الأموال
السبت، 20 أبريل 2024 01:54 مـ
  • hdb
11 شوال 1445
20 أبريل 2024
بنك القاهرة
CIB
الأموال

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرماجد علي

كُتاب الأموال

 د. محمد فراج يكتب : طارق شوقى وقصة ”الفنكوش”.. والعربة.. والحصان (2-2)

الأموال

 

الدروس الخصوصية.. سبب أم نتيجة لفشل النظام التعليمى؟

ناقشنا في الجزء الأول من هذا المقال (الأموال الأحد 3 نوفمبر 2018) بعض أهم الجوانب الرئيسية لخطة الوزير طارق شوقى (لتطوير التعليم) والتي أطلق عليها الوزير صفة القومية.. الخ.. والتى كان واضحًا منذ البداية أنها ليست »خطة« ولا من هم يحزنون بل مجرد مجموعة من الأفكار العشوائية المرتجلة، التى تحلق بنا في سماوات »التكنولوجيا الرقمية« بينما أبناؤنا لا يجدون مقاعد للجلوس عليها فيتزاحمون كالسردين إلى جوار بعضهم البعض، ويفترش بقيتهم الحصير في عديد من مدارس التعليم الابتدائى بالذات.. وفي مدن كبرى كالقاهرة والجيزة والإسكندرية!! بينما توجد مدارس ليس بها دورات مياه.. والمرافق الصحية في أغلب المدارس لا يمكن وصفها بالآدمية.

 

وبعد أكثر من سنة ونصف من المكابرة المتعالية المغرورة افتضح أمر الفشل الذريع للخطة المزعومة، واضطر الوزير للاعتراف بصحة ما نصحه به الناصحون منذ البداية.. وأعلن أن البلاد بحاجة لإقامة 260 ألف فصل خلال ثلاث سنوات بتكلفة قدرها 100 مليار جنيه، وأنه ليس في يد الوزارة غير 100 ألف جهاز تابلت، وأنها تعاقدت علي 150 ألف جهاز، وتنوى التعاقد علي 100 ألف أخرى بمجموع 350 ألف جهاز من أكثر من 700 ألف جهاز مطلوبة لتغطية عدد طلاب الصف الأول الثانوى، المرشح لبدء التجربة..  كما اضطر للاعتراف بضعف البنية التحتية الرقمية في مدارسنا (راجع مقالنا السابق)، (وبالمناسبة فقد كتبنا سلسلة من المقالات حول تفاصيل خطةالوزير في »الأموال« العام الماضى، يمكن الرجوع إليها ليجد القارئ الكريم توقعات تفصيلية بفشل تلك الخطة وأسبابه)..

مؤتمر الشباب بشرم الشيخ كان مناسبة لتسليط الضوء على فشل »خطة« الوزير.. فقد ركز الرئيس السيسى على مشكلة تكدس الفصول، وحتمية حلها.. وأعلن أن البلاد بحاجة ماسة إلى بناء 250 ألف فصل دراسى بتكلفة قدرها 130 مليار جنيه، أى أكثر من تقديرات الوزير بـ30 مليار جنيه، وهو ما يشير إلى عدم دقة حسابات الوزير شوقى، فـ30مليار جنيه ليست مبلغا صغيرا.. كما ذكر الرئيس أن بناء هذا العدد الهائل من الفصول سيستغرق من 3 إلى 4 سنوات، وأن الهدف منه هو الوصول بمتوسط كثافة الفصل الواحد إلي 40 تلميذا (الأهرام ـ 6 نوفمبر).

وبتأمل الأرقام التى ذكرها الرئيس يتضح لنا أيضا أن الأرقام التي تذيعها الوزارة حول تكدس الفصول الدراسية هى أرقام غير صحيحة.. فالوزارة تتحدث عن كثافة متوسطها (45 تلميذا)، وعدد الفصول الموجودة الآن في التعليم قبل الجامعى حوالى 410 آلاف فصل بما يجعل الكثافات تقترب من 55 تلميذا في المتوسط!! بما فى ذلك الفصول الصغيرة جدا في القرى النائية والمحافظات الحدودية والبدوية.. إلخ، وهو ما يجعل الكثافة في المدن الكبري والدلتا والوادى أكبر من المتوسط العام، ويخلق هذا التكدس الرهيب، الذى يستحيل في وجوده ممارسة أى عملية تعليمية أو تربوية طبيعية.. وبصورة أخص فى المدارس ذات الفترتين حيث ينخفض زمن الحصة إلى 35 دقيقة بصورة رسمية، وإلى 30 دقيقة فى كثير من الأحوال (بصورة مزاجية).. وخاصة فى مدارس البنات والمدارس المشتركة، لتنصرف الفتيات ـ فى الفترة الثانية ـ إلى بيوتهن قبل حلول الظلام.. وهذه حقائق يعرفها جميع الآباء والمدرسين في كل مكان ــ عدا الوزير الذى يبيع لنا الوهم ويحلق بنا في سماوات التكنولوجيا الرقمية، واضعا العربة أمام الحصان.

وبالمناسبة فإن الوزير تحدث بصورة غير دقيقة إطلاقا أمام رئيس الجمهورية في مؤتمر شرم الشيخ، حيث ذكر أن »التابلت« سيكون فى أيدى أبنائنا »خلال أيام«!! بينما يعرف الجميع أن كل ما لدى الوزارة فى الوقت الراهن هو 100 ألف جهاز تابلت من 700 ألف مطلوبة فعلا.. وأن هناك استحالة عملية لتوفير العدد المطلوب خلال العام الدراسى الحالى، وتدريب التلاميذ المعلمين عليه، وتوفير البنية التحتية الرقمية المطلوبة لدخوله الخدمة الفعلية (راجع مقالنا في العدد السابق من »الأموال« ـ 4 نوفمبر 2018«).

وقد ذكرنا فى مقالنا السابق أن الوزير شوقى مع افتضاح الفشل الذريع لخطته، تحوّل إلى دغدغة عواطف أولياء الأمور وإلهائهم عن هذا الفشل بالهجوم على المعلمين ومراكز الدروس الخصوصية، وكأنها السبب في كارثة التعليم، وليست نتيجة لها! وكأن اقتراح أقسى العقوبات للمدرسين وأصحاب المراكز هو ما سيحل مشكلة التعليم.

وبدأ التبارى بين أركان الوزارة ولجنة التعليم بالبرلمان فى الهجوم على المعلمين واقتراح أشد العقوبات لهم، مع أننا لو أعدمنا كل المعلمين وأصحاب المراكز المرتبطين بالدروس الخصوصية فإن هذا لن يحل مشكلة التعليم ولن يخفى فشل خطة الوزير.. كما أن السجن لسنوات طويلة (!!) والغرامات الفادحة لن تمنع الدروس الخصوصية فى ظل وضع التعليم المتردى.. ومما يثير الدهشة أن المختلسين والمرتشين وناهبي المال العام يسمح القانون بالتصالح معهم فى حالة ردهم ما استولوا عليه، حتى بعد افتضاح أمرهم وصدور أحكام قضائية بسجنهم.. وهذا خطأ كبير وأحد أسباب تفشي الفساد، إلا أن أصحاب حملة معاقبة المعلمين لم يتسع صدرهم لإمكانية التصالح معهم!

والحقيقة أن أسباب الانتشار الرهيب للدروس الخصوصية عديدة ومعقدة، ومن التبسيط المخل اختزال هذه المشكلة فى »انعدام ضمير« المعلمين، وأنهم لا يشرحون فى الفصل، ثم يأخذون التلاميذ إلى  الدروس الخصوصية فى الخارج.. ويستغلون صلاحياتهم فى وضع درجات أعمال السنة وغيرها من الأمور فى إجبار التلاميذ علي تلقى الدروس الخصوصية.. نعم لا يمكن اختزال المشكلة فى مثل هذه العناصر بالرغم من تسليمنا بوجودها، وإدانتنا  الأخلاقية لها.

فمشكلة الدروس الخصوصية مرتبطة بكل عناصر النظام التعليمى لدينا.. وعلى سبيل المثال فإن التكدس الهائل في الفصول لا يتيح للمعلم ـ مهما كان مخلصًا ـ القيام بواجبه في الشرح وإيصال المعلومات المطلوبة، وبصورة أخص فى فصول (مدارس الفترتين) بحصصها القصيرة.. كما أن التلاميذ لا يستطيعون التركيز والاستيعاب بصورة جيدة في ظل الفوضي الناجمة عن وجود أعداد كبيرة في الفصل الواحد.

كما أن تخلف المناهج، وما بها من »حشو« كثير، واعتمادها على مبدأ الحفظ والتلقين، وليس الفهم والنقاش و(التلقي النقدى) يمثل صعوبات إضافية على التلميذ.. ولن نتحدث عن ضعف المحتوي العلمى، وإيراد معلومات خاطئة والميل مع الهوى الفكرى والأيديولوجى والسياسي المباشر.. إلخ.. فى تأليف الكتب الدراسية..

> ويزيد الطين بلة أن نظام الامتحانات (كمؤشر لقياس مستوى التحصيل) يفاقم من كل هذه المشكلات، ويجنح نحو التعقيد والإغراب فى كثير من الأحيان، فيكون المطلوب من التلميذ هو الحفظ الدقيق، ومعرفة القواعد »الشاذة« قبل الشائعة!! والمعلومات قليلة الأهمية قبل المهمة!! لأن الامتحانات كثيرا جدا ما تجىء علي هذا النحو الغريب، وخاصة فى »الشهادات« التى تقرر مصير الطالب.. وبناءً علي ذلك يكون مطلوبا وجود »خبراء في حل الامتحانات« للحصول علي أعلي الدرجات، والالتحاق بالثانوى العام أو كليات القمة.. إلخ..

وهنا تكون الدروس الخصوصية مطلوبة بشدة لأن كل أسرة تريد لابنها أو ابنتها أفضل الفرص للالتحاق بالمكان المطلوب.. وهذا لا يتأتى إلاّ من خلال الحصول علي أعلي الدرجات، الأمر الذى يقتضى اللجوء إلى »خبراء الامتحانات«.. وهؤلاء ليسوا أفضل المعلمين بالضرورة، وإنما الأكثر تمرسًا بالامتحانات وحيلها.

ثم نأتى إلى المعلمين الذين يتقاضون مرتبات تافهة لا تكفي لأبسط متطلبات الحياة لأسرهم، خاصة فى ظل اشتعال أسعار كل شيء، ويكفي أن نذكر أن المعلم الجامعى حديث التخرج يتقاضى عند تعيينه 1200 جنيه ـ أى الحد الأدنى للأجور ــ وبعد 25 عاما في الخدمة يكون خلالها قد تزوج بمعجزة ما، وأنجب طفلين أو ثلاثة، وغز الشيب رأسه، يتقاضى 2500 جنيه!! ـ أى أقل من ثمن وجبة عشاء في مكان فاخر، يتناولها الواحد من الذين يتمطعون ويطلقون ضده شتى ألفاظ السباب ــ لذلك نجد أن المعلمين يهتمون بالدروس الخصوصية والمجموعات المدرسية.. والذين لا يجدون إلى ذلك سبيلا يزاولون شتى أنواع المهن التي لا تليق بمكانتهم العلمية والاجتماعية »كاد المعلم أن يكون رسولا«.. لكى يستطيعوا الوفاء بالحد الأدنى من متطلبات أسرهم.. فيعملون كسائقى تاكسى أو ميكروباص، أو نقاشين، أو مبلطى سيراميك.. أو جرسونات فى المقاهى!! وغير ذلك من المهن الشريفة.. ولكن غير اللائقة بمكانةالمعلم.

وصحيح أن بعض المدرسين الناجحين فى عالم الدروس الخصوصية يمكن أن يتحولوا إلى مليونيرات، وكثير منهم ميسورو الحال تماما وخاصة من معلمى الثانوية العامة (المدخل الحتمى للالتحاق بالجامعات).. لكن الصحيح أيضا أن أغلب المعلمين ـ وخاصة معلمي المواد التى لا يحتاج فيها التلاميذ إلى دروس خصوصية ـ يعانون من شظف العيش، وتمثل أحوالهم المادية والاجتماعية جريمة فى حق العلم، وفى حق أسرهم، وفى حق المجتمع نفسه الذى يهدر قيمة ومكانة نفر من خيرة أبنائه وأجدرهم بالتكريم والرعاية، لذلك نجد الكثيرين منهم يسعون بكل جهدهم للحصول علي عقود عمل فى مختلف البلدان العربية، ويقبلون بأوضاع غير كريمة، بينما يخسر الوطن جهودهم، وما أنفق في سبيل إعدادهم.

ومعروف أن مرتب المعلم المصرى شديد الضآلة للغاية إذا ما قورن بمرتب زميله فى أى بلد عربي أو أجنبى، كما أنه ضئيل بالقياس إلي مرتبات زملائه الجامعيين في عديد من المهن الأخرى.. كما أن آفاق الترقى محدودة أمامه.

وخلاصة القول أن موضوع الدروس الخصوصية ينبغى النظر إليه في سياق النظام التعليمى ككل.. وليس فقط من زاوية أخلاقية، أو من زاوية إرهاق ميزانية الأسر ـ برغم حدة هذه المشكلة، كما لا ينبغى النظر إليه كسبب لتدهور مستوى التعليم، بل كنتيجة لهذا التدهور قبل كل شيء.

ولهذا السبب أيضا فإن الوزير شوقى قد برهن على عدم صلاحيته كوزير للتعليم، حينما صرح بعد قليل من توليه الوزارة بأن »كل المعلمين لصوص.. ونصفهم على الأقل عديمو الكفاءة«!! فأولا ـ وقبل كل شىء ـ هذه جريمة سب وقذف فى حق فئة من أنبل أبناء هذا الوطن، وحق مهنتهم النبيلة.. وثانيا: إذا كان هذا هو رأى الدكتور شوقي في المعلمين فلماذا قبل تولى وزارة التعليم؟! وهل كان ينوى تطوير التعليم بأناس »كلهم لصوص، ونصفهم عديمو الكفاءة«؟! وهل هذا ممكن أصلا؟ في رأينا أن هذا مستحيل، لأن المعلمين هم أساس العملية التعليمية وأهم عناصرها.. وبدون مشاركتهم الفاعلة لا يمكن إنجاز أى تطوير..

 

مصر للطيران
بنك الاسكان
NBE