الأموال
الجمعة، 19 أبريل 2024 04:41 مـ
  • hdb
10 شوال 1445
19 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

دكتور محمد فراج أبوالنور يكتب: موسم الهجوم علي ثورة يوليو!!

الأموال

 

من أعجب المفارقات أن ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي تمثل واحدا من أعظم الأحداث في تاريخ مصر وأبعدها أثراً في التطور السياسي والاقتصادى والاجتماعى للبلاد وقد أصبحت ذكراها كل عام منذ أواسط السبعينيات مناسبة لهجوم واسع النطاق على الثورة، وتسفيه إنجازاتها الكبري، وتضخيم أعضائها والمبالغة فيها، من جانب بعض القوي السياسية ووسائل الإعلام، بحيث أصبحت ذكرى الثورة المجيدة في كل عام بمثابة «موسم للهجوم على الثورة» وخاصة من جانب الإخوان المسلمين والسلفيين وممثلى القوي الاجتماعية التي تعرضت مصالحها لضربات الثورة كالإقطاعيين والمستفيدين من الحكم الملكى الرجعى العميل والمرتبطين سياسيا واقتصاديا بالاستعمار الإنجليزى والعالمي.

وبعد أن كانت ذكرى ثورة يوليو مناسبة لإعلاء ثقافة وقيم الوطنية والحرية والعدالة والمساواة وتقدير جدارة المواطنين بالارتقاء في السلم الاجتماعى علي أساس العلم والعمل والاجتهاد وخدمة المجتمع (أفلام مثل «رد قلبى» و«الأيدى الناعمة».. وما شابههما من أفلام ومسرحيات ومقالات) أصبحنا نرى اهتماما واسع النطاق بأفلام ومسلسلات ومقالات تركز علي الإعلاء من شأن أفراد العائلة المالكة وما يسمى بـ«الطبقة الارستقراطية»  وتختزل ــ والأصح أن نقول تبتذل ــ تاريخ مصر في المغامرات العاطفية ومؤامرات القصور والجوارى والحريم (كقصة حياة الملك المخلوع فاروق ومغامرات والدته نازلي وبلاطه، و«قصر عابدين» و«هوانم جاردن سيتى» وغيرها وكلها أعمال  لا قيمة لها من الناحية الفنية، تقدم تاريخ مصر بصورة مشوهة ومبتذلة، متجاهلة الأحداث الجسام التى شهدتها البلاد، وصنعت تاريخها وتاريخ المنطقة والنضال العظيم الذى خاضه الشعب المصرى من أجل تحرير البلاد من الاستعمار التركى ثم الانجليزى ومن سيطرة كبار الملاك والأسرة المالكة التى نخرها الفساد، ووكلاء المستعمر الذين استولوا على القسم الأعظم من ثروات الشعب المصرى وأراضيه فيما يعرف بـ«مجتمع النصف في المائة» ومثلوا ركيزة للاستعمار البريطانى، وعائقا هائلا أمام إمكانية تقدم البلاد ولحاقها بالعصر الحديث.. بينما كان الشعب المصري غارقاً في ظلام الجهل والفقر والمرض بأغلبيته الساحقة، فكانت نسبة الأمية ٩٠٪ والأمراض المتوطنة من ملاريا وبلهارسيا وإنكلستوما وغيرها منتشرة بصورة وبائية تهد عافية المصريين وتقصف أعمارهم، ثم تجىء أوبئة مثل الكوليرا كل بضع سنوات لتحصد أرواحهم بالجملة.

وبعد هزيمة محاولة محمد علي لبناء دولة حديثة قوية، ثم هزيمة تجربة الخديو إسماعيل للتحرر من قبضة الدائنين البريطانيين والفرنسيين، وإقامة برلمان محدود الصلاحيات، ومن ثم عزل إسماعيل وتولية ابنه توفيق العميل، تعرضت آمال المصريين في الحرية لنكسة كبري بهزيمة الثورة العرابية، ثم احتلال البلاد من جانب بريطانيا عام ١٨٨٢.. لتغرق مصر في ظلام الاحتلال والاستبداد الملكى والإقطاعى قرابة ثلاثة عقود، حتى قيام ثورة ١٩١٩ التي ناصبها القصر والإقطاعيون المرتبطون به والاحتلال البريطانى أشد العداء.. ووجهوا آلة قمعهم ضدها وضد جماهيرها وزعيمها سعد زغلول وعدد من قيادات مصر الوطنية.

وقد استطاعت ثورة ١٩١٩ انتزاع مكاسب وطنية وديمقراطية هامة بالرغم من أي مآخذ يمكن أن تحسب عليها. ونشير هنا بصفة خاصة إلي دستور ١٩٢٣ والنظام البرلمانى والدستورى الذى نشأ علي أساسه، وإلى تجربة الزعيم الوطنى الكبير طلعت حرب في تأسيس بنك مصر (١٩٢٠) ومجموعة الشركات التى أسسها والتي عبرت عن طموح الشعب المصري الرأسمالية الوطنية لبناء اقتصاد وطنى مستقل منافس للسيطرة الأجنبية علي اقتصاد البلاد «شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى» ومصر صباغي البيضا في كفر الدوار، ومصر للطيران، واستوديو مصر للسينما، مطبعة نهضة مصر، وشركة بيع المصنوعات المصرية وغيرها، إلا أن هذه التجربة الوطنية الرائدة تعرضت لحرب ضروس من جانب القصر والاحتلال حتي تم إجبار طلعت حرب علي الاستقالة من رئاسة بنك مصر، ليتولي رئاسته حافظ عفيفي رئيس الديوان الملكى!!

كما تعرض اتحاد نقابات العمال الذى سمحت حكومة الوفد بتأسيسه عام ١٩٤٢ لحرب ضروس من جانب حكومات الأقلية الموالية للقصر والاحتلال، والتي تولت الحكم مرات عديدة بعد عزل حكومات حزب الوفد، وحل البرلمان الذي يملك فيه الأغلبية، حيث كان هو الحزب الذى يقود النضال الوطنى، ويحظى بنسبة الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصرى.

إلاّ أنه بالرغم من اللحظات المشرقة والانتصارات التي حققها الشعب المصرى في نضاله ضد الاحتلال البريطانى والقصر الملكي والإقطاع المرتبط بهما فقد ظل الاستعمار جاثماً علي صدر البلاد أو مسيطرا علي اقتصاده، كما ظل القصر الملكى المتحالف مع الاحتلال مسيطرا على الحكم وظلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع (النصف في المائة) على النحو الذى أشرنا إليه في بداية مقالنا ثم ازدادت الأوضاع تعقيدا وتأزما بعد اشتداد ساعد الحركة الشعبية في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية واندلات موجات التحرر الوطنى في أنحاء مختلفة من العالم، ثم هزيمة الجيش في حرب فلسطين، وبصورة أخص بعد إعلان حكومة الوفد برئاسة الزعيم مصطفي النحاس إنهاء العمل باتفاقية ١٩٣٦ ومطالبة المصريين بعدم التعاون مع قوات الاحتلال ومعسكراتها في منطقة القناة.. واندلاع حريق القاهرة يناير ١٩٥١ بعد ٣ شهور من إعلان موقف النحاس المذكور.

وهكذا فقد كانت مصر تواجه أوضاعا متأزمة لا يبدو لها مخرج.. وكان النظام الملكي يطيح بحكومات وبرلمان حزب الأغلبية غير مبال بالإرادة الشعبية ولا بدعاوى الديمقراطية والليبرالية.. وكانت الفوضي تهدد البلاد من كل جانب.. والآفاق تبدو مسدودة أمام البلاد.. والنضال الشعبي من أجل (الجلاء وحكم الدستور) يتعرض لقمع متزايد.. ولم يكن هناك مجال للتغيير بدون تحرك الجيش.. القوة الوطنية الوحيدة المنظمة، القادرة علي الإطاحة بالملكية المستبدة والرجعية، وتحالفها مع الاستعمار من جهة، ومع الإقطاع من جهة أخرى..

وكان إصدار قانون الإصلاح الزراعى في ٩ سبتمبر 1952 أى بعد أقل من شهر ونصف عن قيام ثورة ٢٣ يوليو بمثابة ضربة قاصمة للإقطاع المهيمن علي الزراعة المصرية، ومن ثم بمثابة إزالة للعقبة الكبري أمام عبودية الفلاحين ووقف إهدار الفائض الاقتصادى الناتج عن الزراعة (القطاع الرئيسى في الاقتصاد المصرى وقتها) علي يد الطبقة الإقطاعية وكان توزيع الأراضي علي الفلاحين يعنى تحسين الأحوال المعيشية للغالبية الساحقة من السكان.. وبالتالي فتح الأبواب أمام نشوء قوى شرائية حقيقية.. وبتعبير آخر أمام سوق الرأسمالية، وفتح آفاق التطور أمام التصنيع وتوسيع السوق.. وتعليم الفلاحين وبالتالي التحاقهم بعملية التصنيع.. وباختصار أمام التطور (الرأسمالي) للبلاد.

الإقطاعيون وأفراد الأسرة المالكة الذين أوجعتهم بمصادرة أراضيهم (ومعهم الإخوان) أخذوا يصرخون متهمين عبدالناصر (بالشيوعية!!) خاصة مع لجوئه للاتحاد السوفيتى للحصول علي السلاح بعد رفض الغرب تزويد مصر به وكانت هذه أكذوبة كبرى، أو تعبيرا عن جهل القائلين بها ببديهيات الاقتصاد السياسى بالمناسبة فإن شعار «الإصلاح الزراعى» كان أهم من يرفعه ويدعو إليه في ذلك الوقت الولايات المتحدة الأمريكية!! لماذا!! من أجل فتح الأبواب أمام تطور الأسواق الرأسمالية، وبالتالي أمام إمكانية تطوير الصادرات الأمريكية إلي دول العالم الثالث التي كانت الدول الاستعمارية القديمة تستأثر بها.

نعم.. وبغض النظر عن التحالف السياسى والعسكرى مع الاتحاد السوفيتى، فإن ثورة يوليو وحكم عبدالناصر لم يتجه للشيوعية المزعومة خطوة واحدة ــ وإنما اتجه لبناء الرأسمالية الوطنية المنتجة تحديدا.

وفي هذا السياق (وفي سياق رفض الثورة لسياسة الأحلاف) حدث صدام مع الغرب وتم تأميم قناة السويس (وهزيمة العدوان الثلاثى) وبناء السد العالي الذي حسّن أوضاع الزراعة  وساعد علي كهربة البلاد، ومن ثم علي دفع عملية التصنيع.. التى حملت باستمرار شعار «الإحلال محل الواردات» ــ أى الاستقلال بالسوق الوطنى.

وكان تحرير الفلاحين وتحسين أوضاعهم المعيشية، ومجانية التعليم ــ أساسا لتوسيع الطبقة العاملة الحديثة ولتوفير الكوادر المتعلمة الضرورية لبناء الدولة وجيشها وتلبية احتياجات الصناعة والبناء الاقتصادى ومن ثم (تحديث البلاد) بأيد مصرية أساساً وبالتعاون مع الخبرات الفنية الأجنبية التى أبدت دولها استعدادا لدعم مصر.. وبالطبع تحقيقا لمصالحها الاستراتيجية.

هذه هى مأثرة ثورة يوليو ١٩٥٢ ومأثرة عبدالناصر التى كان القيام بها بدون الثورة سيحتاج إلي عقود أطول بكثير.

أما الذين يتباكون علي مصر الزراعية (سلة غلال العالم) فهم مقطوعو الصلة بالعصر.. وأما الذين يقولون إن الثورة دمرت الاقتصاد ونقلتنا من بلد دائن لبريطانيا العظمى إلي بلد مدين.. فيجب أن يعرفوا أن ديون بريطانيا لنا لم تكن بسبب صادرات صناعية أو حتى زراعية، إنما مقابل استخدامها لمرافق مصر من كهرباء وماء وطرق وغير ذلك أثناء وجود القوات البريطانية علي أراضينا خلال الحرب العالمية الثانية.. وهذا ليس دليلا علي قوة الاقتصاد، وإنما علي خضوع مستعمرة منتهكة السيادة.

وبالتأكيد كان لثورة يوليو ١٩٥٢ ولعبدالناصر أخطاء.. بل وأخطاء فادحة.. وهذه موضوعات يتحدث عنها الكثيرون، فلا حاجة بنا للحديث عنها.. بل ويبالغون ما شاء لهم الهوى، وما شاءت الرغبة فى الانتقام السياسى والاجتماعى.. لكن المؤكد أن ثورة يوليو فتحت الطريق لمصر للالتحاق بالعالم المعاصر.. وأن عبدالناصر هو المؤسس الثانى لمصر الحديثة بعد محمد على.

كل عام ومصر بخير.. وعاشت الذكرى الخالدة لثورة يوليو..

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE