الأموال
الجمعة، 19 أبريل 2024 12:21 صـ
  • hdb
9 شوال 1445
19 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : عالم ما بعد كورونا ..  بين التمنيات والوقائع

الأموال

الخسائر الهائلة التى أصابت الاقتصاد العالمى بسبب تفشى وباء كورونا ـ والتى لا تبدو لها نهاية قريبة ـ وخاصة تلك التي أصابت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وعجز تلك الدول في مواجهة الوباء الذى راح يحصد الأرواح بعشرات الآلاف.. وانكشاف عورات النظم الصحية في أغلب دول العالم المتقدمة والغنية.. والأنانية القومية السافرة التى تصرفت بها أغلب الدول الكبرى مع حلفائها الأكثر معاناة من الوباء.. وخاصة إيطاليا وإسبانيا.. والتي وصلت إلي حد السطو على المساعدات والصفقات التجارية من الكمامات والملابس الطبية الواقية وأجهزة التنفس الصناعى المرسلة إلي الدول الأكثر معاناة!! كلها تطورات لم تكن تخطر على بال أحد قبل شهور قليلة، وكشفت عن اختلالات وثغرات خطيرة فى النظام الدولى وتكتلاته وعلاقات أطرافه بعضها ببعض، وفي السياسات الاقتصادية والاجتماعية داخل الدول الكبرى وغيرها من الدول المتقدمة والغنية.

وفي المقابل برز نجاح الصين فى القضاء السريع علي الوباء في مدينة ووهان ومقاطعة هوبى ليبرهن على قوة الدولة الصينية وتقدمها العلمى والتكنولوجى وإدارتها الناجحة للأزمة، وقدرتها على حشد وتعبئة طاقاتها لإنجاز المهمة المطلوبة. كما أن الصين تمكنت بمرونة واضحة من تعديل خطوط الإنتاج الضرورية لإمداد عشرات الدول وفى مقدمتها الدول التى ضربها الوباء بقسوة أشد بوسائل الوقاية والعلاج اللازمة من ملابس طبية وكواشف حرارية وأجهزة تنفس صناعى وغيرها، الأمر الذى منح الصين نقاط قوة مهمة في منافستها على النفوذ مع الولايات المتحدة، وحقق لها مكانة أدبية متميزة، كما ساعد كثيرًا على تخفيف الغضب الذى شعر به الكثيرون تجاهها بسبب انطلاق الوباء من أرضها.

عالم مختلف

وأدي ذلك كله إلى انتشار مقولة بين الخبراء والمعلقين بصورة شبه إجماعية مفادها أن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفاً تماماً عن عالم ما قبل تفشي الوباء.. وأن العلاقات الدولية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية في العالم ـ وخاصة في الغرب قد ثبت أنها بحاجة إلى تغيير واسع وأن هذا التغيير لابد أن يحدث، وخصوصا فيما يتصل بدور الدولة في الاقتصاد وسياسات الرعاية الصحية والاجتماعية، كما يكاد الخبراء يجمعون علي أن نجاح الصين المبكر فى التعامل مع الأزمة في «ووهان» قد جنب البلاد الحاجة إلى انتهاج سياسة الحظر والإغلاق في بقية مناطقها، وبالتالى فإن خسائرها الاقتصادية النسجية والمطلقة ستكون أقل من خسائر الدول الكبرى الأخرى، وبناء على ذلك فإن اقتصادها سيستمر فى النمو، وإن يكن بنسبة أقل مما كان مقدرا له (٣٪ بدلا من ٦.٥٪)، بينما ستؤدى الخسائر المرتبطة بالوباء والحظر والإغلاق باقتصادات الدول الصناعية الكبري (وغيرها من دول العالم) إلى انكماش اقتصادى، ونسبة نمو بالسالب، تتفاوت من بلد إلى آخر، لكنها ستشمل جميع الدول الصناعية الكبرى.. ونتيجة لذلك فإن الوزن النسبى للاقتصاد الصينى فى الاقتصاد العالمى سيتعزز، وتتعزز قدراتها التنافسية المتفوقة أصلا.

وبناء على ذلك كله يرشح كثير من الخبراء الصين ليس لأن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم - متفوقة على الولايات المتحدة ـ فحسب.. بل ولأن تصبح القوة العظمى الأولى والمهيمنة في العالم.

<< وهنا نختلف مع هؤلاء الخبراء.

التفكير بالتمنى wishful thinkingخطأ جسيم

نعم.. نقول مباشرة إننا نختلف مع الخبراء والكتاب الذين يعتقدون أن الصين ستصبح القوة العظمى الأولى في العالم في المدى القريب، حتى وإن تمكنت من أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى خلال سنوات قليلة.. وهذا فى حد ذاته ليس أمرًا مفروغًا منه أو مقطوعًا به حتمًا بالرغم من الميزات الهائلة التى يمتلكها الاقتصاد الصينى، وإن كان فرضية مقبولة.

ويرجع ذلك في تقديرنا للاعتبارات التالية:

أولا: أن معركة كورونا لم تنته بعد، وقد تستمر طويلا.. فهناك عدم يقين واسع النطاق بخصوص إمكانية تحور الفيروس، وإمكانية حدوث موجات أخرى من الوباء.. وحول الأدوية المستخدمة حاليًا ومدى نجاعتها وآثارها الجانبية.. واحتمال التوصل إلى صنع لقاح قريبا من عدمه.. إلخ.. وبالرغم من النجاح المشهود الذى حققته الصين فى مواجهة الوباء في «ووهان» ومقاطعة «هوبى» فلا يعرف أحد بدقة ـ ومن الصعب التنبؤ بذلك ـ إمكانية تجدد العدوى أو انتشارها فى الصين ذاتها.. وهناك تقارير من الحكومة الصينية تشير إلى انتشار محدود هنا أو هناك، أو ظهور مرضى جدد.. إلخ.. لكننا نعرف أن مسألة الشفافية فى الصين ليست على خير ما يرام، وقد أضافت مؤخرًا أكثر من ألف حالة وفاة في الأرقام التى سبق إعلانها بخصوص «ووهان»، وبديهى أنه إذا كان قد تم احتواء الوباء فى «ووهان» بأقل الخسائر، فإن المؤكد أن احتمال تكرار حالة الانتشار في أى منطقة أخرى سيكون مكلفًا جدًا ونحن حينما نتحدث عن «أقل الخسائر» نعنى بالتحديد الخسائر البشرية أساسًا، لأن إغلاق مقاطعة مثل «هوبى» بمصانعها ومؤسساتها.. إلخ وحظر التجوال بين سكانها (٦٠ مليون نسمة.. أى مثل عدد سكان إيطاليا) من المؤكد أنه تم بتكلفة باهظة.

وبديهى أننا لا نتمنى للصين أى سوء.. ولكن إذا حدث ـ فرضًا ـ تكرار لهذه الحالة، فإن خبرة (هوبى) ستساعد على احتوائها بسهولة أكبر مما في الدول الأخرى، لكن التكلفة ستكون باهظة على الاقتصاد الصينى، وستعنى المزيد من انخفاض نسبة النمو المقدرة الآن (٣٪).

ثانيا: ومن ناحية أخرى فإن الاعتماد المتبادل- الذى أوضحت تجربة الفترة الماضية مدى عمقه - بين مختلف فروع الاقتصاد العالمى ومختلف البلدان، وسلاسل الإنتاج شديدة الترابط بين مختلف الصناعات والبلدان، ستشمل تأثيراتها الاقتصاد الصينى أيضًا.. فضلا عن أن الانكماش المتوقع فى اقتصادات الدول الأخرى سيؤثر بالضرورة على تجارة الصين الدولية وقدرتها التصديرية، وبالتالى على قدراتها الإنتاجية.

ثالثا: إن المساعدات الصينية والمكانة الأدبية وغيرها مما أشرنا إليه، يتضح تأثيرها لدى الجماهير والدول الصغيرة أساسًا.. لكننا نعتقد أن صانعى القرار السياسى والاقتصادى في العالم الغربى ـ الذين يشعرون بالرعب من تنامى قوة الصين ـ سيحاولون تعزيز التبادل التجارى فيما بينهم بدرجة أكبر.. وستساعد القروض وحزم المساعدات ـ الجارى إعدادها ـ على هذا فى أوروبا، وفيما بينها وبين أمريكا التى تتصاعد عدوانيتها تجاه الصين.. بل إن المرشح الديمقراطى (بايدن) يتهم ترامب بالتخاذل فى مواجهة الصين.. وألمانيا تطالب بكين بتعويضات من الخسائر بسبب عدم شفافيتها، مثلما تفعل واشنطن، وفى المجمل تعتقد أن الغرب سيحاول التكتل بدرجة أكبر تجاه الصين والتجارة معها ــ ولن يكون هذا عنصرًا مواتيًا للصين من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.

عناصر القوة الباقية

رابعا: بالرغم من الخسائر الاقتصادية الضخمة، فإن الاقتصادات الغربية هى أيضا اقتصادات ضخمة، وخاصة الاقتصادات الأمريكية والألمانىة واليابانية، فضلا عن الاقتصادين الفرنسى والبريطانى، ومعروف أن الاقتصاد الأمريكى بالذات، وبحكم أن الدولار لايزال عملة التبادل التجارى الأولى فى العالم، وسيظل كذلك لفترة طويلة، سيكون قادرًا على تصدير خسائره إلى دول العالم الأخرى وخاصة الدول النامية وشعوبها.

ويقارن الخبراء بين خسائر الأزمة المالية وبين الكساد الكبير (١٩٢٩) ولكن علينا أن نتذكر أن الاقتصادات الغربية قد تمكنت فى نهاية المطاف من تجاوز هذا الكساد الكبير. أو العظيم..

