مقتل الشاب الأسود وامتناع الشرطة عن محاكمة الضابط القاتل.

‫< ‫< ‫<

اللافت أيضًا أن ترامب في غيبة معهودة لديه للحكمة والحس السياسى ذهب بعيدًا في وصفه للمظاهرات المبررة فى مواجهة عنصرية الشرطة بأنها إرهاب داخلى.. ممول من الداخل والخارج وكأن أمريكا باتت مخترقة بأجندات خارجية مثلها مثل الدول الصغيرة.

‫< ‫< ‫<

بل إنه وفى اختزال مخلّ للأزمة وفى التفاف بالغ الحمق السياسى اتهم منظمة أنيفيتا اليسارية والمناهضة للرأسمالية المتوحشة في أمريكا بأنها وراء تلك المظاهرات ومن ثم فقد قرر إدراجها ضمن التنظيمات الإرهابية، وهو القرار الذى لا يملك دستوريًا إصداره منفردًا مما يؤكد تخبطه فى إدارة الأزمة.

‫< ‫< ‫<

إن تعاطى ترامب مع تلك الأحداث أكد المؤكد وهو أنه أسوأ رئيس في التاريخ الأمريكى بافتقاده للقدرة السياسية بل للقدرة الذهنية والعقلية للتصرف كرئيس دولة بل كرئيس أكبر دولة في العالم حتى صار جزءا من المشكلة وليس جزءًا من الحل على حد تعبير منافسه فى الانتخابات القادمة جون بايدن مرشح الحزب الديمقراطى.

‫< ‫< ‫<

إن الخطأ الأكبر الذى ارتكبه ترامب هو إدارته للأزمة على هذا النحو العنصرى بدوافع حزبية في أجواء انتخابية رئاسية مقرر إجراؤها فى شهر نوفمبر المقبل، وذلك باتهامه لحكام الولايات من الحزب الديمقراطى بالتقاعس عن قمع المظاهرات للتأثير على الانتخابات لصالح جون بايدن والذى تتزايد فرصه فى الفوز خاصة بعد الأحداث الأخيرة ومواقف ترامب منها ومن قبلها الاتهام الذى يلاحقه بالفشل فى إدارة أزمة تفشي وباء كورونا وحيث تجاوزت حالات الإصابة أكثر من مليون مصاب وحالات الوفاة نحو مائة ألف، وهو الفشل الذى أسفر عن أكبر أزمة اقتصادية تواجه أمريكا، وحيث فقد نحو ٢٤٠ مليون أمريكا وظائفهم جراء تفشى الوباء.

ولذا فإن هاجس خسارته فى الانتخابات المقبلة هو الذى يتحكم فى كل قراراته ومن ثم فإنه يراهن على إدانته للمظاهرات وقمعها اعتمادًا علي دعم قاعدته الشعبية اليمينية المتطرفة، بينما لم يستطع التصرف بتوازن سياسى يضمن له الحصول على دعم الناخبين المستقلين غير المؤيدين للحزب الديمقراطى أو لحزبه الجمهورى.

‫< ‫< ‫<

واقع الأمر.. لقد بدت تلك المظاهرات والاحتجاجات الواسعة التى امتدت لأكثر من ١٥ ولاية كما لو كانت بحسب وصف مراقبين ثورة ربيع أمريكى على غرار ثورات الربيع العربى.. قد بل سوف تسفر على الأرجح عن تغيير كبير فى النظام السياسى الأمريكى خاصة أن المظاهرات الأخيرة ضد العنصرية لم تكن مقصورة على السود فقط بل انضم إليها الكثير من الشباب الأمريكيين البيض، فى نفس الوقت الذى شهدت فيه مدن أوروبية مظاهرات مماثلة ضد العنصرية الأمريكية.

‫< ‫< ‫<

وفي نفس الوقت فإن خطاب ترامب التحريضى والعدائى والعنصرى أحدث انقسامًا حادًا في المجتمع الأمريكى وعلى النحو الذى يهدد بحرب أهلية بين مكونات الشعب الأمريكى ولو بآليات مختلفة عن الحروب الأهلية التقليدية الأخرى.

‫< ‫< ‫<

اللافت أيضًا هو أن ترامب بتعاطيه العنصرى مع المظاهرات لايزال ماضيًا قدمًا ـ حتى كتابة هذه السطور ـ في تأجيج مشاعر الغضب، حتى بعد مشهد ترجلّه خارج البيت الأبيض وسط حراسه ومساعديه ووقوفه أمام الكنيسة المجاورة والتى جرى العُرف على أن يقوم الرئيس المنتخب بالصلاة فيها قبل ممارسة مهام منصبه.. ممسكًا بالكتاب المقدس بين يديه.. متحدثًا بلغة خطاب استفزازى واستعلائى لم يفلح في تهدئة غضب المحتجين بقدر ما رفع وتيرة الغضب.

‫< ‫<<

ثم إن ثمة ملاحظة أخرى لافتة تتعلق بـ«شو» ادخال ترامب إلى مخبأ سرى للطوارئ أسفل البيت الأبيض لمدة ساعة كإجراء احترازى في مواجهة خطر محتمل بعد وصول المظاهرات واندلاع الحرائق علي مشارف البيت الأبيض، وهو إجراء مخالف للأعراف الأمريكية المتبعة والتى تقتضى فى حالات الخطر أن يتم إخفاء نائب الرئيس وليس الرئيس باعتبار أن بقاء النائب بعيدًا عن خطر محتمل ضمانة سياسية لاستقرار الدولة في حالة تعرض الرئيس ذاته للخطر، وذلك ما حدث في أحداث ١١ سبتمبر حيث تم إخفاء ديك تشينى نائب الرئيس جورج بوش الابن.

‫< ‫<<

ولعل أبلغ تعليق على تعاطى ترامب مع الأزمة هو ما جاء في خطاب جون بايدن المرشح الديمقراطى في الانتخابات الرئاسية المقبلة أمام مؤتمر انتخابى حين أكد «أن أمريكا أمة ذات قيم وحرية التعبير محفوظة، ولن نسمح لأى رئيس بإسكات أصواتنا»، ثم حين وصف ترامب «بأنه تحدث كرئيس شرطة عنصرى وليس كرئيس دولة» ثم حين اتهمه بأنه يستخدم الجيش ضد الشعب.

أما تعليقه على الـ«شو» الذى أداه ترامب حين وقف أمام الكنيسة رافعًا الكتاب المقدس فقد جاء بالغ السخرية والإهانة، حيث قال «كنت أتمنى أن يفتح ترامب الانجيل حتى يتعلم معنى (أحبوا بعضكم البعض».

‫< ‫<<

بتلك الضربات القاسية التي وجهها بايدن لترامب وبذلك الذكاء السياسى فإنه رفع من شعبيته واكتسب تأييدًا واسعًا قد يمتد إلى صفوف المؤيدين للحزب الجمهورى فضلا عن تأييد الناخبين المستقلين عن الحزبين خاصة بعد تصريحه بالغ الدلالة بأن أمريكا فى حاجة ماسة إلى سن قوانين لإصلاح نظام الشرطة حتى تكون شرطة مجتمعية.

‫< ‫< ‫<

خلاصة القول هى أن ترامب وبعد أربع سنوات من رئاسته وبما شهدته من قرارات حمقاء وإدارة متخبطة وعداءات داخلية وخارجية.. بات مهددًا بخسارة الانتخابات المقبلة وحيث بدت فرصة بقائه فى البيت الأبيض لولاية رئاسية ثانية متراجعة بدرجة ملحوظة.

‫< ‫<<

وفى كل الأحوال فإن أمريكا بعد الأحداث الأخيرة ومع التعاطى العنصرى لترامب مع الاحتجاجات لن تكون ـ وكما أسلفت في بداية هذه السطور ـ كما كنت قبل تلك الأحداث.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE