الأموال
الخميس، 25 أبريل 2024 08:00 صـ
  • hdb
16 شوال 1445
25 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب .. عودة مهاتير محمد صاحب المعجزة الماليزية (3 ـ 3)

الأموال

ذكرنا فى المقالين السابقين أن التركيز على التعليم والصناعة كان في مقدمة الأسس التى بنى عليها د. مهاتير محمد تجربته التنموية.. وأن هذه الحقيقة هى من أهم دروس تلك التجربة الرائدة. ونود أن نشير هنا إلى أن إنفاق الدولة الماليزية على التعليم في سنوات حكم مهاتير «1981 ــ 2003» كان يتراوح بين «18٪ ـ 20٪» من الموازنة.. أى حوالى «6٪» من الناتج المحلى الإجمالى.

وكان القائمون علي التعليم يولون جل اهتمامهم لتعليم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم الهندسية والتكنولوجية، وكذلك للغة الإنجليزية باعتبارها لغة التواصل الأولى في العلوم والتكنولوجيا في العالم. وقد أشرنا قبل ذلك إلى أن إرسال آلاف المبعوثين إلى مختلف جامعات العالم المتقدمة، ودعوة الأساتذة والخبراء الأجانب للتدريس فى الجامعات والعمل في المؤسسات الإنتاجية الماليزية، كان نهجا ثابتا لحكومة الدكتور مهاتير محمد.

وكان الربط بين المدارس (وخاصة الفنية) والجامعات «وخاصة الكليات التكنولوجية» من ناحية والمؤسسات الإنتاجية من ناحية أخرى، إحدي أهم سمات السياسة التعليمية.

كما كان تعليم الكمبيوتر، ونشره في المدارس والجامعات والربط بين المؤسسات التعليمية والإنتاجية، وإقامة شبكة «إنترنت» قوية في البلاد وربطها القوى بالشبكةالعالمية، وبالأسواق التى تهم ماليزيا.. سمة أساسية لسياسة التعليم والاتصالات.

كما أولت السياسة التعليمية اهتماما كبيرا لرياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ونجحت ماليزيا في إقامة واحد من النظم التعليمية المتقدمة في العالم، خلال أقل من عقدين من الزمان «تم ربط المدارس بشبكة الإنترنت عام 1996» (راجع كتاب: النمر الآسيوى.. مهاتير محمد ص99 ـ 106.. تأليف عادل الجوجرى ـ إصدار دار الكتاب العربى في 311 صفحة).. ونود الإشارة إلى اعتمادنا الأساسى على البيانات الواردة في هذا الكتاب، الذى يقدم عرضا مستفيضًا لكتابات د. مهاتير محمد وبعض خطاباته، ولعدد من الدراسات الأكاديمية عن التجربة الماليزية، ويستند الكتاب إلي إحصاءات صندوق النقد الدولى والبنك الدولي والأرقام الرسمية الماليزية. وقد قمنا بمضاهاة الأرقام الواردة به بأرقام البنك والصندوق وما لدينا من مصادر نثبت صحتها.. ولأن الكتاب صادر عام 2008، فإن الأرقام والمعلومات الواردة بعد هذا التاريخ تقع مسئوليتها علينا.. وهى مأخوذة من البنك والصندوق أو من مصادر موثوقة.

> > أما فيما يتصل بالصناعة فقد اتجهت ماليزيا للتركيز على الصناعات المتقدمة، وخاصة الصناعات الهندسية والإلكترونية، وحققت نتائج جيدة مكنتها من انتزاع مكان لها في أسواق عالمية تتسم المنافسة فيها بالشراسة. وساعدت المراقبة الصارمة للجودة علي فتح المجال أمام الصادرات الماليزية، ويكفي أن نشير إلى أن ماليزيا لديها سيارتها الوطنية الصنع بالكامل منذ سنوات طويلة «بروتون ساكا».. وتعتبر من أكبر منتجى ومصدرى الدوائر الإلكترونية المتكاملة فى العالم، ومن الدول الرائدة فى صناعة الأجهزة الإلكترونية المنزلية، والأهم.. فى صناعة أشباه الموصلات ورقائق السليكون، وتحتل هذه السلع مقدمة صادراتها (راجع موقع: المعرفة www.marefa.org وأيضًا مركز الروابط للدراسات الاستراتيجية والسياسية betcenter.com.anhives 53435) ومواقع عديدة أخرى تحت عنوان: ماليزيا/ صادرات الصناعات المتقدمة علي جوجل.

>> ومعروف أنه كلما ازدادت نسبة المكون التكنولوجى المتطور (ومن باب أولى.. رفيع التطور) فى أى منتج فإن قيمته المضافة تزداد، وبالتالى فإن سعر المنتج وقيمة الصادرات ترتفع، وهو ما يعود علي الاقتصاد القومى بمردود أعلى.. وهكذا.. وبالتالى يصبح صانع القرار الاقتصادى أكثر قدرة علي توجيه مزيد من الموارد للقطاعات الاقتصادية الأقل تطورًا (كالزراعة مثلا).. ولقطاعات الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة وتحسين مستوى الرفاهية الاجتماعية عموما، فضلا عن رفع مستوى الأجور، ومن ثم الادخار كنتيجة مباشرة للتقدم الصناعى.

> > > وهذا بدوره درس من أهم دروس التجربة الماليزية..

نسبة النمو المرتفعة في الاقتصاد الماليزى كانت عنصر جذب شديد الأهمية للاستثمارات الأجنبية المباشرة فى مختلف قطاعات هذا الاقتصاد المتطور، التى سبق الإشارة إليها، وكانت الاستثمارات الأمريكية واليابانية فى مقدمة الاستثمارات التى اجتذبها الاقتصاد الماليزى.

إلا أن حكومة مهاتير محمد كانت شديدة الحرص على تعظيم الادخار المحلى ليلعب دورًا أكبر في تنمية اقتصاد البلاد، واستندت في هذا المجال إلى استنهاض الروح الوطنية، وما يعرف بـ«التقاليد الآسيوية» فى الاستهلاك المعتدل، فضلا عن الترشيد الصارم للإنفاق الحكومى، وضرب المسئولين للمثل أمام المواطنين في البعد عن مظاهر «الأبهة» والاستهلاك الترفى، وتوظيف عمال الخدمات والسكرتارية، وإقامة المكاتب الفاخرة.. الخ.

وكانت محصلة ذلك كله وصول نسبة الادخار إلى 35٪ من الناتج المحلى سنويا (النمر الآسيوى.. مهاتير محمد: ص 17 و18) الأمر الذى أتاح للبلاد والاعتماد على نفسها إلى حد كبير في تمويل الاستثمار، وقلّل من درجة تبعيتها للخارج.. كما أعطى دفعة كبيرة لنمو الاقتصاد الوطنى، وجدير بالذكر أن الحكومة قامت بدور كبير فى الاستثمار وإقامة المشروعات الاقتصادية، مع تشجيعها المستمر للقطاع الخاص، وفتح المجالات أمامه للعب دور أكبر في التنمية، جنبًا إلى جنب مع الدور القيادى للدولة، (النمر الآسيوى مهاتير محمد ــ ص67 و68.. وانظر أيضًا: ص 13 ـ 18).

وساعد هذا الدور القيادى للدولة، مع الحرص علي استقلال القرار السياسى والاقتصادى ماليزيا على تجاوز  أزمتين كبيرتين، كانت أولاهما الأزمة المالية لعام 1997، المرتبطة بمضاربات الملياردير الأمريكى ـ المجرى الأصل (جورج سوروس) الضخمة بالعملات الآسيوية والدولية، وتحريكه هو وعدد من رجال المال الغربيين الآخرين لكميات هائلة من «الأموال الساخنة» فى البورصات الآسيوية، بالدخول ثم الانسحاب المفاجئ.. الخ.. مما أدى لانهيارات متتالية في بورصات وأسعار صرف عملات دول النمور الآسيوية وقتها.. وكان من أهم العوامل التي سهلت وقوع هذه الكارثة، ذلك الانفتاح المطلق لأسواق تلك البلدان أمام حركة رؤوس الأموال الأجنبية، بما فيها «الأموال الساخنة».. بينما كانت السوق الماليزية تخضع لضوابط تشريعية وعملية فى إطار الدور القيادى للدولة، وما عرف باسم «السوق المحكومة».. مما جعل أثر الكارثة على ماليزيا أقل، وإن لم تفلت من آثارها تمامًا بالطبع بحكم ارتباطها بالأسواق المذكورة «النمور الآسيوية» وبرأس المال العالمى.. وحينما احتاجت الأسواق المذكورة لمساعدة صندوق النقد الدولى، واجهها الصندوق بشروطه المعروفة من خفض لأسعار صرف عملاتها، وخصخصة مشروعات الدولة، وتدخل في صياغة سياساتها النقدية «والمالية».. إلخ.. لكن مهاتير محمد كان الوحيد الذى رفض تدخل صندوق النقد الدولى «وروشتته» واتخذ إجراءات لمواجهة الوضع اعتمادًا على مدخرات بلاده ومواردها المحلية.. ونجحت ماليزيا فى مواجهة الأزمة أسرع من تلك الدول التي خضعت لصندوق النقد الدولى.

وعادت خلال سنوات قليلة لتحقيق نسب النمو المرتفعة التي كانت تحققها قبل انفجار الأزمة «7٪ أو أكثر» (راجع: النمر الآسيوى ـ مهاتير محمد ـ ص 67 ـ 68).. وجنَّبت شعبها الآثار شديدة القسوة لروشتة صندوق النقد الدولى.

ومنذ ذلك الوقت أصبح مهاتير محمد رمزًا ليس «للمعجزة الاقتصادية الماليزية» فحسب.. بل وأيضًا للإرادة الوطنية، ولاستقلالية القرار الوطنى.. وتحقيق النجاح.. واستمرار «المعجزة» في مواجهة إملاءات الدول الغربية ومؤسساتها التمويلية وفى مقدمتها صندوق النقد.. وضد إملاءات تلك الدول والمؤسسات، وحفظ التاريخ اسم ذلك الطبيب السياسى والزعيم الوطنى صانع «المعجزة الماليزية» كمنتصر على صندوق النقد الدولى.. وهذا ما فعله أيضًا خلفاء مهاتير في مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية العالمية فى 2008/ 2009.. ربما بتفاصيل تختلف إلى هذا الحد أو ذاك.. لكنها تعتمد على نفس الجوهر.. القرار الوطنى المستقل، ورفض إملاءات الصندوق التى تدفع الشعوب ثمنها غاليًا، ولا يستفيد منها إلا رؤوس الأموال الاحتكارية فى الدول الغربية الكبرى.. وأتباعها في الدول الصغيرة.

<< ويظل هذا الدرس بدوره واحدًا من أهم الدروس التى قدمتها التجربة الماليزية الرائدة لشعوب العالم الثالث.. تحية لماليزيا وقياداتها الوطنية.. ولصانع معجزتها الاقتصادية الدكتور مهاتير محمد.. الذى أعاده شعبه إلي الحكم منذ أسابيع ــ بعد 15 عامًا من اعتزاله الطوعى ـ ليجدد ألق المعجزة الماليزية.. ويضخ فى عروقها دماءًَ جديدة «شابة».. وهو في الثانية والتسعين من عمره المثمر والمديد بإذن الله.

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE