الأموال
الجمعة، 19 أبريل 2024 12:30 مـ
  • hdb
10 شوال 1445
19 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

 د. محمد فراج  يكتب : هدف أمريكا.. بترول فنزويلا وأسواق أمريكا اللاتينية

الأموال

يخطئ من يظن أن الهجوم الضارى الذى تشنه الولايات المتحدة علي فنزويلا هذه الأيام سببه غضب واشنطن من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان كما يدعى ترامب والساسة الأمريكان.. فهذا آخر ما يهم أمريكا.. وحينما تتحدث الإدارة الأمريكية عن الديمقراطية فعليك أن تبحث فورًا عن الأسباب الاقتصادية أو الاستراتيجية لغضبها!! وفيما يتصل بفنزويلا فإن الأمر يتصل بأكبر احتياطى بترولى فى العالم (300 مليار برميل) ــ وهو أكبر من احتياطى السعودية نفسها بنحو (30 مليار برميل) ــ وبطاقة إنتاجية تصل إلي عدة ملايين برميل في اليوم، وإن كان الإنتاج الحالى قد تدهور إلى (1.2 مليون برميل/ يوميا في نهاية 2018) لأسباب سنجىء إليها.. وهى أسباب وثيقة الصلة بأمريكا أساسًا.. وفضلا عن هذا فهناك ثروات معدنية أخرى من النحاس والفضة والقصدير وغيرها تحتويها أراضى فنزويلا ذات الموقع الاستراتيجى المهم، المطلة علي بحر الكاريبى، غير بعيد عن السواحل الأمريكية.

غير أن كل هذه الاعتبارات برغم أهميتها ليست إلا جزءا من اعتبارات أهم بكثير تتصل برغبة الولايات المتحدة في استعادة السيطرة علي قارة أمريكا الجنوبية (والوسطى)- المعروفة اصطلاحا باسم «أمريكا اللاتينية»- التي ظلت الولايات المتحدة تعتبرها مجالاً خصباً لمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية و«حديقة خلفية» لها منذ أوائل القرن التاسع عشر، بمقتضى «مبدأ مونرو» ـ وهو اسم الرئيس الأمريكى الذى أعلن هذا المبدأ (عام 1823).. ويتكون «مبدأ مونرو» من قسمين، أولهما: العزلة عن القارة الأوروبية ودولها الكبري، بما بينها من صراعات وحروب استعمارية، وثانيهما: السيطرة المطلقة، وبلا منازع على أمريكا اللاتينية عسكريا وسياسيا واقتصاديا.

وبمقتضى هذا المبدأ ظلت أمريكا اللاتينية من الناحية الفعلية مستعمرة للولايات المتحدة منذ أوائل القرن التاسع عشر، تسيطر على اقتصاداتها وثرواتها الطبيعية بالكامل، وتمارس فى مختلف دولها، الصغيرة والكبيرة، نفوذًا سياسيًا وعسكريًا ساحقًا، بالتحالف مع النخب السياسية والاقتصادية والعسكرية في تلك البلدان، وتقوم بغزو أى بلد أمريكى لاتينى يشهد تحركات شعبية تهدد هذه السيطرة، وهو ما حدث في كوبا مثلا (عام 1898).. وظل الأمر هكذا حتى سنوات قريبة.. فقامت أمريكا بغزو جواتيمالا (1954)، وهايتى وبنما، وجرينادا وغيرها بصورة مباشرة، كما تدخلت مخابراتها للإطاحة بالرئيس الاشتراكى المنتخب، سلفادور الليندى (عام 1973).. ولدعم المتمردين في نيكاراجوا في الثمانينيات والتسعينيات ضد حكم (الجبهة الساندينية) في نيكاراجوا بزعامة دانييل أورتيجا.. والأمثلة أكثر من أن يتسع لها المقام. لكننا أوردنا فقط مثالين من بين الأقرب للذاكرة.

وقد ظلت الهيمنة على أمريكا اللاتينية من بين أهم أسس ومحددات السياسة الخارجية الأمريكية طوال القرنين الماضيين.. وأحد أهم مصادر قوة وثروة الولايات المتحدة.. فأمريكا اللاتينية قارة شاسعة تبلغ مساحتها حوالي (18 مليون كم2).. وهى غنية بالثروات المعدنية والمواد الخام من البترول والنحاس والذهب والفضة القصدير والحديد والفحم.. وغيرها.. ومساحات شاسعة من الأراضى الزراعية الخصبة، تمتد من المنطقة الاستوائية شمالى القارة، إلي المناطق المعتدلة والباردة في جنوبها، بما يعنيه ذلك من تنوع المحاصيل والخامات الزراعية.. فضلا عن غناها بالمياه العذبة و(الأمطار) والغابات (نهر الأمازون والغابات الشاسعة في حوضه).. وتملك القارة سوقًا استهلاكية واسعة (أكثر من 420 مليون نسمة) في الوقت الحالى.

ويكفى أن نشير إلى أن من أهم بلدان القارة البرازيل (190 مليون نسمة/ بمساحة تقترب من الـ9 ملايين كم2.. والأهم: بناتج محلى إجمالى يبلغ 2 تريليون و140 مليون دولار أمريكى، في الترتيب التاسع للقوى الاقتصادية العالمية عام 2018 حسب أرقام صندوق النقد الدولى) والأرجنتين وتشيلى وكولومبيا والإكوادور وأوروجواى.. وأغلبها من البلدان ذات الدخل المتوسط أو فوق المتوسط حسب أرقام صندوق النقد والبنك الدوليين، ومن الأسواق الناشئة الواعدة في العالم.

وبالرغم من التبعية الشديدة من جانب أغلب دول أمريكا اللاتينية لرءوس الأموال الأمريكية، ومحاولة واشنطن الاحتفاظ بها كمصادر للمواد الخام وأسواق للسلع الأمريكية، فإن عددًا من هذه الدول (فى مقدمتها البرازيل والأرجنتين وتشيلى) قد حققت قدراً لا بأس به إطلاقًا من التطور الاقتصادى بسبب عوامل تطورها الذاتية من ناحية، وبسبب حاجة رءوس الأموال الأمريكية إلى أسواق لنشاطها، وتصدير فائض استثماراتها، واستغلال الأيدى العاملة الرخيصة في بلدان أمريكا اللاتينية، وتصدير الصناعات الملوثة للبيئة.. إلخ من ناحية أخرى.

وبالرغم من ذلك فقد ظلت أوضاع التبعية، شبه الكاملة للولايات المتحدة غالبة على أغلب تلك البلدان، حتى بدأت ثورة المواصلات والاتصالات والإعلام بعد الحرب العالمية الثانية (وفى ظل مرحلة الحرب الباردة وما شهدت من تنافس بين المعسكرين الشرقى والغربى) تفعل فعلها فى العالم.. وكان من آثار هذه التطورات التاريخية أن بدأت الأفكار اليسارية والثورية تنتشر في العالم بما فيه أمريكا اللاتينية، التى أدى تطورها الاقتصادى ـ بفعل العوامل المشار إليها أعلاه ـ إلى ظهور طبقات عاملة ورأسمالية صغيرة متعلمة أو مثقفة فى المدن.. وكان من نتيجة ذلك بدء انتشار أفكار اليسار ويسار الوسط في بلدان أمريكا اللاتينية..

فكانت ثورة كوبا (1959) بقيادة كاسترو ورفاقه، والتى تأكد انتصارها بعد هزيمتها لأتباع أمريكا المدعومين منها عسكريًا في معركة خليج الخنازير (1961).. ما دَعَم انتشار الحركات اليسارية (السياسية والمسلحة) في بلدان القارة.. ووصل بعضها إلى السلطة عبر الانتخابات (كالحزب الاشتراكى في تشيلى الذى أطاح به انقلاب الجيش بدعم من المخابرات الأمريكية) أو عبر الكفاح المسلح (مثل نيكاراجوا فى الثمانينيات). ووجدت هذه الحكومات (والحركات السياسية والمسلحة) دعمًا من المعسكر السوفيتى، ومن كوبا.. مما أدى لثغرات جدية في هيمنة الولايات المتحدة على القارة اللاتينية.

وبالرغم من هزيمة الاتحاد السوفيتى في الحرب الباردة فإن انتشار الأفكار اليسارية فى أمريكا اللاتينية بمجملها ـ فضلا عن انتشار العداء الجماهيرى للولايات المتحدة بسبب سياساتها الاستعمارية أدى إلى زيادة نفوذ اليسار فى عدد من بلدان أمريكا اللاتينية- على عكس الاتجاه العالمى- مما أدى لوصول قوى اليسار ويسار الوسط إلى السلطة في عدد من بلدان القارة فى أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحالى (تشافيز وحركة البولفارية فى فنزويلا عام 1999/ وإيتو موراليس في بوليفيا/ وكريستينا كيرشنر في رئاسة الأرجنتين لفترتين رئاسيتين/ وخوزيه مونيكا فى أوروجواى..إلخ).

غير أن الضربة الكبري للولايات المتحدة كانت فوز لولا داسيلفا برئاسة البرازيل لفترتين ثم فوز خليفته ديلما روسيف بالرئاسة بعد انتهاء فترته الثانية (على رأس حزب العمال اليسارى).. وتجربة النمو الاقتصادى العاصف في البرازيل، المقترن بتقدم كبير في مجال العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر.

وقد اتجهت كل الدول المذكورة إلى تعزيز علاقاتها بكل من الصين وروسيا، سواء فى المجال التجارى والاقتصادى عموماً.. أو في المجال السياسى.. كما انضمت البرازيل إلي كل من روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا فى مجموعة «البريكس» التي مثلت ظاهرة جديدة مهمة في العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية، اتسمت بسياساتها المناوئة للهيمنة الأمريكية.

وكانت كل هذه التطورات إشارة خطر شديد للولايات المتحدة بتخلخل كبير في سيطرتها على «الحديقة الخلفية» بكل ما تمثله من أهمية لواشنطن.. بل وتحدٍ سافرٍ لنفوذها قوة عظمى.. وهكذا بدأ المخططون الاستراتيجيون الأمريكيون يعدون لهجوم مضاد استراتيجى شامل على الجبهة الأمريكية اللاتينية، سواء من خلال العقوبات الاقتصادية، أو الحملات السياسية والإعلامية الشرسة، بالتحالف مع الأنصار والعملاء المحليين في دول أمريكا اللاتينية.

وكانت أولى الضربات الكبرى في البرازيل، حيث تم إعداد ملف فساد للولا داسيلفا وسجنه بعد انتهاء ولايته الثانية، ثم تم إعداد ملف فساد للرئيسة (ديلما روسيف) وسحب الثقة منها عبر مجلس الشيوخ.. وإحالتها للمحاكمة وتولية رئيس البرلمان (ميشيل تامر) كرئيس مؤقت مكانها، بالرغم من أن اتهامات الفساد كانت تلاحقه هو الآخر!! فضلاً عن الاتهامات بالعمالة للمخابرات الأمريكية!!

وبالمناسبة فإن محاكمة كل من داسيلفا ثم روسيف أحاطت بها شبهات وانتقادات حقوقية كثيرة.. إلا أن ذلك لم يغير من خطة إقصائهما، وإلقاء داسيلفا فى السجن.

وحشدت أمريكا قواها خلف مرشح يميني استطاع الفوز برئاسة البرازيل.

أما في الأرجنتين فإن الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر (المعروفة بمواقفها المؤيدة للفلسطينيين والعرب) تم إعداد ملف فساد لها هى الأخرى بعد انتهاء ولايتيها الرئاسيتين، لتشويه سمعتها، ومنعها من الترشح للرئاسة في وقت لاحق.. وتم رفع الحصانة النيابية عنها (كعضو في مجلس الشيوخ) وإخضاعه للمحاكمة.

ومن ثم بدأ الهجوم الأمريكى الكبير علي نظام الرئيس الفنزويلى (نيكولاس مادورو) خليفة عدو أمريكا اللدود (هوجو تشافيز) الزعيم الفنزويلي الذى فشلت أمريكا في الإطاحة به على مدى نحو 14 عاماً (1999ــ 2013) حتى توفي عام 2013 بالرغم من محاولات الانقلاب والاغتيال العديدة.. وبدأ تصعيد

العقوبات ضد فنزويلا.. ثم اتهام (مادورو) بتزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة (مايو 2019) وتشجيع رئيس البرلمان (خوان جوايدو) الموالى لواشنطن على (عزله) من الرئاسة وتنصيب نفسه (رئيسًا مؤقتًا) حتى دون أخذ تصويت البرلمان!! واعترفت واشنطن بـ(جوايدو) فورًا.. كما أعلنت أنه هو الذى يملك حق التصرف في أموال فنزويلا لدى الولايات المتحدة وفي الخارج عموماً (أكثر من 12 مليار دولار).. كما أعلن ترامب أن كل الاختيارات مطروحة فى التعامل مع (مادورو) بما في ذلك خيار التدخل العسكرى!! كما بدأت أمريكا في حشد الدعم السياسى لـ(جوايدو) على المستوى الدولى، سواء بين أنصارها في أمريكا اللاتينية، أو لدى الدول الأوروبية التي أعلنت اعترافها بـ(جوايدو).

التدخل العسكرى في فنزويلا محفوف بمصاعب كثيرة، مساحة البلاد أكثر من مليون كم2 وجيشها قوى ومسلح جيدًا، ويبلغ عدده 235 ألف جندى.. وهناك مليون و600 ألفا من أعضاء الميليشيات ورجال الأمن الموالين لمادورو، من بين السكان البالغ عددهم (25 مليونا).. أى أن فنزويلا يمكن أن تتحول إلي

فيتنام ثانية في أمريكا اللاتينية، علمًا بأن روسيا والصين تؤيدان مادورو، كما تؤيده المكسيك وكوبا وبوليفيا من بين الدول الإقليمية المجاورة.

لذلك فإن السيناريو الأمريكي المرجح هو إشعال حرب أهلية تخوضها المعارضة ضد حكومة مادورو، ويمكن أن تتخذ من كولومبيا المجاورة لفنزويلا والموالية لأمريكا، قاعدة لانطلاق فرق المعارضة والمرتزقة، وذلك بالتوازى مع كل إجراءات الخنق الاقتصادى والعسكرى.

وأيًا ما كان السيناريو الأمريكى فإن الأزمة الفنزويلية تثير توتراً إقليمياً ودوليًا كبيرا.. وتنذر بدمار كبير لفنزويلا، لكن هذا لا يهم واشنطن، فما يهمها هو النفط الفنزويلى، ومن ورائه أسواق أمريكا اللاتينية وثرواتها الهائلة.. وهو الهدف الكبير الذى يحرّك ترامب وأمريكا كلها.. هدف استعادة السيطرة علي «الحديقة الخلفية» وكنوزها.

مصر للطيران

آخر الأخبار

بنك الاسكان
NBE