وعلاوة على ذلك فإن الدول الغربية الكبرى، وفى مقدمتها أمريكا تملك الكثير من عناصر القوة السياسية والعسكرية.. وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك في سلسلة مقالات عن المتغيرات الاستراتيجية في العالم، خلاصتها أن الولايات المتحدة ستظل القوة العظمى عالميا لعقدين أو ثلاثة عقود قادمة إن لم يكن أكثر.. لكن قوتها تتآكل تدريجيا وستتآكل بصورة أكبر لصالح الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها من الدول الصاعدة، وهو رأى لانزال نتمسك به.

زعامة العالم.. مسألة أخرى

خامسا: الواقع أن الصين حتى حينما تتمكن من احتلال مكانة القوة الاقتصادية الأولى في العالم، فإن هذا لا يعنى أنها ستصبح القوة العظمى الأولى.. ونقول ذلك بالرغم من قوتها العسكرية المتنامية بسرعة، لأن نفوذ الصين السياسي متواضع إلى حد كبير على المستوى الدولى، سواء فى المنظمات الدولية القائمة (كالأمم المتحدة ووكالاتها ومنظماتها الفرعية)، أو على مستوى العلاقات الدولية الثنائية والتكتلات الإقليمية والدولية، كما أن نفوذها العسكرى (بالرغم من امتلاكها مؤخراً لقوة الردع) ذو طابع إقليمى أساسًا وقدرتها على التدخل لفرض مصالحها ومحدودة بهذا الطابع الإقليمى. ويرجع ذلك إلى حداثة تعاظم قوتها الاقتصادية والعسكرية من ناحية، وإلى انكفائها على بناء هذه القوة ومحدودية علاقاتها الدولية السياسية والعسكرية من ناحية أخرى، وإلى العنف الواضح لقوتها الناعمة من ناحية ثالثة، فالصين ليس لديها تأثير ثقافى في العالم، ويكفى أن نذكر أن لغتها محدودة الانتشار خارج حدودها بصورة شديدة الوضوح، والصينيون هم الذين يلجأون إلى دراسة اللغات الأخرى - بصفة أساسية - لتسهيل عمليات التبادل التجارى والاستثمار.. وليس هناك إنتاج ثقافي وفكرى وفنى صيني ذو وزن تهتم الشعوب الأخرى بدراسته.. وباختصار فليس هناك ما يمكن تسميته بـ«النموذج الصينى».. وبالرغم من التقدم التكنولوجى المذهل، فإن هذا العنصر لا يكفي إطلاقًا لتغطية هذا النقص الكبير.. وبالغ الأهمية.

أما العنصر الذى لا ينتبه إليه معظم الخبراء سواء الاقتصاديون أو الاستراتيجيون في حديثهم عن تقدم الصين وقدراتها التنافسية.. إلخ، فهو حقيقة أنها تظل بلدًا أقرب إلى الفقر إذا ما قورنت بالدول الصناعية الغربية، فناتجها المحلى الإجمالى يضعها فى مصاف الدول متوسطة الدخل (حوالى ١٤ تريليون دولار).. مقابل عدد سكان يبلغ (١٤٠٠ مليون نسمة) بواقع حوالى (١٠ آلاف دولار) للفرد سنويا.. وذلك مقابل (٢١ تريليون دولار) للولايات المتحدة الأمريكية، لسكان يبلغ عددهم ٣٣٠ مليون نسمة - أى أكثر من ٦٠ ألف دولار للفرد سنويا، وما يتراوح بين (٤٠ ألف دولار و٥٠ ألف دولار) في الدول الصناعية الغربية الكبرى.. وهذه حقيقة لا ينبغى تجاهلها أبدًا.

وبناء على ذلك كله يمكن القول بأن تعاظم قوة الصين يؤهلها لفرض عالم متعدد الأقطاب تلعب فيه هى وروسيا دورا متعاظما إلى جانب الولايات المتحدة وتجمعاتها من الهيمنة على العالم، وتفرضان أوضاعًا أكثر توازنًا، الأمر الذى يتيح للدول الأخرى الصغيرة والمتوسطة مجالا أوسع للمناورة وخيارات استراتيجية أوسع وأكثر تنوعا، أما بلوغ الصين مكانة الزعامة العالمية، فيظل أمرًا مستبعدًا على الأقل خلال العقدين أو الثلاثة عقود القادمة، أو إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولاً.

والحقيقة أن عدوانية الولايات المتحدة وأنانيتها الشرسة فى التعامل مع حلفائها والدول التى تعتمد عليها، تجعل أبناء تلك الدول يتمنون أن تضعف الولايات المتحدة وأن تتراجع مكانتها.. لكن ما ينبغى إدراكه هو أن أى دولة تنفرد بزعامة العالم ستلجأ إلى فرض مصالحها بالقوة.. سواء كانت عسكرية أو اقتصادية.. سواء كانت أمريكا أو الصين أو غيرها.. وهذه هى حقائق العلاقات الدولية علي مدى التاريخ.. ولا عزاء للضعفاء.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE