الأموال
الثلاثاء، 23 أبريل 2024 09:18 مـ
  • hdb
14 شوال 1445
23 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : أسرار المعجزة الصينية

الأموال

الذكرى الـ70 لتأسيس الصين الشعبية


ما شهدته الصين خلال سبعين عاما من انتصار ثورتها وتأسيس جمهوريتها الشعبية (في الأول من أكتوبر 1949) هو معجزة حقيقية بكل معنى الكلمة.. معجزة حافلة بالدروس التى تستحق أن تتأملها دول العالم الثالث بالذات، وأن تتعلم منها.

أن يتحول بلد زراعى متخلف إلى دولة صناعية متقدمة جبارة تحتل المكانة الثانية بين أقوى اقتصادات العالم.. وتتقدم بثقة لاحتلال المكان الأول.. وأن يصبح هذا البلد «مصنع العالم» وأن يحتل المكانة الأولى بين المصدرين، بما فى ذلك تصدير السلع المتطورة تكنولوجيًا، وأن يحقق ناتجها المحلى الإجمالى طفرات متلاحقة تصل به إلى (14 تريليون دولار).. وحقق نصيب الفرد من هذا الناتج قفزات خيالية تصل به من (50 دولاراً) عام 1949 إلى (10 آلاف دولار عام 2018).. أى أن يتضاعف (200 مرة) في سبعين عاما، أليست هذه معجزة اقتصادية حقيقية؟ أن تنجح دولة فى انتشال 800 مليون نسمة من براثن الفقر خلال أربعين عاما من بدء تجربة الإصلاح الاقتصادى (1978).. بالإضافة إلى من تحسنت أحوالهم المعيشية منذ قيام الثورة.. وأن يصبح لدى هذه الدولة طبقة وسطى يبلغ عددها حوالى (400 مليون نسمة) يمثلون ركيزة راسخة للتوازن الاجتماعى.. أليست هذه معجزة؟

وحين تأسست الجمهورية الشعبية كانت نسبة الأمية 80٪ من السكان.. فتم محوها بالكامل خلال عقدين أو ثلاثة، ولم يعد في الصين أمى واحد.. وتم بناء شبكة كثيفة من المدارس والمعاهد الفنية والجامعات، ومراكز البحث العلمى، وحققت الصين نهضة تعليمية وعلمية، وصلت بها لأن تصبح من أهم المراكز العلمية في العالم، وأن تطلق أقمارها الصناعية وسفنها الفضائية، وتقيم صناعة فضائية وجوية عملاقة، وتبنى صناعة متقدمة تقوم على أكثر منجزات التكنولوجيا الرفيعة تطورًا.

ومنذ وقت مبكر اعتمدت الصين أسلوب (الهندسة العكسية) لتتمكن من خلاله من تقليد وصنع كثير من الأجهزة والآلات الضرورية لها، وخاصة قبل أن تصبح حقوق الملكية الفكرية أمرًا معترفًا به من خلال اتفاقيات «الجات».

وقد حققت الصين إنجازات اقتصادية وعلمية بارزة خلال العقود الثلاثة التالية لانتصار الثورة وتأسيس الجمهورية الشعبية، وخاضت تجارب كثيرة بحثًا عن نموذجها الخاص للتنمية.. إلا أن عام 1978 كان علامة فارقة فى مسيرة تطورها العاصف من خلال (سياسة الإصلاح) التى طرحها وطبقها (دنج شياو بنج) ثانى زعمائها التاريخيين، بعد مؤسس الجمهورية (ماو تسى تونج).. وتقوم (سياسة الإصلاح الاقتصادى) على عنصرين أساسيين:

أولهما: اعتماد عناصر اقتصاد السوق، وفتح المجال أمام المبادرة الفردية (للقطاع الخاص).. جنبًا إلى جنب مع امتلاك الدولة للمشروعات الاقتصادية الكبرى، ووضع الخطة العامة للتنمية.

وثانيهما: فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، وتشجيع هذه الاستثمارات على القدوم للبلاد، وتقديم التسهيلات لها من خلال مناخ استثمار مواتٍ (ودائمًا فى إطار الخطة العامة للتنمية، التي تتسم بمرونة كبيرة.. ومع تحصيل الضرائب من المستثمرين بخلاف ما يشترطونه فى بلاد كثيرة).

ولأن الصين سوق عملاقة تمثل خمس سكان العالم. ولأن أجور العمالة فى الصين كانت ولاتزال منخفضة، وفى نفس الوقت فإن مستوى هذه العمالة (من عمال وفنيين ومهندسين) متطور بفضل التعليم الجيد وبرامج التنمية البشرية، ولأن مناخ الاستثمار مناسب وضماناته جيدة، فقد أصبحت الصين خلال سنوات قليلة أكبر بلد جاذب للاستثمارات الأجنبية فى العالم.. ومعها التكنولوجيا المتطورة بخلاف ما يقوم الصينيون أنفسهم بتطويره.. وتدفقت استثمارات بمئات المليارات من الدولارات.

وقامت الدولة بتطوير نظام المناطق الصناعية المتمتعة بكافة الإمكانات والتسهيلات في المناطق الشرقية من البلاد، التى أصبحت بحق «مصنع العالم» وأصبحت الصين أكبر مصدّر للسلع الصناعية فى العالم.

ويكفي أن نذكر أن نسبة نمو الناتج المحلى الإجمالى للصين منذ 1978 بلغت 9.5٪ فى المتوسط سنويا، مما أتاح مضاعفة الناتج المحلي الإجمالى مرة كل ثمانى سنوات!! لتتخطى الصين اليابان، وتحتل المرتبة الثانية في حجم الاقتصاد بعد الولايات المتحدة (2010) ثم ليبلغ ناتجها المحلى الإجمالى (14 تريليون دولار) عام 2018 حسب أرقام صندوق النقد الدولى.. وأكبر مصدّر في العالم.. وتحقق فائضا تجاريا ضخما مع أغلب دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة التى تعانى من عجز تجارى مع الصين بلغ 375 مليار دولار عام 2018.. برغم إجراءات ترامب الحمائية ضد الصادرات الصينية!! كما تملك الصين نحو 1200 مليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية.. وتملك احتياطيات دولية تبلغ نحو 4 تريليونات دولار تمثل أكبر احتياطيات لأي دولة، مما يتيح لها تصدير استثمارات ضخمة لدول العالم.. وقد جاء مبادرة (الحزام والطريق) العملاقة لتوسيع مجالات الاستثمار الصينى فى عشرات من دول العالم، وتنشيط التجارة معها، استنادًا إلى هذه الفوائض المالية الضخمة والقدرات الاستثمارية الهائلة لدى الصين.. وهو موضوع يحتاج إلى كتابة مستقلة، ولا يتسع له المجال هنا.

وتأسيسًا على هذا النمو الاقتصادى الهائل توافرت للصين الموارد اللازمة لتطوير منظومة التعليم والبحث العلمى فيها بصورة عاصفة.. فضلا عن إرسالها لآلاف الباحثين وطلاب الدراسات العليا إلى مختلف جامعات العالم الأكثر تقدمًا، وفي مقدمتها الجامعات الأمريكية الكبرى.

وبفضل هذه الإمكانات الاقتصادية والعلمية الهائلة، تمكنت الصين من تطوير قوتها العسكرية بصورة متسارعة للغاية.. واستفادت من تحالفها مع روسيا في تطوير صناعاتها العسكرية، بما فى ذلك صناعاتها الصاروخية والجوية والفضائية، فضلاً عن قواتها المسلحة التقليدية.

وكانت الذكرى الـ70 لانتصار الثورة الصينية، وتأسيس جمهورية الصين الشعبية مناسبة للإعلان عن امتلاك الصين (لأول مرة) لصاروخ عابر للقارات يصل مداه إلى 14 ألف كم.. أى أطول مدى من أى صاروخ استراتيجى أمريكى أو روسى وهو الصاروخ (دى إف - 41) القادر على حمل (10 رؤوس نووية).. وشهد العرض العسكرى الأضخم فى تاريخ الصين ــ والذى أقيم بمناسبة الذكرى الـ70 لانتصار الثورة الصينية، وتأسيس الجمهورية ـ تقديم هذا الصاروخ فائق القوة، وكذلك الصاروخ (دى إف 17) وهو صاروخ يستند إلى تكنولوجيا حديثة تماما، ولا تملكه إلا روسيا.. والصين هى ثانى دولة تقوم بتصنيعه، ولم تصل الولايات المتحدة بعد لامتلاكه.. ويُعرف هذا الصاروخ باسم (الصاروخ فائق السرعة) أو (الفرط صوتى) hypersonic.. وهو قادر علي تخطى منظومات الدفاع الصاروخية الأمريكية، بفضل سرعته التى تبلغ أضعاف سرعة الصوت، وخاصيته «الشبحية».. أى قدرته على التخفى.. كما عرضت الصين طائرتها الخاصة من الجيل الخامس (جى 20) المناظرة لأحدث الطائرات المقاتلة الأمريكية والروسية.

>> وبهذه الأسلحة وغيرها من الأسلحة الصاروخية المتطورة أعلنت الصين أنها أصبحت تمتلك قوة الردع النووى، القادرة على الوصول للأراضى الأمريكية.. وبذلك تؤكد مكانتها كقوة عظمى عسكرية، وليس اقتصادية فحسب.. وتتأكد سمة النظام الدولى كنظام متعدد الأقطاب، تظل الولايات المتحدة القوة الأولي فيه، ولكن ليست قطباً أوحد بحال من الأحوال.

< < <

كيف استطاعت الصين تحقيق معجزتها الاقتصادية المبهرة، والتى استطاعت بفضلها تحقيق إنجازاتها العلمية والعسكرية الهائلة؟

أولا: بالتخطيط العلمى الدقيق والمحكم لتنمية شاملة متوازنة، تعتمد قبل كل شيء علي الصناعة والتكنولوجيا المتطورة.. ثم الصناعة والتكنولوجيا المتطورة.. كقاطرة للتقدم وتلبية احتياجات المجتمع، وكأداة لتحقيق قيمة مضافة كبيرة تستخدم لتوسيع الاستثمار في المجالات الضرورية لتطوير الإنتاج وزيادته كمًا ونوعًا..

ثانيا: ومع التقشف وترشيد الإنفاق وتعظيم الادخار، فإن ترشيد مجالات الاستثمار وتوجيهه وفق أولويات صارمة، وبما يخدم خطة التنمية، ساهم دائمًا في توفير الاستثمارات الضرورية للمجالات الأكثر أهمية.. علمًا بأن الصين كانت دائمًا عازفة عن الاستدانة، وكانت تضع شروطًا لقبول القروض (الصغيرة) أهمها عدم التدخل فى شئونها الداخلية.

ثالثا: تشجيع الاستثمارات الأجنبية غير المشروطة، والمرتبطة بالخطة العامة (المرنة) للتنمية، وبإدخال تكنولوجيات جديدة.

رابعا: مكافحة الفساد في أجهزة الدولة والحزب الشيوعى الصينى (الحاكم) بصرامة.. علمًا بأن عقوبة الإعدام على جرائم الاختلاس والرشوة والإضرار بالمال العام، لكبار المسئولين بالذات، باعتبار أن مستوى جرائمهم يمثل «إضرارًا بالاقتصاد القومى».. ويتم تطبيق العقوبة على كثير من المسئولين الحكوميين والحزبين الكبار بلا تمييز أو هوادة.

خامسًا: الاهتمام الكبير بالعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص ومكافحة الفقر.. وقد أشرنا إلى توسع الطبقة الوسطى (400 مليون نسمة) وإلى خروج 800 مليون نسمة من دائرة الفقر منذ بدء تطبيق (سياسة الإصلاح) عام 1978.. وهى أعداد تزيد على سكان قارات بأكملها!! علمًا بأن مكافحة الفقر تعنى ـ اقتصاديًا ـ توسيع الاستهلاك، ومن ثم المزيد من إنعاش الاقتصاد بتعزيز السوق الداخلى.

سادسًا: الاهتمام الكبير بالتعليم والبحث العلمى، وربطهما بالإنتاج وبتطوير القدرات الدفاعية للبلاد، وكذلك ببرامج تنمية المهارات والتنمية البشرية، الأمر الذى يجعل العمالة الصينية رفيعة المستوى مع انخفاض الأجور،

بنك الاسكان
NBE