الأموال
السبت، 20 أبريل 2024 01:06 مـ
  • hdb
11 شوال 1445
20 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : ٢٠١٠ - ٢٠١٩.. تحولات استراتيجية في النظام العالمي (٤)

الأموال

روسيا.. من «الغيبوبة التاريخية» إلى «عودة الوعي»

الانتقال إلى اقتصاد السوق.. أم نهب ممتلكات الدولة لمصلحة عصابة؟

التحالف بين الغرب واللوبي الصهيوني لتدمير دولة عظمى

١٩٩١ ــ ٢٠٠٠ .. عشر سنوات ضائعة من عمر الاقتصاد الروسي

ذكرنا في الجزء الأول من مقالنا (الأموال ـ ٣ فبراير ٢٠٢٠) أن روسيا قد استطاعت خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أن تستعيد مكانة القوة العظمي في النظام الدولي المعاصر، لتصبح هي والصين قطبين جديدين، أنهيا الهيمنة الأمريكية على العالم، ووضع أحادية القطبية الذي تمتعت به الولايات المتحدة منذ تصدع الاتحاد السوفيتي ثم انهياره (١٩٩١) بعد أن كان قد انهار حلف وارسو، الذي جمع دول أوروبا الشرقية (الاشتراكية) تحت قيادة موسكو.

وإذا كانت الصين قد أصبحت قوة عظمي بفضل تقدمها الاقتصادي والعلمي والعسكري الكبير (كما أوضحنا في الجزءين الثاني والثالث من هذا المقال ـ الأموال ٩ - ١٦ فبراير ٢٠٢٠)، فإن روسيا قد استعادت وضع القوة العظمي بفضل استعادتها لعناصر القوة العسكرية (السوفيتية) وتمكنها من تحقيق تفوق نوعي في بعض مجالات التسلح النووي والصاروخي (كالصواريخ فائقة السرعة hypersenic والشبحية والغواصات الاستراتيجية النووية الشبحية المسيَّرة عن بُعد بدون وجود عنصر بشري على متنها، وهي مجالات تسبق فيها روسيا بما يحقق «الردع» بنفقات أقل، لا تنهك الاقتصاد مثل الترسانات النووية والصاروخية الضخمة من الأجيال القديمة، التي أنهكت الاقتصاد السوفيتي في حينه.

وشهد العقد الثاني من القرن الـ٢١ عودة روسية قوية إلى المسرح العالمي واستعادتها للكثير من ملامح النفوذ الدولي «السوفيتي» ومجالاته.. كما شهد نجاح روسيا في وقف تقدم حلف «الناتو» للسيطرة على بلاد جديدة مجاورة لحدودها بهدف حصارها وإضعافها تمهيدًا لإسقاط الدولة الروسية أو تحويلها إلى دولة من الدرجة الثانية، تابعة للغرب وخاضعة له.

وكانت الخطوة الأولي في هذا الاتجاه على مشارف هذا العقد (٢٠٠٨) حينما تمكنت موسكو من إحباط خطة ضم دولة «جورجيا» السوفيتية السابقة إلى «الناتو».. وهي دولة تقع على الشاطئ الشرقي من البحر الأسود، نافذة روسيا على المياه الدافئة.. حيث كانت واشنطن قد حرَّضت الرئيس الجورجي ـ الحامل للجنسية الأمريكية ـ على استفزاز روسيا عسكريًا في مناطقها الحدودية المشتركة، غير أن الكرملين تصرف بصورة حاسمة ومفاجئة عكست ملامح أسلوب بوتين للمرة الأولى على المستوى الدولي (الأسلوب الحاسم والسريع المرتبط بتعبئة ضخمة للقوة في اتجاه الهدف) وتمكنت من احتلال حوالي نصف جورجيا، ردا على الاستفزاز ثم انسحبت بعد أن سلخت منطقتين متمتعتين بالحكم الذاتي يمثل الروس والمرتبطون بروسيا أغلبية بين سكانهما، وتمثلان امتدادًا جغرافيًا لروسيا (أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا)، حيث أعلن ممثلو السكان استقلال (الجمهوريتين) عن جورجيا وتشكيل كيانين سياسيين متحالفين مع روسيا، وكان «تحالف» أبخازيا بالذات مع موسكو يتسم بأهمية استراتيجية، لأنه كان يعني توسيع نافذة روسيا على البحر الأسود بدرجة كبيرة، ونظرًا لأن التحرك الروسي كان مفاجئًا في سرعته وقوته، فإن الدول الغربية الكبري ريثما بدأت تتحرك، كانت عملية الاستقلال والانتخابات والتحالف قد تمت، وقُضي الأمر!! وبدلا من أن تصبح جورجيا قاعدة «للناتو» وسعت روسيا نافذتها على البحر الأسود.. حلم الإمبراطورية الروسية منذ العهد القيصري.. وكان في هذا التحول رسالة قوية للدول (السوفيتية) المجاورة لروسيا، وللغرب على السواء.

>‫> وكانت الخطوة الثانية الأكبر والأهم في إفشال خطط الناتو للتوسع شرقًا هي استعادة شبه جزيرة القرم ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة (وهي أرض روسية أصلا) ودعم الحركة الانفصالية في جنوب شرق أوكرانيا عام ٢٠١٤.. وكان للموقف الروسي في هذين التطورين وجاهته، على نحو ما سنوضح لاحقًا بصورة أكثر تفصيلا نظرًا لأهمية الموضوع وتشابكه مع قضايا أخرى مهمة.. وما يهمنا أن نذكره الآن هو أن روسيا لم تنجح في إفشال خطة «الناتو» للتوسع شرقا بضم أوكرانيا فحسب، بل حوَّلت أوكرانيا نفسها إلى دولة شبه فاشلة، تمثل عبئاً على الغرب أكثر بكثير مما تمثل تهديداً لروسيا!!

ومرة أخرى كان تكتيك التحرك السريع الحاسم القوي هو سمة التعامل الروسي مع الأزمة الأوكرانية، وقد أثبت هذا التكتيك نجاحه في أوكرانيا كما حدث مع جورجيا.

روسيا والغيبوبة التاريخية

الواقع أن كل التطورات التي تحدثنا عنها لم تكن لتحدث لولا المقدمات بالغة الأهمية التي سبقتها على مدي العقد الأول من هذا القرن.. وكان من الصعوبة بمكان عظيم تصور حدوث هذه التطورات، أو حتى بعض المقدمات التي سبقتها، خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وخلال حكم بوريس يلتسين لروسيا (يونيو ١٩٩١ ــ ديسمبر ١٩٩٩) وهي الفترة التي شهدت تدهوراً شاملاً للاقتصاد، ولمستوي معيشة الشعب، ولكل جوانب الحياة الروسية، ووضع البلاد على المستوي الدولي، ولذلك نسميها مرحلة «الغيبوبة التاريخية» لروسيا.

فتحت شعار «الانتقال إلى اقتصاد السوق» وفقا لتوصيات مؤسسات التمويل الغربية، جرت عملية خصخصة واسعة النطاق لأغلب المنشآت الاقتصادية، بما فيها أغلب المصانع الكبري، وشركات البترول، في إطار من الفساد السافر والشامل، وبأبخس الأسعار، ولصالح أشخاص لا علاقة لهم بالاقتصاد من قريب أو بعيد، وكل مؤهلاتهم هي القرب من رجال السلطة و(الطغمة/ أو الأوليجاركية) الحاكمة كما كان ـ ولايزال ـ الشعب الروسي يطلق على الأشخاص المحيطين بالرئيس والقريبين منه، وفقد ملايين من الناس أعمالهم، وتم إغلاق عديد من المصانع الكبري تمهيدًا لبيعها كأراض للبناء، كما تم رفع الدعم عن أسعار الكهرباء والمياه والغاز الطبيعي، والتدفئة المركزية للمنازل والمؤسسات وإيجارات المساكن المملوكة للدولة، بصورة عشوائية تمامًا، في إطار ما يسمى في الغرب «العلاج بالصدمة»!

وترتب على هذه الفوضي انهيار الإنتاج في مؤسسات صناعية كثيرة، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بصورة كبيرة (عدة نقاط مئوية) لعدة سنوات، ووفقا لبيانات صندوق النقد الدولي (بحساب القوة الشرائية PPP) تراجع الناتج المحلي الإجمالي لروسيا من (1.703 تريليون دولار) عام ١٩٩٠ إلى (1.592 تريليون دولار) عام ١٩٩١ ثم إلى (1.419 تريليون دولار) عام ١٩٩٣ ثم إلى (1.363 تريليون دولار) عام ١٩٩٤، ولم يعد إلى مستواه السابق على انهيار الاتحاد السوفيتي إلا عام ٢٠٠١ ــ أي بعد مرور عقد كامل ــ والأرقام وفقا لحساب االقوة الشرائية للدولار وحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي.

وانتشر الفساد والرشوة والجريمة المنظمة بمختلف أشكالها وكانت مئات المليارات من الدولارات المنهوبة من ثروات روسيا تتدفق إلى الخارج (٥٠٠ مليار دولار في أعوام التسعينيات)!! بينما الدولة عاجزة عن دفع مرتبات موظفيها أو تمويل الخدمات العامة الأساسية، ومضطرة للخضوع لأقسى الشروط من أجل قروض صغيرة!!

وسيطر الإرهاب والنزعة الانفصالية على جمهورية الشيشان، وبدأ ينتشر منها إلى الجمهوريات الصغيرة المتمتعة بالحُكم الذاتي في شمال القوقاز الروسي وبدا خطر التفكك يواجه الدولة النووية الثانية في العالم.. وأخذ السياسيون الغربيون يتحدثون صراحة عن ضرورة مساعدة روسيا في السيطرة على أسلحتها النووية!

وبينما كان الجواسيس الغربيون يسرحون ويمرحون في البلاد.. وكان حلف «الناتو» يتمدَّد في بلدان حلف وارسو السابقة في وسط وشرق أوروبا، ويقترب من الحدود الروسية، بدا يلتسين والمحيطون به خاضعين تمامًا للتبعية وللإدارة الأمريكية والغربية.

وكان بديهيًا أن تنعكس كل هذه الأوضاع بالسلب على القوات المسلحة الروسية، والتي عانت بشدة من نقص التمويل اللازم لصيانة وتحديث أسلحتها وشراء المعدات الضرورية الجديدة، بل ومدى انتظام دفع مرتبات ضباطها وأفرادها!! والأسوأ من ذلك أن عشرات الآلاف من الضباط العائدين من دول حلف وارسو ـ بعد تفكيكه ـ لم يكونوا يجدون الشقق اللازمة لإقامتهم هم وأسرهم!!

كما تدهورت الصناعات العسكرية الروسية بصورة ملحوظة بسبب النقص الحاد للتمويل والاستثمارات الجديدة.

>> بينما كانت ترتفع دعوات «الأطلسيين» ـ الاسم الذى كان يُطلق علي أنصار التبعية للغرب - وأعضاء اللوبي الصهيونى إلى تقليص الموازنة الدفاعية وأعداد القوات المسلحة واعتمادات الصناعات العسكرية، بالرغم من الأخطار الفادحة التي كانت تهدد الأمن القومى الروسى!!

دور اللوبي الصهيونى

ويجب أن نشير هنا إلى أن اللوبي الصهيونى كان له دور بارز في عملية التدمير الشامل التى طالت روسيا في تسعينيات القرن العشرين وكان زعماء هذا اللوبي من أقرب المقربين إلى الرئيس الروسي يلتسين، والقائمين على إدارة الشئون الاقتصادية والسياسية للبلاد، مع أن من بينهم أشخاصاً يحملون جنسية مزودجة (روسية ـ إسرائيلية) مثل فلاديمير جوسينسكى صاحب الإمبراطورية المالية والإعلامية الكبيرة، ورئيس المؤتمر اليهودى الروسى وبوريس بيريزوفسكى صاحب الإمبراطورية البترولية والإعلامية، ونائب رئيس المؤتمر القومى اليهودى وقد أصبح الاثنان من كبار المليارديرات خلال سنوات قليلة.. وهناك أيضًا ييجور جايدار أول رئيس للحكومة في «روسيا المستقلة» وأناتولى تشوبايس المسئول عن عملية الخصخصة الفاسدة والمشبوهة والذى كان الروس يسمونه «حاخام الخصخصة»!! وأندرية كوزيريف وزير الخارجية والمسئول عن تدهور علاقات روسيا بعديد من البلدان الصديقة لها تاريخياً.

ومن أبرز أنصار اللوبى الصهيونى (ولوبي الفساد عمومًا أو الطغمة) فلاديمير خودوركوفسكى صاحب شركة «يوكوس» العملاقة التي كانت حقولها تنتج ١.٥ مليون برميل يوميًا أى ما يعادل إنتاج دولة بترولية متوسطة!! والذى حلت نهايته حينما حاول بيع شركته ذات الأهمية الاستراتيجية لشركتى شيفرون وتكساكوموبيل الأمريكيتين.

وغنى عن الذّكر أن «اللوبي الصهيونى» لم يكن وحده المسئول عن الفساد والنهب وسياسات التبعية.. فيلتسين نفسه روسى وطغمة الفساد كانت تحالفاً يضم اليهود والروس المسيحيين والملحدين في تحالف يقوم على المصلحة، ومن ناحية أخرى فإن اليهود هم أحد مكونات المجتمع الروسى، وكانوا ـ ولايزالون ـ موجودين في كل المعسكرات السياسية والفكرية، بما فيها معسكر بوتين وفريقه، لهذا نحرص دائمًا على استخدام تعبير «اللوبى الصهيونى» وليس «اللوبي اليهودى» فيما يتصل بروسيا.

وقد عملت هذه الطغمة الفاسدة ـ بكل مكوناتها ـ على تدمير الاقتصاد الروسى تحت دعوى «العلاج بالصدمة» تارة و«الانتقال لاقتصاد السوق» تارة أخرى، وتحويل روسيا إلى بلد منهار اقتصاديًا، وسياسياً واجتماعياً وأخلاقياً.

تلك كانت حال روسيا فى العقد الأخير من القرن العشرين.. والتي لا نجد لها تسمية أدق من أنها كانت بلدًا فى «حالة غيبوبة تاريخية»، وكان استمرار هذه الأوضاع ضد أى منطق، وكان لابد من حل.

عودة الوعى

وجاء الحل علي يد نخبة من «رجال الدولة الروسية العميقة» في المخابرات والجيش ومؤسسات الصناعات العسكرية وأجهزة الأمن، ووزارة الخارجية وغيرها من مؤسسات الدولة الهامة، الذين كانوا غير راضين أصلا عن هدم الاتحاد السوفيتى في إطار مؤامرة كبرى قادتها أجهزة المخابرات الغربية بالتعاون مع عناصر داخلية، ودون أخذ رأى الشعب السوفيتى بعين الاعتبار، والذين بذلوا جهوداً ضخمة للحفاظ على كل ما يمكن الحفاظ عليه من مقومات الدولة الروسية، بعد إسقاط الاتحاد السوفيتى، والحقيقة أنه لولا هذه النخبة لكانت الدولة الروسية أيضًا قد تفككت وسقطت بالفعل.

وكان الحل هو عزل يلتسين من خلال (انقلاب قصر) هادئ والإطاحة بطغمته من «الأطلسيين» و«الصهاينة» وغيرهم من الفاسدين، ومجىء فلاديمير بوتين وفريقه إلى السلطة لتنفيذ هذه المهمة، ولتستعيد روسيا وعيها وقوتها لتصبح دولة عظمى من جديد..

وللحديث بقية

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE