الأموال
الثلاثاء، 16 أبريل 2024 04:31 مـ
  • hdb
7 شوال 1445
16 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

 د. محمد فراج يكتب : دروس مهمة من جريمة تفجير معهد الأورام

الأموال

 

محمد صلاح لاعب كرة بألف رجل أعمال!!

الجريمة الإرهابية البشعة التى وقعت أمام المعهد القومى للأورام «معهد السرطان» لم تلحق أضرارا بمبنى المعهد فحسب، حيث يجرى علاج آلاف المرضي من هذا المرض الخطير. ولم تقف آلامها عند حدود فقد الضحايا الأبرياء فقط.. لكنها أيضًا أحدثت صدمة عنيفة للرأى العام بما كشفت عنه من عورات فئة اجتماعية كان من المتوقع أن تكون استجابتها للحدث أكثر حساسية وتعبيراً عن الشعور بالمسئولية، بكثير جدًا عما رأيناه، نعني فئة رجال الأعمال وكبار الأثرياء في بلادنا.

فقد أدى الانفجار إلى حدوث تصدعات في المبنى، فاقمت من مشكلات إنشائية قديمة، واستوجبت إخلاءه، وربما تستدعى إعادة بنائه أو ترميمه بتكلفة تبلغ المليارات، إذا كان الترميم ممكنا. وكانت صور المرضى وخاصة الأطفال منهم، مؤثرة بصورة تعتصر القلوب، وهم يقفون في الشارع في انتظار نقلهم إلى مستشفيات أخرى، وترتيب مواصلة علاجهم فيها، وهى بدورها عملية معقدة ومكلفة لأن المستشفيات المضيفة غير متخصصة.

هذا الوضع المأساوى دفع المواطنين المصريين إلي التنادى لتقديم التبرعات لمواجهة الموقف، وما يتطلبه من نفقات طارئة، خاصة أن المعروف جيدًا أن ميزانية معهد الأورام تعانى من عجز كبير دائم عن الوفاء بمقتضيات علاج الأعداد الضخمة من المرضى، الذين يقوم على خدمتهم، خاصة أن أدوية علاج السرطان باهظة التكلفة، فضلا عن نفقات رعاية المرضى بعد العمليات. وكما يحدث دائمًا سارع المصريون العاديون إلى التبرع وامتلأت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى بنداءات التبرع.. وقرر الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبى ظبى التبرع بـ«٥٠ مليون جنيه».. إلاّ أن اللافت للنظر فعلا كان تبرع اللاعب محمد صلاح «نجم ليفربول الكبير» بثلاثة ملايين دولار.. أى ما يعادل حوالى (٥٠ مليون جنيه مصرى).. ومهما يكن راتب محمد صلاح من ليفربول كبيرًا أو يكن حجم مدخراته، فالمؤكد أن هذا المبلغ يمثل جزءا معتبرا من ثروته، علمًا بأنه كلاعب كرة يمكن أن يصاب فى أى وقت «لا قدّر الله.. وأعطاه الله الصحة والعافية» بما يمنعه من الحصول على الدخل الكبير الذى يحصل عليه الآن.. وعلمًا بأنه ينفق على الكثير من المشروعات الخيرية في قريته.

وإذا كان محمد صلاح قد قدم هذه المساهمة السخية تعبيرًا عن شعوره الوطنى والإنسانى، وإحساسه بالمسئولية الاجتماعية، فقد رأينا رجال أعمال تعدّ ثرواتهم بمليارات الدولارات، وبعضهم مسجَّل فى قائمة «فوربس» لأثرياء العالم يتبرعون بمبالغ أكبرها «مليون جنيه» ومنها ما هو أقل بكثير!! وببساطة فإن ما دفعه كل مجتمع رجال الأعمال المصريين ـ بهيلهم وهيلمانهم ـ لا يمثل إلا جزءا تافهًا مما دفعه لاعب كرة واحد، لكنه كبير بوطنيته وإنسانيته وأخلاقه.

كما أننا لم نسمع عن تبرع من جانب من يسمونهم «كبار» الإعلاميين والفنانين الذين تبلغ أجورهم الملايين وعشرات الملايين.. وإذا كان أحدهم قد فعل ـ ولم نسمع به ـ فنحن علي استعداد لنشر تصحيح فورى.. وفي المقابل فقد وجدنا ما يسمى بـ«المجتمع المخملى» يتهافت علي شراء تذاكر بـ٤٥٠٠ جنيه لحضور حفل لفنانة استعراضية عارية أقيم مؤخرًا فى مدينة العلمين الجديدة.. وتمت تغطيته بصورة واسعة دون مراعاة لأحزان المصريين علي شهداء جريمة معهد الأورام!!

والأكثر سوءا أننا لم نسمع عن تبرعات من جانب جمعيات رجال الأعمال واتحادات المستثمرين.. والمفروض أن اعتبارات «اللياقة السياسية والاجتماعية» كانت توجب عليهم المشاركة، إن لم تكن اعتبارات الإنسانية والتضامن المجتمعى.

ومن ناحية أخرى فإن مستشفى متخصصا في علاج سرطان الأطفال ـ ويحصل علي تبرعات بالغة الضخامة، وينفق على الإعلانات والمظاهر الكثير ـ لم يعرض حتى استضافة الأطفال المرضى الذين كان لابد من إخلائهم من المعهد القومى للأورام!!

عطب أخلاقي واجتماعى

وبصراحة تامة فلابد من القول إن كل ما ذكرناه يشير إلى خلل، بل إلى عطب إنسانى وأخلاقى خطير في مجتمعنا.. عطب يتوجب الوقوف أمامه وتحليله وتشريحه.. وأيضًا مواجهته.. ويتمثل الملمح الأساسى لهذا العطب في أن هناك فئات تأخذ من الوطن كل شىء، ولا تريد أن تدفع له شيئا، حتى في المصائب وأوقات الشدة.. فأفراد هذه الفئات لا يريدون حتى أن يدفعوا الضرائب للدولة عن مكاسبهم الفاحشة، ويستأجرون المحاسبين فاسدى الذمة مثلهم لتخرج شركاتهم ومشروعاتهم «خاسرة»!! أو بأرباح تافهة.. ويتهربون بشتى الحيل من التأمينات الاجتماعية الصحية على العاملين لديهم.. ولا يبالون بالكوارث التى تصيب مجتمعهم وأبناء وطنهم، ولا يحركون ساكنًا للمشاركة في مواجهتها.. وإذا طالبهم أحد بحق الدولة والمجتمع يردون بالتهديد بـ«هروب الاستثمارات» و«تطفيش» المستثمرين!!

وإذا كان هؤلاء لا يدفعون ما يوجبه القانون (راجع مثلا متأخرات الضرائب.. بعد عمليات تزوير الحسابات!) فليس غريبا أن تغيب عنهم اعتبارات المسئولية الاجتماعية.. إلاّ من رحم ربى منهم طبعا.. وهم قليلون للغاية.

وقد يقول قائل: إن الإنفاق على الصحة والخدمات العامة، ومواجهة الكوارث والطوارئ.. إلخ هى مسئولية الدولة بصفة أساسية، ولا ينبغى أن تتوقف عن المساهمات الاجتماعية والخيرية، وخصوصاً فى مجتمع يعانى من ضعف ثقافة المسئولية الاجتماعية لدى أغنيائه، وضعف ثقافة العمل الخيرى عمومًا.. وهذا صحيح عمومًا، ولكن ليس على إطلاقه.

ويجب أن نلاحظ أن موازنة ٢٠١٩/٢٠٢٠ قد شهدت زيادة كبيرة مقارنة بموازنة العام المالى السابق، وبلغت ١٢٤.٨ مليار جنيه هذا العام.. محققة الحد الأدنى الدستورى (٣٪ من الناتج المحلى الإجمالى) للمرة الأولى، وكانت وزارة المالية قد اعتمدت ٧٣ مليار جنيه فى أول مشروع للموازنة منها ٣٥ مليار جنيه للأجور و١٩ ملياراً لديوان الوزارة و١٩ ملياراً للعلاج وكل الأغراض الأخرى (اليوم السابع ـ ومصراوى ومواقع أخرى ـ ٢٠ مايو٢٠١٩).. لكن لجنة الصحة بمجلس النواب أوصت برفع الموازنة إلى ٩٠ مليار جنيه.. وبعد قرارات رفع الحد الأدنى للأجور إلى ٢٠٠٠ جنيه ورفع العلاوات، ومع أخذ مشروعات الدولة فى الاعتبار مثل «١٠٠ مليون صحة» وبرنامج مكافحة السكر والسِمنة والتقزم، وغيرها من البرامج تقرر زيادة الموازنة إلى ١٢٤.٨ مليار جنيه (صحف ومواقع ٢٥ يونيو ٢٠١٩).. بما فى ذلك رفع مخصصات الأدوية من ٧ مليارات جنيه فى العام المالى الماضى إلي ٩.٧ مليار جنيه فى موازنة ٢٠١٩/٢٠٢٠ ورفع مخصصات العلاج على نفقة الدولة من ٥.٧ مليار جنيه إلى ٧.٦ مليار هذا العام..

إلا أنه بالرغم من هذه الزيادة الكبيرة (وبلوغ الإنفاق على الصحة النسبة المقررة دستوريا للمرة الأولى) فإن الأوضاع العامة للصحة تتطلب مستويات أعلى من الإنفاق، خاصة مع زيادة انتشار الأمراض الخطيرة وعالية التكلفة في العلاج مثل السرطان بأنواعه الكثيرة، وأمراض القلب وغيرها.. ومع ملاحظة أن استثمارات القطاع الخاص في المجال الصحى يتجه أغلبها لإقامة مستشفيات فخمة (ذات طابع فندقى) وتتسم بالتكلفة الباهظة للعلاج فيها.. كما يرفع الأطباء ـ وخاصة كبارهم ـ أجور الكشف بصورة جنونية.. بينما تتسم المستوصفات الخيرية بتواضع مستوى العلاج فيها، وإن كانت تحل جزءاً من المشكلة بالنسبة للطبقات الاجتماعية الأكثر فقرًا..

حسنًا.. ما العمل إذن فى دولة فقيرة محدودة الموارد؟ هنا مهما غيرنا أولويات الإنفاق لصالح الخدمات العامة، وفي مقدمتها الصحة والتعليم.. ومهما رشَّدنا الإنفاق تظل موارد الدولة قاصرة عن تغطية متطلبات النهوض بمستوى الصحة والتعليم إلى المستوى اللائق بدولة متحضرة في القرن الحادى والعشرين.. وتظل هناك فجوة لابد أن تسهم الفئات الاجتماعية الثرية والقادرة في تغطيتها، وإلاّ سيظل الإنجاز دون المستوى المطلوب.. وتحقيق هذا الهدف يقتضى رفع مستوى الشعور بالمسئولية الاجتماعية لدى هذه الفئات الاجتماعية الثرية، والتي تحصل من المجتمع علي كل شىء كما سبق القول.. ويظل ضروريًا خلق ثقافة جديدة للمسئولية الاجتماعية.

وجدير بالذكر أنه حتى فى أكثر بلدان العالم الرأسمالى تقدمًا «مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها».. وحيث توجد أشكال ومستويات مختلفة من التأمين الصحى (أقرب إلي الشمول في بلدان غرب وشمال أوروبا).. وبالرغم من ارتفاع قدرات الدول علي الإنفاق على الصحة العامة والتعليم، فإن المجتمع وخاصة الأثرياء فيه، يساهمون بنصيب وافر فى الإنفاق على الصحة والتعليم بالذات، وإقامة المؤسسات الخيرية التى تسهم بصورة جدية في سدّ الثغرات الموجودة فى مجال تقديم الخدمات العامة، وليس في بلدانهم فحسب، بل وفي مختلف بلدان العالم الثالث (فى أمريكا مثلاً: صناديق مثل بيل وميليندا جيتس وكارنيجى، وفورد.. وغيرها).. وفى ألمانيا «فريدريش إيبرت.. وغيره» كما تقيم المجالس البلدية المدارس والمستشفيات ليس من حصيلة الضرائب البلدية فحسب، بل وأيضًا من تبرعات الأثرياء فى دائرتها..

كما أن مصر عرفت فى مراحل سابقة من تاريخها تجارب مضيئة في هذا الصدد مثل جمعية «المساعى المشكورة» التى أقامت سلسلة من المدارس الابتدائية والثانوية، ومثل مستشفيات «الجمعية الخيرية الإسلامية» و«المواساة» و«المستشفي القبطى» وغيرها من المدارس والمستشفيات التى قامت بدور عظيم في تغطية احتياجات المجتمع في مجالى التعليم والصحة، إلى جانب دور الدولة.. فماذا أصاب أثرياء مصر لينكصوا بهذه الصورة المخزية عن القيام بمسئولياتهم تجاه مجتمعهم.. هذا حديث يطول..

< < <

وإذا عدنا إلي بداية مقالنا حول ضرورة إعادة بناء المستشفي الرئيسى للمعهد القومى للأورام، فالحقيقة أننا لسنا بحاجة إلى هذا فحسب، بل وأيضًا إلى بناء فروع للمعهد في عدة مواقع فى الصعيد والدلتا والإسكندرية.. إلخ.. وإلى توفير ميزانية محترمة للعلاج بحيث لا يكون أهالى المرضى مضطرين لشراء الحقن «السرنجات» والقطن والشاش والمطهرات وبعض الأدوية لذويهم الذين يتلقون العلاج كما يحدث حاليا.

ونحن في مسيس الحاجة لدعم مستشفي بالغ الأهمية كمستشفى الأطفال بأبوالريش، حيث يضطر الأهالى لفعل ما يفعله أهالى مرضى السرطان، وحيث يموت الأطفال بسبب نقص العلاج أو بعض أنواعه غالية الثمن.. وهذه سبة حضارية في جبين مصر العظيمة.. وميزانية معهد القلب بحاجة إلى دعم كبير، وكذلك «مركز غنيم» للكلى بجامعة المنصورة، ومعهد الكبد بجامعة المنوفية، وغيرها.. وغيرها..

ومطلوب من الإعلام تركيز اهتمام كبير على كل هذه المؤسسات العلمية والعلاجية الهامة، وما تواجهه من تصور كبير في ميزانيتها، بدلا من التركيز على مؤسسات غنية مثيرة للجدل مثل مستشفى «٥٧٣٥٧».

ومطلوب من المواطنين توجيه تبرعاتهم وأموال زكاتهم إلى مثل هذه المؤسسات العلمية والعلاجية الهامة، بدلا من الجمعيات المثيرة للريبة، التى يمكن أن تتسرب الأموال عبرها لأغراض لا يعلمها إلا الله.

كل ذلك مطلوب إلى أن يفيق أثرياء ومترفو هذا المجتمع لأداء دورهم المفروض.. وإلى أن تصحو ضمائرهم التي تغط فى نوم عميق.

وبديهى أن كل هذه الجهود مكملة لدور الدولة الأساسى في الإنفاق علي الصحة العامة، والذى نعتبر بلوغه للحد الأدنى الدستورى هذا العام (٣٪) خطوة في الاتجاه الصحيح، ننتظر أن تتلوها خطوات أخرى.

رحم الله شهداء تفجير معهد الأورام وأعان مرضاه على ما يعانونه..

وتحية واجبة لابن مصر الأصيل.. النجم محمد صلاح.. ولعل الرسالة التى بعث بها والقدوة التى قدمها تصل إلى الجميع..

 

 

 

 

 

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE