الأموال
الخميس، 25 أبريل 2024 03:08 مـ
  • hdb
16 شوال 1445
25 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

 د. محمد فراج يكتب .. أزمة ترامب مع أوروبا.. بين الحرب التجارية والإنفاق العسكرى «للناتو» (2/2)

الأموال

تحدثنا فى الجزء الأول من هذا المقال (الأموال 22/ 7/ 2018) عن الأزمة القائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بسبب العجز التجارى الأمريكى تجاه «الاتحاد» من جهة، وضعف الإنفاق العسكرى الأوروبى فى إطار حلف «الناتو» من جهة أخرى.. وهو ما يعبّر عنه ترامب بأن العجز التجارى ناتج عن «الشروط غير العادلة» من جانب أوروبا للتجارة مع أمريكا التي تقوم بـ«حماية أوروبا» وتدفع أكثر من 70٪ من الإنفاق العسكرى لحلف «الناتو».. بينما تبخل أوروبا بالإنفاق على «حماية نفسها»، وتثرى وتحقق الرفاهية لشعوبها على حساب أمريكا حسب وجهة نظر ترامب، الذى يتجاهل الدوافع «الإمبراطورية» لبلاده خلف إنفاقها العسكرى الضخم، ويخلط عمدًا بين الإنفاق الأمريكى على «الناتو» والأمن فى أوروبا من ناحية، والإنفاق على سباق التسلح ومئات القواعد العسكرية المنتشرة فى العالم، والمغامرات العسكرية الأمريكية وتبعاتها الضخمة (وأيضًا مكاسبها المرجوة) من جانب آخر.. كما يخلط متعمدًا من جهة أخرى بين ما هو تجارى وما هو عسكرى..

وللإيضاح نقول إن دراسة نشرتها شبكة «يورونيوز» (11 يوليو 2018 ـ ويمكن الوصول إليها على جوجل arabic.euronews.com.. وعلى مواد أخرى مشابهة وذات مصداقية، تحت عنوان: الإنفاق العسكرى للاتحاد الأوروبى/ الموازنة العسكرية للناتو).. وتعتمد على الأرقام الرسمية لكل من الاتحاد الأوروبي و«الناتو».. تشير إلى أن ما تنفقه الولايات المتحدة فى إطار الحلف يبلغ (100 مليار دولار) من إجمالى موازنتها العسكرية البالغة (700 مليار).. وبرغم جسامة المبلغ المذكور (100مليار دولار) فإن الخلط بينه وبين الموازنة العسكرية العامة يؤدى بالضرورة إلى استنتاجات خاطئة.

>> ومن ناحية ثانية فإن «الناتو» هو ذراع عسكرية للولايات المتحدة في صراعاتها (الإمبراطورية) لبسط نفوذها العالمى، وليس للدفاع عن أوروبا فقط.. فقوات «الناتو» موجودة مثلا فى دولة كأفغانستان منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001.. ووجودها يكلّف عشرات المليارات من الدولارات سنويًا.. وفى صفوفها آلاف من أفراد الجيش الألمانى.

وبالمناسبة يجب القول إن ترامب (يبالغ قليلا!) حينما يتحدث عن الإنفاق العسكرى الأمريكى (700 مليار لهذا العام و716 مليار دولار مقررة لموازنة 2019، حسب مشروع الميزانية العسكرية).. إلاّ أن هذا الرقم يساوى (3.6٪) فقط من الناتج المحلى الأمريكى، وليس 4٪ كما يقول ترامب ويكرّر.. والفارق ليس قليلاً، إذ يبلغ نحو (80 مليار دولار)!

على أى حال.. تظل النسبة كبيرة إذا ما قُورنت بالإنفاق العسكرى الأوروبى، فبريطانيا صاحبة أكبر إنفاق عسكرى أوروبى تبلغ موازنتها العسكرية (61 مليار دولار تعادل 2.2٪ من ناتجها المحلى الإجمالى) ــ (ونستند هنا إلى الدراسة المذكورة أعلاه والمنشورة على موقع يورونيوز) وفرنسا تبلغ موازنتها العسكرية (52 مليار دولار تعادل 1.78٪ من الناتج المحلى).. بينما تنفق ألمانيا ــ القوة الاقتصادية الكبرى فى الاتحاد الأروبي ــ (51 مليار دولار فقط تعادل 1.24٪ من ناتجها المحلى الإجمالى.. وتنوى زيادتها إلى 1.31٪ من الناتج المحلى العام القادم).. بينما تنفق إيطاليا (1.1٪) فقط من ناتجها المحلى على الدفاع.. وبشكل عام فإن (5 دول) فقط من أعضاء الاتحاد الأوروبي هى التى تنفق 2٪ أو أكثر من ناتجها المحلى الإجمالى علي الدفاع هى (بريطانيا، وإسبانيا، واليونان، وبولندا، واستونيا) بينما تقترب ليتوانيا ولاتفيا من النسبة المقرر بلوغها بحلول 2024.. وهناك شكوك قوية في أن تتحقق النسبة المذكورة (2٪) لدى جميع دول «الناتو» الأوروبية.

غير أن أكثر ما يثير حفيظة ترامب هى ألمانيا، التى يزيد ناتجها المحلى الإجمالى على (4 تريليونات دولار عام 2017).. وأكبر قوة اقتصادية أوروبية، وصاحبة الفائض التجارى الكبير مع أمريكا.. والتى لا يكف ترامب عن مهاجمتها بسبب هذا الفائض التجارى الكبير، وبسبب قلة إنفاقها الدفاعى.

هذا العام قفزت إلى مقدمة انتقادات ترامب لألمانيا مسألة استيرادها للغاز الطبيعى من روسيا (بما يغطى 35٪ من احتياجات السوق الألمانى من الغاز) وأيضًا بسبب خطتها لمدّ خط أنابيب جديد لنقل الغاز من روسيا إليها.

هنا يخلط ترامب بصورة فجة.. فيقول للألمان بكل بساطة: أنتم تدفعون المليارات كل عام للخزانة الروسية.. بينما نحن ندفع المليارات لحمايتكم من روسيا.. والأَولى بكم أن تستوردوا الغاز منا..

والواقع أن هذا منطق غريب في عالم التجارة والاقتصاد عمومًا.. فأغلب دول العالم لديها مصالح اقتصادية مع دول أخرى تمثل منافسًا اقتصاديًا أو استراتيجيًا لها.. وأكبر شريك تجارى لأمريكا مثلا هى الصين التى تُعلن كل الوثائق الاستراتيجية الأمريكية بوضوح تام أنها تمثل أكبر خطر على الأمن القومى الأمرىكى، وأكبر تهديد للسيطرة الأمريكية على العالم، وعلى آسيا بشكل خاص.. والصين أيضًا هى أكبر مستثمر فى سندات الخزانة الأمريكية.. أى أكبر دائن لواشنطن.. فهل يترتب على ذلك أن تقطع واشنطن علاقاتها الاقتصادية ببكين وتسحب استثماراتها من الصين؟ وقس على ذلك مثلا العلاقات بين الصين والهند المتنافستين اقتصاديًا واستراتيجيًا.. والعلاقات بين تركيا وإيران.. وهكذا وهلم جرا.. فهذه قاعدة معروفة في العلاقات الدولية.

>> فبأى منطق يحرم على ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى ما يحل لأمريكا؟!

>> المسألة أن الولايات المتحدة اكتشفت فى أراضيها خلال السنوات الأخيرة كميات هائلة من النفط الصخرى والغاز الصخرى وهى بحاجة لتسويق هذا الغاز.. ولن تجد أفضل من السوق الأوروبية لاستيراده، خاصة مع ما هو معروف عن أوروبا من تفضيل لمصادر الطاقة النظيفة (كالغاز).. لكن استيراد الغاز الأمريكى أكثر تكلفة بكثير من استيراد الغاز الروسى. فالمعروف أن الطريقة المثلى لنقل الغاز هى استخدام خطوط الأنابيب.. أما إذا استحال مد هذه الخطوط فإن التصدير باستخدام الناقلات يقتضي إقامة منشآت لتسييل الغاز فى بلد المنشأ، ثم بناء أساطيل من السفن الناقلة، ثم إقامة منشآت أخرى فى البلد المستورد لاستقبال الغاز المسال، وإعادته إلى الحالة الغازية، ونقله عبر أنابيب إلى جهة الاستخدام.. وكل هذه العمليات فادحة التكلفة، وتحتاج إلى استثمارات هائلة.. وتنعكس على أسعار الغاز بالطبع.

والحال أن المسافة بين الموانئ الروسية والموانئ الألمانية لا تزيد علي مئات قليلة من الكيلومترات.. وهناك خط أنابيب الآن يعمل منذ سنوات طويلة، والخط الثانى (التيار الشمالى ـ 2) سيكون موازيًا للأول، فى قاع بحر البلطيق، ولا يحتاج إلى جهود خارقة لبنائه.

>> أما الغاز الأمريكى فيفصل بينه وبين أمريكا آلاف الكيلومترات (المحيط الأطلسى بكامله).. ومد خط أنابيب على امتداد قاع المحيط بكل تضاريسه المعقدة يكاد يكون مستحيلا من الناحية الفنية، فضلا عن تكلفته الخرافية، فى حالة ما إذا أمكن التغلب على المشكلات الفنية..

> > أما فى حالة النقل بالسفن، فإن الأمر يقتضى إقامة ماسبق لنا ذكره من موانئ للإسالة والتصدير، وموانئ للاستقبال والإعادة للحالة الغازية، فضلا عن أسطول هائل من السفن الناقلة.. وكل هذا يقتضى إقامة بنية تحتية تصل تكلفتها إلى مئات المليارات من الدولارات.. مما ينعكس على سعر الغاز بنسبة تتراوح بين الثلث والنصف حسب تقديرات متفاوتة.

> > وقبل ذلك هناك سؤال مهم جدًا: من الذى يدفع تكلفة كل هذه المنشآت والناقلات؟

يقترح ترامب علي ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى بناء شبكة من الموانئ لاستقبال الغاز الأمريكى.. ولا يتطرق إلى تكلفة الناقلات!! وهذا ما يُسمى في لغة البشر بـ(الاستعباط الرسمى)!! ونعتذر عن التعبير العامى.. فوفقًا لهذا الاقتراح (الذكى) على أوروبا ـ وخاصة ألمانيا ـ أن تدفع مئات المليارات من الدولارات، لكي تشترى الغاز الأمريكى بسعر يبلغ مرة وثلثًا فى أفضل الأحوال ـ تصل إلى مرة ونصف ـ من سعر الغاز الروسى!! أى أن تقبل بتدمير الازدهار الاقتصادى الألمانى والأوروبى من أجل عيون السيد ترامب وبلاده!! وبديهى أن أوروبا لن تقبل بهذه الدعوة المضحكة للانتحار الطوعى..

ومعروف أن الولايات المتحدة كانت قد فرضت عقوبات على شركات البترول (والغاز) الروسية فى إطار الأزمة الأوكرانية.. كما أعلنت فرض نفس العقوبات علي أى شركات أجنبية تتعاون في أى مشروع مع الشركات الروسية المذكورة (وفى مقدمة هذه العقوبات منع البنوك من إقراض تلك الشركات ومنع إمدادها بتكنولوجيات معينة..إلخ).

والآن تهدد واشنطن الشركات الألمانية المتعاونة مع الشركات الروسية فى مد خط أنابيب (التيار الشمالى -2) بتطبيق العقوبات المذكورة عليها إذا واصلت العمل في المشروع!! وهو ما ردت عليه المستشار أنجيلا ميركل بحدّة، وقالت إن برلين لن تسمح بتطبيق أى عقوبات علي الشركات الألمانية.. وهذا من أهم أسباب التوتر في العلاقات الألمانية ـ الأمريكية حاليًا بالإضافة إلى مشكلة الرسوم الجمركية الحمائية الأمريكية، وقضية الإنفاق العسكرى الأوروبى (والألمانى) ورغبة أمريكا في أن يذهب لشراء أسلحة ومعدات عسكرية أمريكية لا أوروبية.

> > وهكذا تلتقى كل الخيوط (المطالب) الأمريكية تجاه أوروبا فى عقدة واحدة: نحن نحميكم وإذن فإن عليكم أن تقبلوا بالرسوم الجمركية الحمائية ضد بضائعكم، ولا تردوا عليها.. وأن تُزيدوا من إنفاقكم العسكرى بما يخفف العبء علينا، ولا يهمنا ما سيحدث لازدهاركم الاقتصادى.. وعليكم أن تشتروا بهذه الأموال أسلحة أمريكية،وليس أسلحة مما تنتج مصانعكم.. وعليكم أن تشتروا وقودكم من أمريكا وليس من روسيا مهما كلفكم هذا من نفقات باهظة، بل قاصمة للظهر!!

> > وإن لم تفعلوا فسنغضب عليكم.. وسنشن عليكم حربًا تجارية ضارية.. وسنراجع موقفنا من حلف الأطلنطى.. ونترككم لمصيركم فى مواجهة الدب الروسي المخيف (الذى نسعى للتعاون معه فيما يناسبنا.. ولكنكم ممنوعون من التعاون معه فيما يناسبكم)!!

وبديهى أن هذه الصفقة لن تلقي القبول من جانب أوروبا لأن القبول بها يعنى الانتحار.. وخاصة بالنسبة لألمانيا..

وهكذا فإن علينا أن نتوقع مرحلة  ـ قد تطول ـ من توتر العلاقات الأوروبية الأمريكية.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE