الأموال
الجمعة، 26 أبريل 2024 02:33 صـ
  • hdb
16 شوال 1445
26 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د محمد فراج يكتب : الحديد والصلب قلعة صناعية وطنية يجب إنقاذها”3 , 3”

الأموال

تحدثنا فى الجزءين الأول والثانى من مقالنا عن عدد من أوجه الفساد المتجذر في شركة الحديد والصلب المصرية بحلوان، وعن فشل إدارى ذريع ومثير لأشد الارتياب في أن إدارة الشركة، والشركة القابضة للصناعات المعدنية المشرفة عليها تتعمدان (تخسير) الشركة تمهيدًا لتصفيتها.. وذكرنا أن نتيجة هذا الفساد والفشل الإدارى أدت إلى خسائر فادحة وديون بلغت أكثر من 5.37 مليار جنيه ـ (راجع الأموال، ١٥ و٢٢ ديسمبر٢٠١٩) مما جعل تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات يتحدث عن «شكوك جوهرية في إمكانية استمرار الشركة» لأسباب منها عدم قدرتها على سداد الالتزامات المالية وتدهور الطاقة الإنتاجية بسبب تقادم الأفران وخطوط الإنتاج، والنقص ـ غير المبرر ـ في بعض مدخلات الإنتاج وفى مقدمتها فحم الكوك، مما جعل توقف الإنتاج ظاهرة شبه دائمة، حيث وصل إلى ٩٢٪!! من الوقت المقرر للتشغيل، مقابل زمن تشغيل لايتجاوز ٨٪ فقط من الوقت المقرر للتشغيل!! وقلنا إن هذه الأرقام تستعصى علي التصديق، لولا أنها جاءت في تقرير رسمى من جهاز رقابى رفيع المكانة.

وقلنا إننا ــ مع كامل احترامنا للجهاز المركزى للمحاسبات وتقريره ـ فإننا نختلف مع رؤية التقرير التى تميل إلى عدم إمكانية استمرار الشركة لأسباب مالية وفنية وإدارية عرضنا لها في المقالين السابقين.

>> ورأينا المتواضع أن هذا الاستنتاج كان يمكن الاتفاق معه لو أن هذه الخسائر والديون ناتجة عن أسباب موضوعية لا علاج لها.. كأن تكون السوق المحلية لم تعد بحاجة إلى منتجات الشركة لسبب أو لآخر.. أو أن يكون تأسيس الشركة قد تم بالخطأ مثلا دون حاجة إليها أصلا، ودون توافر كفاءات إنتاجية وإدارية قادرة على تسييرها، أو أن تكون مدخلات الإنتاج قد ارتفعت تكلفتها مثلا، بحيث أن أسعار منتجات الشركة قد أصبحت باهظة بصورة تجعل الخسارة حتمية، وبالتالي فإن دعمها يكون إجراءً غير رشيد من الناحية الاقتصادية، ويكون استيرادها أقل تكلفة أو أن تفتقر الشركة إلى وجود أصول يمكن التصرف فيها «لتعويم» أوضاعها المالية وسداد التزاماتها.. أو لعدد من هذه الأسباب مجتمعة.

>> لكن واقع الحال أن هذه الأسباب «الموضوعية» كلها غير موجودة، وأن وضع الشركة المزرى الحالى هو نتيجة (فعل فاعل).. ويرجع إلى الفساد المستشرى وتعمد إهدار المال العام، والتسيب أو الفشل الإدارى المروّع سواء كان بسبب التسيب والاهمال، أو تعمُّد (تخسير) الشركة (هل يمكن أن يقدِّم أحد تفسيرًا معقولاً لعدم الاهتمام بالإحلال والتجديد والتطوير للأفران وخطوط الإنتاج علي مدي عشرات السنين.. حتى وصلت الأوضاع لما هى عليه الآن؟؟).. إن أى إدارة تمتلك، ولو حدًا أدنى من الرُشد والمسئولية لم تكن لتترك الأمور تصل إلى هذا الحد من التدهور، سواءً كان ذلك على مستوى الشركة، أو الشركة القابضة للصناعات المعدنية.. والحقيقة أن كل الجرائم التي أشرنا إليها.. والتى تناولنا بعضها بالتفصيل في المقالين السابقين ــ قد تلاقت مع توجه عميق للدولة في عهد مبارك نحو الخصخصة والتخلص من القطاع العام، استجابة لشروط صندوق النقد الدولى (في التسعينيات).. وهى الفترة التي تعود إليها بداية مأساة شركة الحديد والصلب وعدد كبير من الشركات ذات الأهمية الاستراتيجية للاقتصاد القومى.. ومنها مثلا شركة المراجل البخارية، وشركة «سيماف» والنصر للسيارات وغيرها.

 

أم الصناعات الثقيلة

والواقع أن صناعة الحديد والصلب ليست صناعة ثقيلة عادية، إذ لا يمكن بدونها بناء قاعدة لتطوير الاقتصاد القومى، بل يمكن القول إنها «أم الصناعات الثقيلة» ومنتجاتها ضرورية بصورة مطلقة كالصناعات الهندسية، وصناعات النقل والآلات والماكينات والإنشاءات وغيرها كثير.

لذلك ظل إنشاء شركة للحديد والصلب حلمًا يراوّد خيال كبار رجال الاقتصاد والصناعة حتى تحقق في خمسينيات القرن الماضى.

وتقدم شركة الحديد والصلب المصرية (مجمع حلوان) أكثر من ثلاثين منتجًا بالغ الأهمية للاقتصاد المصرى مثل قضبان وفلنكات السكك الحديدية والكمرات الحديدية بمختلف مقاساتها، وستائر وألواح الصلب وغيرها، مما تنفرد الشركة بإنتاجه، ويكلّف استيراده مبالغ طائلة بالعملة الصعبة، فضلا عن أنه يجعلنا في حالة تبعية للخارج.. وذلك بالطبع إلى جانب إنتاج البليت وحديد التسليح اللذين أصبحت شركات كثيرة تنتجهما.

ولذلك فإننا بحاجة إلي إقامة أكثر من شركة مماثلة، وليس إلى تصنيف هذه الشركة، إذا كنا نرغب فعلا فى تطوير الصناعات الثقيلة، والصناعات الدفاعية المصرية.

وهذه أمور تنظر إليها الدول الراغبة في النهوض باقتصادها، بمنتهى الجدية، ولا تتعامل معها بمعايير محاسبية بحتة، وإنما بمعيار النظرة لأهميتها الاستراتيجية، ومعروف أن شركة الحديد والصلب المصرية قد كان لها دور بالغ الأهمية ليس فى دعم عديد من الصناعات، بل وأيضًا في دعم المجهود الحربي المصرى في سنوات حرب الاستنزاف والاستعداد لحرب أكتوبر، فضلا عن مرحلة تأسيس الصناعات الدفاعية المصرية في الستينيات.. ومثل هذه الاحتياجات هى احتياجات دائمة لأى دولة.

>> وشركة الحديد والصلب المصرية هى الوحيدة في مصر التى تعمل بنظام الدورة الإنتاجية الكاملة، بدءًا من صهر خام الحديد في الأفران العالية، حتى تقديم المنتجات المختلفة. ولديها مناجم في الواحات البحرية تزيد احتياطياتها على (٢٠٠ مليون طن)، أى ما يكفي إنتاج الشركة لعشرات السنين.. فضلا عن خطوط النقل إلي حلوان التى كلفت الدولة مبالغ ضخمة.. أى أن تصفية الشركة ـ لا قدَّر الله ـ ستعنى خسارة فادحة، ليس بسبب خسارة إنتاجها ـ بالغ الأهمية ـ فحسب، بل وأيضًا بسبب إهدار الثروة القومية الكبيرة المتمثلة في مناجم الحديد وخطوط النقل والقطارات.. إلخ.. وصحيح أن نسبة تركيز المعدن في الخامات المصرية قليلة نسبيًا (٥٠ ــ ٥٥٪) مما يرفع تكلفة الإنتاج.. لكن هذا أمر يمكن معالجته.. ويكفي أننا نحصل على الخام (مجانًا) من إنتاج بلادنا.

 

مقومات للنهوض

كما تملك الشركة أصولا ضخمة، يمكن التصرف في جزء منها لسداد الديون الموجودة حاليًا (وبديهى أن هذا لا يلغى مطلقًا ضرورة محاسبة جميع المسئولين عن الخسائر والديون).. فالشركة نفسها قائمة على مساحة تبلغ (٢٥٠٠ فدان) بمقتضى قرار إنشائها.. أى ما يعادل (١٠.٥ مليون م٢).. وهى تملك كذلك مئات الأفدنة بوضع اليد سواء في التبين أو في الواحات، بالقرب من المناجم، والتصرف في الأصول غير الضرورية من هذه المساحات الشاسعة يمكن أن يغطى الديون ويزيد منه ما يكفي للتطوير، شرط أن يتم ذلك تحت رقابة صارمة، ووفق قواعد دقيقة للتسعير.

وهناك أيضًا أكثر من ٩٠٠ ألف طن من الخردة تساوى وحدها قيمة الديون.. فسعر طن الخردة يبلغ نحو ٦ آلاف جنيه وفقًا لأسعار البورصة العالمية. وإذا كان قد تم التصرف في جزء من هذه الخردة بطريقة أدت إلي حدوث خسائر، كما شرحنا في مقالنا الأول من هذه السلسلة (الأموال ـ 15 ديسمبر) فإن مرجع هذا إلى الفساد الذى اقترن بشروط تجهيز الخردة للتسليم.. فالأصل أننى لا أبيع شيئًا يكلفني تجهيزه للمشترى ما يجعلنى أخسر.. وإلاّ فإن الأولى بى هو تركه في مكانه.. وقصة «الخردة» هذه تحتاج إلى تحقيق مدقق لتحديد المسئولية ــ غير المقبولة عقلا ــ عن الخسائر..

 

خطط التطوير

وبديهى أن إنهاض الشركة من كبوتها يقتضى إعادة تأهيلها بصورة كاملة، وتطوير أو إحلال أفرانها وخطوط إنتاجها.. وبديهى أن هذه العملية يجب أن تتم تحت قيادة جديدة تمامًا من شخصيات تتسم بالكفاءة الفنية والاقتصادية والإدارية.. ونظافة اليد بالتأكيد.. من الخبراء السابقين والحاليين وأساتذة الجامعة وممثلي نقابة العاملين بالشركة (وبينهم فنيون ومهندسون).. وأن يتسم عملها بالشفافية التامة ويخضع لرقابة الأجهزة الرقابية المعنية ـ وفى مقدمتها الجهاز المركزى للمحاسبات والرقابة الإدارية ـ وتكون تفاصيله متاحة لوسائل الإعلام والرأى العام.

أما القيادة الحالية لشركة الحديد والصلب وللشركة القابضة للصناعات المعدنية فيجب إحالتها للمحاكمة ولمحاسبتها علي الفساد وإهدار المال العام وتعمد (تخسير) الشركة، علي نحو ما شرحنا تفصيلا في الجزءين الأولين من هذا المقال.

ومن الناحية التنظيمية فلابد من إقامة رابطة منتظمة ومتينة بين كل من شركة الحديد والصلب، وشركة الكوك والكيماويات (تابعة للشركة القابضة للصناعات الكيماوية) بحكم الترابط العضوى بين عمل وإنتاج الشركتين.. وقد رأينا كيف أن الفساد والتسيب الإدارى، وانعدام القيادة من جانب وزارتي التجارة والصناعة وقطاع الأعمال.. كلها أمور أدت إلى نقص مزمن في إمدادات فحم الكوك الضرورى بصورة مطلقة لعمل شركة الحديد والصلب.. وكان هذا من أهم أسباب تعطل التشغيل في شركة الصلب، واستيرادها لفحم الكوك بالعملة الصعبة، بينما تصدر شركة الكوك إنتاجها أو تبيعه لشركة أخرى.. بينما كان الهدف الرئيسى من إقامة شركة الكوك ــ وبجوار شركة الحديد والصلب ــ هو ضمان إمدادات منتظمة من الفحم لصناعة الصلب.

والواقع أن الوزراء المتعاقبين المسئولين عن الصناعة وقطاع الأعمال العام تجب مساءلتهم جنائيًا عن هذه الكارثة، التي كان يجب عليهم مواجهتها حتمًا، بحكم مسئوليتهم الوظيفية، لكن الجميع تصرفوا كأنهم يعيشون في جزر منعزلة!!

وبالمناسبة فقد اتضح أن شركة الكوك أيضًا ليست بعيدة عن الفساد.. فقد ضبطت الرقابة الإدارية منذ أيام رئيس الشركة متلبسًا برشوة قدرها مليون جنيه مقابل إسناد مناقصتين لنقل الفحم الحجرى إلي إحدى شركات النقل البحرى! (الأّهرام ـ ٢٤ ديسمبر ٢٠١٩) ترى كم عملية فاسدة أخرى قام بها هذا الشخص قبل ضبطه؟!!

>> وخلاصة القول أن أى إصلاح غير ممكن دون كنس كل هؤلاء الفاسدين، سواء في شركة الحديد والصلب أو في شركة الكوك.. والحقيقة أن كل ما ذكرناه من وقائع (ونقلا عن تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات) يقتضى إحالة المسئولين عنها للنائب العام.. كشرط مسبق لنجاح أى خطة للتطوير.

 

لماذا رفضوا العرض الروسى؟!

معروف أن شركة الحديد والصلب كانت قد أعلنت فى بداية هذا العام عن دعوة شركات عالمية لتطوير الشركة (الأفران وخطوط الإنتاج.. إلخ) ولم تتقدم أى شركة عالمية برد علي «الحديد والصلب» إلاّ شركة وحيدة!! هى شركة «ميت بروم» الروسية (الصناعات المعدنية) وهى من كبريات شركات صناعة الصلب الروسية.. ومعروف أن مجمع حلوان قد تمت إقامته فى حينه بتكنولوجيا سوفيتية (روسية).. وعرضت «ميت بروم» استثمارات (١٤٠ مليون يورو/ حوالى ٣ مليارات جنيه) في تطوير وإعادة تأهيل مجمع الحديد والصلب.. قابلة للزيادة حتى (٢١٠ ملايين يورو) من خلال شراكة مدتها ٢٠ عامًا بين الشركتين.. لكن كل من شركة حلوان والشركة القابضة للصناعات المعدنية أعلنت رفضها لهذا العرض الوحيد لأنه «غير مناسب»، كما أبلغت البورصة المصرية (سهم الشركة مقيد في البورصة) ـ «اليوم السابع ـ ١٧ يونيه ٢٠١٩».. وذكر ممثل الشركة الروسية أن شركة الحديد والصلب الروسية لم تهتم حتى بإبداء أسباب الرفض.. «ولم نعرف به إلا من خلال الإعلام» كما ذكر أن شركته مهتمة بمسألة تطوير الشركة المصرية منذ (٢٠١٤).. وأبدت اهتمامًا لأربعة وزراء متعاقبين (اليوم السابع - ١٧ يونيو).. وأن الشركة القابضة (وشركة الحديد والصلب) لم تهتما حتى بمناقشة أسباب الرفض مع شركته.. أو بطلب التفاوض حول العرض.. «ولم يتم إخطارنا رسميًا بالرفض وأسبابه»..

>> ولم يتسن لنا العثور فى الإعلام على أسباب تفسِّر رفض الجانب المصرى للعرض الروسى.. وبديهى أننا لن نتبنى كلام الجانب الروسى فى هذه القضية.. لأنه سيعرضها من وجهة نظره..

>> لكن اللافت للنظر أن يتم رفض هذا العرض (الوحيد) دون الاهتمام بطرح الأسباب علي الرأى العام، بينما تعانى الشركة من خسائر ضخمة.. ولا تجد تمويلا للتطوير.. ولا شريكًا يهتم بعرضها غير الشريك الروسى (راجع أيضًا، جريدة المال، ١٧/ ٤ / ٢٠١٩، ومواقع مثل «مصراوى» و«المال العام» تحت عنوان عرض ميت بروم لتطوير شركة الحديد والصلب ـ علي جوجل).

>> ونؤكد مرة أخرى أننا لا نستطيع أن نتبني كلام الجانب الروسى عن العرض الخاص وأسباب رفضه.. لكننا نؤكد أن من واجب شركة الحديد والصلب والشركة القابضة للصناعات المعدنية تقديم أسباب رفضهما للعرض الروسى للرأى العام، سواء كانت أسبابًا فنية أو مالية.. فهذه قضية تخص الرأى العام المصرى، ومصلحة الاقتصاد المصرى، خاصة أنه ليس هناك أى عروض أخرى.. والشركة تواصل الغرق في الخسائر والأعطال المتكررة دون أن تحرك ساكنًا للخروج من أزمتها.

>> ونعتقد أن الأمر يستحق تشكيل لجنة لتقصى الحقائق من جانب مجلس النواب لبحث وضع مجمع الحديد والصلب بأكمله.. والحلول المقترحة والعروض المطروحة لتطويره، لأن ترك الحال على ما هو عليه يعنى ترك هذا الصرح الاقتصادى الهام لمصيره المحتوم.. التصفية.. وهذا ما يجب رفضه بصورة مطلقة.

 

 

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE