الأموال
الجمعة، 19 أبريل 2024 08:18 مـ
  • hdb
10 شوال 1445
19 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : الإمبراطورية الأمريكية وحكم التاريخ

الأموال

أوضحنا في الجزءين السابقين من هذه السلسلة من المقالات (الأموال: الأحد

25/8 و1/9) أن النظام العالمى يمر بمرحلة الانتقال إلى التعددية القطبية

مع الصعود العاصف للصين، وعودة روسيا إلى الساحة الدولية، مما أدى إلى

فقدان الولايات المتحدة مكانة القطب الأوحد التى انفردت بها في العقد

الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالى. وحذرنا، فى الوقت

نفسه، من الأفكار المتسرعة بأن الصين على وشك أن تتبوأ المكانة الأولى فى

السباق العالمى، خلال أعوام قليلة، أو حتى عقد من الزمان. وأوضحنا ـ من

خلال مقارنة القوى الاقتصادية والعسكرية ـ أن الصين لايزال أمامها شوط

طويل يجب أن تقطعه لكى تستطيع أن تسبق الولايات المتحدة، وتحتل المكانة

الأولى فى النظام الدولى، بالرغم من منافستها القوية، بل وتفوقها على

أمريكا في بعض المجالات. كما أوضحنا قوة النفوذ السياسى الدولى للولايات

المتحدة كرافد من أهم روافد الاستمرار المتوقع لقوتها الشاملة خلال

العقود القادمة.. علمًا بأن هذا الاستمرار يظل مؤقتا بالمعنى التاريخى،

ولن يعطّل قوانين التطور التى تقضى بإزاحة الولايات المتحدة عن المركز

الأول في سباق القوة العالمية خلال عقود تطول أو تقصر.

ومن عوامل القوة الأخرى بالغة الأهمية التى تسمح باستمرار أمريكا في

احتلال المركز الأول فى سباق القوة العالمية لفترة قادمة.. تفوقها العلمى

وانعكاسه على الاقتصاد والتطور التكنولوجى والقوة العسكرية. فالولايات

المتحدة لايزال لديها أكبر عدد من الجامعات ومراكز الأبحاث الأفضل

والأكثر تقدمًا فى العالم (حتى وفق تصنيف شنغهاى الصينى لأفضل 500 جامعة

عالمية) مثل جامعات «هارفارد» و"MIT" معهد «ماساشوستس للتكنولوجيا»

و«ستانفورد» و«ييل» و«كولومبيا» و«كالتيك- كاليفورنيا للتكنولوجيا»

وغيرها.. التى تحتل الأماكن الأولى في ترتيب جامعات العالم.. فضلاً عن

وكالة «ناسا» لأبحاث الفضاء وغيرها من مراكز الأبحاث التى يدرس فيها مئات

الآلاف من الطلاب وطلاب الدراسات العليا من مختلف أنحاء العالم، بما فى

ذلك الصين التى ترسل الآلاف من أبنائها سنويًا للدراسة فى الجامعات

الأمريكية.

ونتيجة لذلك تملك الولايات المتحدة أكبر عدد من العلماء والباحثين

البارزين مقارنة بأى دولة أخرى، كما تملك جامعاتها ومراكزها البحثية

جاذبية كبرى لاستقطاب العلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم، فيما

يعرف بظاهرة «نزيف العقول» أو «نزيف الأدمغة» بفضل ما تقدمه من مرتبات

عالية وإمكانات ممتازة للبحث العلمى.

وهناك أيضًا «القوة الناعمة» الأمريكية ـ حسب التسمية التى أطلقها عالم

السياسة الأمريكى الشهير (جوزيف ناى) في كتابه الشهير الذي يحمل نفس

الاسم ـ من إنتاج ثقافي وفكرى ونظرى فى مختلف مجالات النشاط الإنسانى،

وإنتاج أدبى، وسينمائى (هوليوود) ومسرحى وموسيقى.. إلخ.. وإعلام قوى

تنافسى يتمتع بقدر كبير من التنوع والحرية (بالطبع فى إطار خدمة أصحاب

رءوس الأموال المسيطرين عليه).. ويسهم ذلك كله في صنع جاذبية ما يسمى

بـ«نمط الحياة الأمريكى» الذى لايزال يتمتع بجاذبية كبرى على المستوى

العالمى، بالرغم من التناقضات والتصدعات التى يعانى منها المجتمع

الأمريكى، ومظاهر الفقر والعنصرية المنتشرة فيه.

والأمر المؤكد أن الصين تتخلف عقودًا كثيرة جدًا عن الولايات المتحدة في

هذا المجال، الذى يمثل أحد مجالات القوة الشاملة لأى دولة- بل تتخلف

روسيا واليابان (وبقية القوى الصاعدة بالطبع).. ولا يستطيع منافسة

الولايات المتحدة فى مجال «القوى الناعمة» إلا الاتحاد الأوروبى

مجتمعًا.. بدوله الكبرى والأكثر تقدمًا.

وخلاصة القول أن الأفكار التى تذهب إلى قرب انهيار أمريكا.. وأن الصين

والقوى الصاعدة سرعان ما ستسبق الولايات المتحدة، والنبوءات بأن أمريكا

ستتصدع خلال سنوات.. إلخ هى كلها أفكار ونبوءات متسرعة، تعكس أمنيات

أصحابها، ولا علاقة لها بالواقع الفعلى!

< < <

حسنًا.. هل يعنى ذلك أن أمريكا ستظل متربعة على عرش العالم إلى الأبد؟؟

بالطبع لا.. وقد أوضحنا فى المقال الأول من هذه السلسلة مظاهر تراجع

الوزن النسبى للولايات المتحدة فى الاقتصاد العالمى وفى القوة العسكرية،

كما أوضحنا أسباب هذا التراجع.. وخلصنا إلى أن فقدانها للمكانة الأولى فى

سباق القوة العالمية هو أمر محتوم.. وهى ظاهرة شهدها تاريخ العالم مرارًا

(صعود وسقوط القوى الكبرى) بدءاً من الإمبراطورية المصرية القديمة

والبابليين والآشوريين فى العراق.. إلى الإغريق ثم الرومان..

والإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية فى الشرق الأوسط.. وصولا إلى

الإمبراطوريتين البرتغالية والإسبانية في نهاية حصر الكشوف الجغرافية، ثم

الإمبراطور العثمانية والفرنسية والبريطانية (التى لم تكن تغيب عنها

الشمس) فى القرن العشرين، وصعود الإمبراطوريتين الأمريكية والسوفيتية.

وتتعدد الأسباب عبر التاريخ، لكنها تفضي كلها إلى تآكل القوة

الإمبراطورية، وفقدانها للأطراف، وتضعضعها تحت وطأة تناقضاتها الداخلية،

وعوامل المنافسة والصراع مع قوى أخرى صاعدة.. ومن ثم تراجعها أو انهيارها

السريع حسب الأوضاع والملابسات التاريخية.. إنه قانون لم تفلت منه

إمبراطورية واحدة عبر التاريخ.. وهو الآن يتقدم لينطبق على الإمبراطورية

الأمريكية تدريجيًا، كما أوضحنا فى المقال الأول من هذه السلسلة.. نعم..

نحن نعيش عصر (أفول القوة الأمريكية) وميلاد نظام عالمى جديد، ستكون

أمريكا إحدى قواه الهامة، بناء على عوامل القوة التى تحدثنا عنها فى

المقال الثانى عن هذه السلسلة، وبداية هذا المقال.. ولكن بالتأكيد

ستسبقها الصين، وربما أيضًا الهند، التي تشهد هى الأخرى، نموا اقتصاديا

وعسكريًا وعلميًا عاصفًا خلال العقدين الأخيرين، والتى تقدمت لاحتلال

المركز السادس فى الاقتصاد العالمى (بناتج محلى قدره 2.85 تريليون

دولار).. كما ستظل روسيا أحد أقطاب هذا النظام متعدد القطبية بفضل قوتها

العسكرية (وخاصة النووية والصاروخية) الهائلة.. وإلى جانب هذه الأقطاب

ستكون هناك دول كبرى كاليابان (القوية اقتصاديًا ولكن الضعيفة سياسيًا

وعسكريًا) وألمانيا وبريطانيا وفرنسا.. وربما البرازيل..

< < <

انتقال العالم إلى وضع تعدد القطبية يحقق مصالح الدول الصغيرة والمتوسطة

بصورة أفضل بكثير من حالة القطبية الأحادية، وهيمنة الولايات المتحدة ـ

كما كانت الحال خلال العقدين الماضيين ـ وحتى بصورة أفضل من حالة القطبية

الثنائية، لأنه يوسّع كثيرًا من دائرة الخيارات الاستراتيجية أمام صانعى

القرار فى تلك الدول الصغيرة والمتوسطة فى مختلف المجالات الاقتصادية

والسياسية والعسكرية (شراء السلاح وبناء القوة العسكرية)، ويفتح أمام

شعوبها فرصًا أوسع بكثير لتحقيق مصالحها.. ويجعل طابع العلاقات الدولية

أكثر تنوعًا وديمقراطية.

ولنتذكر على سبيل العربدة الأمريكية فى يوغسلافيا السابقة «1995» والعراق

«2003» وأفغانستان «2001».. ولنقارن ذلك مثلاً بوضع مصر فى أعتاب ثورة

30 يونيو التى ناصبتها أمريكا أشد العداء، وفرضت علينا بعض العقوبات،

وكانت تتجه لفرض عقوبات أقسى، لولا أن مصر وجدت أمامها فرصة للتوجه شرقًا

(نحو الصين وروسيا) وغربًا نحو بعض الدول الأوروبية التي اتخذت موقفًا

أكثر تفهمًا لإرادة الشعب المصرى، مما أفشل محاولات الحصار الأمريكى

لمصر.

ولنقارن أيضًا بالوضع في سوريا، التى أفشل التدخل العسكرى الروسى فيها

(2015) مؤامرة تقويض الدولة الوطنية السورية بقيادة الولايات المتحدة

والدول الغربية الكبرى، والمشاركة النشيطة من جانب تركيا وقوى إقليمية

أخرى، ومن خلال جلب أكثر من مائة ألف إرهابى من مختلف أنحاء العالم.. هنا

كان التدخل الروسى حاسمًا في إفشال المؤامرة، ودعم كفاح الشعب السورى

للحفاظ على دولته الوطنية.

وبديهى أن كل طرف سيتهم الأطراف المنافسة بأن لديه مصالحه الخاصة فى هذا

البلد أو ذاك، وأنه يدعمه حفاظًا على هذه المصالح.. وهذا صحيح بالطبع..

بل إن أحد قوانين العلاقات الدولية، ولكن من قال إن ما تراه أمريكا مصلحة

لها هو مصلحة للشعوب.. وأنه ليس من حق هذه الشعوب أن ترى مصالحها متفقة

مع مصالح دولة أخرى فى هذه اللحظة أو تلك من تاريخها؟!!

وبناء علي ذلك كله نقول.. مرحبًا بعالم جديد متعدد الأقطاب!!

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE